محمد رضا شجريان خليفة غوته في هتافه لحافظ

ناضل في عهد الشاه والملالي. يوصف بأنه أعظم مغنٍّ إيراني تقليدي معاصر في الموسيقى الفارسية. الموسيقي والملحن الشهير محمد رضا شجريان -الملقب بالأستاذ- توفي في طهران 08 / 10 / 2020 عن عمر ناهز 80 عاما. وبرحيله خسر العالم أحد أعظم فنانيه. الصحفي الألماني شتيفان بوخِن يرثي شجريان عبر موقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Stefan Buchen

"طائر الصبح … نريد طائر الصبح!". طلبٌ لا بدّ أننا قد سمعناه منبعثًا من حنجرة عمرها ثمانون عامًا، صادحًا بصوت ذي نغمة ما بين شك مفعم بالخوف وترقُّب بهيج - عبر صالة الأوركسترا في مدينة كولونيا الألمانية، وعبر قاعة المهرجانات الملكية في لندن ومسرح تاون هول في نيويورك.

كان من شأن إصرار هذه الحنجرة المُسِنَّة على طلب "طائر الصبح" إثارة خشية من احتمال عدم قدرة صاحبها على رفع صوته. لكن الواقع أن هذه الخشية -ولعقود من الزمن- لم تكن مبرِّرًا بتاتًا لأن ينهي الأستاذ أي حفل موسيقي من دون أن يغني أغنية "طائر الصبح". ولا أحد يتذكر أنه لم يختتم بها إحدى حفلاته الموسيقية.

وفي الختام كان الأستاذ يهتف إلى الخالق والطبيعة الأرضية والسماوية كي يجعلوا هذا الليل صباحًا من أجل أن يخرج "طائر الصبح" من القفص. لم يكن طائر الصبح بتاتًا "قاسي القلب" بحيث أنه لا يبسط جناحيه ولا يتحرَّر من القفص ولا "يُغَرِّد أنغام الحرِّية لجميع البشر"، فقد كانت هذه الإضافة الغنائية تتوِّج الحفل الغنائي وتجدد رفع معنويات الجمهور مُطلِقةً إياهم بـ "شعلة أمل جديدة" إلى أروقة المنفى أو إلى معارك الحياة اليومية في الوطن.

وحتى مَنْ لم يعِشْ هذه الاحتفالية لا بد له من محاولة فهم ما تعنيه وفاة المغنِّي محمد رضا شجريان. فموته يحمل حزنًا ثقيلًا إلى أمة يائسة داخل وطنها على طريق الحداثة الصعب وفي الوقت نفسه مشتَّتة في جميع أنحاء الغرب. شجريان كان يجمعهم كلهم. لا أحد كان يستطيع الهروب من جاذبيّته. لقد كان مصدرًا للهوية الوطنية.

 

 

صوتُه الصادح الجهوري مَهَّد الطريق إلى مصدر فنِّه، إلى نبع الخِضْر، إذا أردنا قول ذلك. كان يمنح الذاكرة الثقافية فضاءً رنينيًّا مفعمًا بالحياة. لقد كان أسطورة قبل وفاته بفترة طويلة. توفي محمد رضا شجريان عن عمر ناهز الثمانين عامًا، يوم الخميس 08 / 10 / 2020 في إيران بعد صراع طويل مع مرض عُضال.

تُعرِّف إيران نفسها من خلال فنِّها وجماليَّتها، مثلما كان يفعل الألمان قبل التحوُّلات السياسية والأخلاقية في القرن العشرين. وقد كان شجريان ممثِّلَ الفنِّ الفارسي المتساميَ عن الجميع وعن كلِّ شيء. وقد أُطلق عليه باختصار لقب "أستاد" (الأستاذ).

تواصل مع الآلات الموسيقية 

اعتلى شجريان مكانته الرفيعة بفضل صوته وتقنياته الغنائية. إذ تفاعلت الموهبة والاجتهاد والفراسة الطبيعية لتنجب صُداحًا صوتيًّا فريدًا من نوعه، سخَّرَهُ شجريان كله في خدمة الموسيقى الفارسية الكلاسيكية، جامعًا ألحانها وأشكالها ومقاطعها، وصاقلاً إياها بدقَّة، عبر تعاونه مع أفضل العازفين.

في الواقع، الموسيقى الفارسية الكلاسيكية غير مصممة للعزف داخل القاعات الكبيرة. فهي ليست كالأوركسترا، ونغمتها الأساسية هادئة وأحيانًا تكتفي بمجرد الهَمْس، وهو ما يتوقَّعه كلُّ مَنْ يدخل "حجرة الموسيقى" في القصر الملكي بأصفهان المشيَّد في القرن السابع عشر. وآلاتها الموسيقية الأساسية هي: الستار والتار والكمنجة والسنطور والدف والناي، التي غالبًا ما تُدَنْدِن بهدوء دون تبجُّح بصوت عالٍ، ثم تنفجر أنغامها كألسنة لهب صوتية قصيرة.

آلات موسيقية كان شجريان يدخل معها جميعًا في تواصل ذي خصائص مميَّزة، في علاقة تواصل لا علاقة "مرافقة"، لأننا إنْ قلنا "مرافقة" فمن شأن هذا الوصف أن يكون خاطئًا، نظرًا لأن شجريان كان يتبادل أطراف الحديث مع هذه الآلات؛ فقد كان يُحبُّها حُبًّا ملموسًا في كلِّ أغنية من أغانيه، المُتَّسِمَة بالتضاد بين همس الآلات الإيقاعي الخافت وقوة صوته الغنائي الصادح، فيُثمِر عنهما توازنٌ مشدود: سحرٌ متناغم لا يمكن نسيانه.

 

خادم الفن التقليدي

من أجمل الحوارات الثنائية التي خلقتها الموسيقى مقطوعة "بيداد" الغنائية، التي قادها شجريان مع عازف السنطور المبدع برويز مشكاتيان (1955-2009). هذا الحوار الطَّرَبيّ بين الغناء والآلة الموسيقية يفتح المجال أمام السياق الأوسع لهذا الفنِّ. وبسرعة نكتشف عند محاولتنا الاستكشاف أنَّ لقبه الفخري "الأستاذ" لقب مُضلِّل، نظرًا لأن شجريان كان يعتبر نفسه -على وجه التحديد- خادمًا للتقاليد من خلال دمجه لنفسه وعمله فيها.

في حوارهما الموسيقي هذا يحوِّل شجريان ومشكاتيان قصيدةً لحافظ الشيرازي (1315 - 1389) إلى لحن غنائي. وهي قصيدة تتمحور حول الحنين، إلى الصداقة المفقودة والسلام الزائل، وتتكوَّن هذه القصيدة من سلسلة من أسئلة استكشافية ثاقبة تزداد باستمرار: ماذا حلَّ بسحابة الربيع وطيور العندليب ومرتشفي النبيذ؟ أين ذهبوا جميعًا؟ يعود تسجيل هذه الأغنية إلى فترة الثمانينيات، إلى زمن الحرب الغنية بالخسائر ضدَّ العراق، وقد فَهِمَ الأهالي هذه المقطوعة الموسيقية على أنَّها تقدِّم المواساة والسلوان وانتشرت انتشارًا واسع النطاق.

يعرض شجريان هنا مبدأً أساسيًا مهمًا في الموسيقى الفارسية، التي تخدم النصّ. فالموسيقى تبعث الحياة في النصّ الخالق للثقافة من خلال منحها إيَّاه أجمل شكل يمكن تصوُّره.

دُفِنَ محمد رضا شجريان يوم السبت 10 / 10 / 2020 في مدينة طوس (مدينة مشهد الرضا) في مساحة المقبرة التي تضم ضريح الشاعر أبو القاسم الفردوسي الطوسي (940-1020). واختيار هذه المقبرة الواقعة في محافظة خراسان يُبيِّن البعدَ التاريخي لهذا الاختيار. فالشاعر أبو القاسم الفردوسي هو مؤلف كتاب "شاهنامه" (كتاب الملوك)، الذي لولاه لما كان للغة الفارسية الاستمرار في الحياة.

حوار مع الشاعر حافظ الشيرازي

في تلك السهوب ذات الأفق الشاسع قد تخطر بسهولة للهاتف المنادي فكرةُ ألاَّ أحد يسمعه سوى الله. هناك وُلد محمد رضا شجريان. لقد وجد طريقه إلى الموسيقى عندما كان صبيَّا صغيرًا من خلال ترتيل القرآن. وانتهى به مساره مغنِّيًا ناضجًا إلى الشعراء، وخاصةً إلى الشاعر حافظ الشيرازي - الشخصية التاريخية الرائدة في الفنِّ الفارسي.

 

حزن على المغني والموسيقي والملحن الإيراني الشهير محمد رضا شجريان -الملقب بالأستاذ- توفي في طهران في 08 / 10 / 2020 عن عمر ناهز الـ 80 عاما. Foto: Tasnim
Trauer um den Großmeister der klassischen iranischen Musik: Im Alter von 80 Jahren ist Mohammad-Reza Schadscharian vergangenen Donnerstag nach langer schwerer Krankheit in Teheran gestorben.Dem kulturellen Gedächtnis bot er einen lebendigen Resonanzraum. Lange vor seinem Tod war er eine Legende.

 

في نهاية كلِّ قصيدة يخاطب حافظ نفسه بنبرة تهكمية في بيتين ختاميين، وكأنَّه يتراجع خطوة عن عمله، وكأنَّه يعلِّق من مسافة معيَّنة على كلماته الخاصة وجهوده الشعرية.

حين يصل شجريان إلى هذا الموضع يتَّضح ما يجعل موسيقاه بهذه الأهمية، حيث لا يعود حافظ يخاطب نفسه هنا، بل إن شجريان هو مَن يخاطب حافظ هنا وعلى المستوى نفسه. لا يمكن لأيّ فنَّان فارسي أن يصل إلى درجة أعلى. يقول في نهاية القصيدة: "اُصمت يا حافظ، فلا أحد يعرف الأسرار الإلهية".

​​​​​​صحيح أنَّ القاعات كانت تمتلئ عند مجيء شجريان لإحياء حفلات في برلين أو كولونيا أو فرانكفورت، ولكن الجمهور الألماني كان يبقى بعيدًا، كان يتوارى في أريافه الفكرية، إن فسَّرنا ذلك تفسيرًا واقعيًا. ومن شأن ذلك أن يترك المكان لذلك الألماني، الذي من شأنه أن يكون المستمع الأكثر جدارة وفضولًا وامتنانًا، إذا أردنا فهم ذلك على منحى صوفي: فماذا كان سيقول [أمير الشعراء الألمان] غوته عن تفسير شجريان لحافظ، أو بصيغة أفضل: ما الذي كانت ستجود به في هذا السياق قريحة غوته الشعرية؟ بِودِّنا معرفة ذلك.

لقد كان غوته يعلم أنَّ قصائد حافظ كانت أغنيات تريد أن يتم غناؤها. وكان يعلم أنَّ هذه الأغاني لديها القدرة على تقديم المواساة والسلوان. يقول غوته في بداية ديوانه الشرقي الغربي:

 

"يا حافظ! إنَّ أغانيك لتبعث السلوى

إبَّان المسير في الشعاب الصاعدة والهابطة".

 

يحظى شجريان من وجهة النظر الألمانية بأهميته الذاتية فيما يتعلق بتاريخ الفنِّ. إذ لم يكن شجريان في هتافه لحافظ -من ناحية علاقته الجمالية به- بأقل من خليفة لغوته.

إنها ملاحظة دقيقة ما كان لِغوته ربما ليملك القدرة على إضمارها في نفسه وممانعة ذاته من البوح بها: فصحيح أنَّ موسيقى شجريان غنية بالتنوُّع، غير أنَّ أنغام موسيقاه وأجواءها تتميَّزان دائمًا بجدية سامية غير متزعزعة. ففي هذه الموسيقى الضخمة لا بد من أن تفنى الظرافة المفعمة بالفكاهة، والتي تومض عادةً في شعر حافظ ويتناولها غوته بشغف.

 

 

لم يتوقف شجريان مطلقًا عند تلحين الأعمال الكلاسيكية الفارسية بل تناول أيضًا الشعر الحديث، وبالإمكان ملاحظة التزام سياسي واضح في اختياراته: فالأغنية الشعبية "طائر الصبح" نشأت خلال الانتفاضات ضدَّ نظام حكم الشاه المطلق قبل أكثر من مائة عام. وكذلك من الملفت للنظر مقطوعة "الشتاء"، وهي تفسير لقصيدة تحمل الاسم نفسه كتبها الشاعر مهدي أخوان ثالث (1990-1929)، وتعكس الحقبة الجليدية بعد الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني الديمقراطي محمد مصدَّق في عام 1953 وترميم النظام الملكي الموالي لقوى خارجية في عهد الشاه رضا بهلوي.

ففي فترة الارتباط السياسي تلك مع الولايات المتَّحدة الأمريكية، والتي رافقتها نزعة تَغْريب ثقافي، كان شجريان الشاب جزءًا من حركة فكرية كرَّست نفسها من أجل "العودة إلى الذات الثقافية". وكان يدافع في الإذاعة والتلفزيون الإيرانيين عن الموسيقى التقليدية، التي كان مقتنعًا قناعةً عميقةً للغاية بأهميَّتها في تكوين الفكر والشخصية. لقد أراد عن وعي وإدراك أن يكوِّن قطبًا مضادًا للتقليد الإيراني لموسيقى البوب الغربية.

 مبدأ الحدود والاستقلال الثقافي

كان شجريان مستمعًا متحمِّسًا وخبيرًا للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية والهندية والشرق آسيوية. كذلك كان قادرًا على أن يستمد شيئًا من موسيقى الجاز. ولكنه كان يتَّبع في نتاجه الفنِّي مبدأ الحدود والاستقلال الثقافي. كانت له تجارب مع البيانو والكمان، بيد أنَّه تخلى عنها بسرعة. كان يرى أنَّ من الغباء بمكان مزج الأساليب والتقنيات الموسيقية ليكون فرصةً للإثراء الجمالي. وقد أدرك أنَّ في ذلك خطرًا يُهدِّد بالتمييع والإفقار. وقيل إنه كان يرى في مصطلح "الموسيقى العالمية" إهانة. وقد ظلَّ السلم الموسيقي الفارسي مرجعيَّته طوال حياته.

مثلما عانى شجريان من زحف الذوق السيئ في عهد الشاه، فقد عانى كذلك من المضايقات المبرَّرة أيديولوجيًا ضدَّ الموسيقيين بعد الثورة الإسلامية. ففي عهد الخميني، كانت الحفلات الموسيقية العامة ممنوعة إن لم تكن تُمجِّد النظام والحرب. وبعد وفاة الخميني، بات يُسمح لشجريان بتقديم حفلات في إيران من وقت لآخر. لا يمكن نسيان ذلك التعليق الساخر المنشور في إحدى الصحف بعد "حفل موسيقي" في طهران عام 2004 من أجل ضحايا الزلزال العنيف، الذي ضرب جنوب شرق إيران، حيث كتبت صحفية ناقدة: "لا بد من أن يموت أوَّلًا آلاف الأشخاص في زلزال حتى يكون هناك سبب جيِّد لكي يُسمح لعشَّاق الموسيقى بالاستمتاع بحفل لشجريان".

 

 

كانت تربطه الكثير من الصداقات مع سينمائيين ناقدين وفنَّانين تشكيليين وكتَّاب. أمَّا هو نفسه فكان يتحفَّظ على التعبير المباشر عن آرائه السياسية. ولكنه خرج عن هذا المبدأ في عام 2009. ففي ذلك الوقت، أدان شجريان في عدة مقابلات القمعَ الوحشي للاحتجاجات المناهضة للحكومة. وكدليل منه على نأيه بنفسه عن النظام، فقد منع الإذاعة الحكومية من بثِّ موسيقاه لفترة. وبقي سالمًا من دون التعرُّض لاعتداءات شخصية مثل الاعتقال والاستجواب. إذ لم يكن الملالي والحرس الثوري يجرؤون على المساس به.

كان الحكَّام ينظرون إلى شجريان طوال حياته بعين الريبة والشكّ كسلطة منافسة محتملة. أمَّا الآن بعد وفاته، فسيحاولون الاستيلاء عليه. هذه عادة مألوفة في إيران. فمن المعروف أنَّ جهاز الاستخبارات كان يُعذِّب الكاتب هوشنك غلشيري (بالفارسية: هوشنگ گلشیری) طيلة سنين في السجن. وبعدما مات، طرق "ساسة الثقافة" باب زوجته من أجل دعوتها للمشاركة في أفلام وثائقية تقديرية حول شخصه وأعماله.

إنَّ الإرث الفنِّي الذي تركه محمد رضا شجريان سيكون أكثر تأثيرًا من الدسائس السياسية. سيكون نموذجًا جماليًا تقتدي به الأجيال. فالمغنُّون الشباب -ومن بينهم نجله همايون- يُقلدونه ويهتدون بأسلوبه وتقنياته. لقد قال غوته قبل إمكانية الإنتاج الميكانيكية للأعمال الفنِّية الموسيقية بردح طويل:

 

اعلموا فقط أنَّ كلمات الشاعر

تحوم دائمًا حول أبواب الفردوس

تطرقها في هدوء

وتطلب حياة الخلود.

 

وكأنَّ غوته كان يتوقَّع أنَّ الفرص تكون أفضل عندما يتم تلحين كلمات الشاعر ببراعة وامتياز.

 

شتيفان بوخِن

ترجمة: رائد الباش / ع.م

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

شتيفان بوخن يعمل صحفيًا تلفزيونيًا لبرنامج بانوراما لدى القناة الألمانية الأولى آيه آر دي ARD. درس اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب.

 

 

[embed:render:embedded:node:17913]