حرب اقتصادية أمريكية نتيجتها حرب فعلية على إيران؟
اختصت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إيران - أكثر حتى من روسيا، أو الصين، أو كوريا الشمالية - بضغوط لا تنقطع على مدار عامين ونصف العام. فقد انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي لعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، وصنفت أحد أفرع الجيش الإيراني (فيلق الحرس الثوري الإسلامي) كمنظمة إرهابية أجنبية، وفرضت عقوبات اقتصادية على ما يقرب من ألف من الشخصيات والكيانات، واتخذت خطوات لجعل محاولات إيران لبيع نفطها مهمة بالغة الصعوبة.
الواقع أن هذه السياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة ناجحة، بمعنى أن أغلب الدول (بما في ذلك تلك التي لا تتفق مع سياسة ترامب) ارتأت أن الحفاظ على العلاقات التجارية والاستثمارية مع الولايات المتحدة أفضل من الحفاظ عليها مع إيران. وقد سجلت صادرات إيران من النفط انخفاضا حادا، ومن الواضح أن عزلتها الاقتصادية حقيقية ومتزايدة.
كما تقلص اقتصاد إيران بنحو 4% في عام 2018 ومن المتوقع أن ينكمش بنحو 6% أخرى هذا العام 2019. وتواصل العملة الإيرانية الانخفاض. وهناك تقارير عن ارتفاعات حادة في الأسعار، ونقص في الغذاء والدواء، وانخفاض في التحويلات المالية إلى حزب الله وغيره من الميليشيات العديدة التي تشكل أهمية مركزية لمحاولات إيران بسط نفوذها في مختلف أنحاء المنطقة.
ضغط أمريكي واضح على إيران ولكن بهدف غير واضح
ولكن إذا كان الضغط واضحا، فإن الغرض منه ليس واضحا. ويبدو أن كثيرين في إدارة ترامب يفضلون تغيير النظام. لكن هذا من غير المرجح أن يحدث. فبعد مرور أربعين عاما منذ اندلعت الثورة التي أطاحت بالشاه، يبدو النظام السياسي الديني الفريد والحكومة الإيرانية قويين بالقدر الكافي لتحمل الضغوط الأمريكية والتغلب على الصعوبات الاقتصادية.
النتيجة الأكثر ترجيحا هي أن الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة ستؤدي إلى حرب فعلية. فقد أوضحت إيران أنها ليست قادرة على استيعاب الألم فحسب، بل وأيضا الاستفادة منه. من شبه المؤكد أن إيران كانت ضالعة في الهجمات على ناقلات النفط في خليج عمان وهجمات بواسطة طائرات بدون طيارين أطلقها الحوثيون في اليمن على أحد المطارات السعودية.
كما أعلنت حكومة إيران اعتزامها التحلل تدريجيا من القيود النووية التي فرضتها عليها خطة العمل الشاملة المشتركة. وفقا للهيئة الدولية للطاقة الذرية، تزيد إيران ببطء من إنتاجها من الوقود النووي. ويبدو أن إيران عازمة أيضا على رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى ما يقرب من الدرجة المستخدمة في تصنيع الأسلحة.
كل هذا يثير خطر اندلاع صراع مكلف بين إيران وواحدة أو أكثر من جاراتها أو الولايات المتحدة. ويكاد يكون من المؤكد أن هذا الصراع سيتصاعد وينتشر، لكي تصبح الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران في حال أسوأ.
عند نقطة ما بين حرب باهظة التكلفة وتغيير النظام غير المرجح يكمن احتمال ثالث، والذي يتطلب استكشاف ترامب للدبلوماسية. فقد غير المسار مع كوريا الشمالية، وبوسعه أن يفعل الشيء نفسه مع إيران.
احتمال ثالث - استكشاف ترامب للدبلوماسية تجاه إيران
كان انتقاد إدارة ترامب لخطة العملة الشاملة المشتركة أقرب إلى الصواب من الخطأ. ففي حين نجح الاتفاق فعليا في الحد من قدرات إيران النووية وزيادة الوقت الذي قد تحتاجه لتطوير الأسلحة النووية، فإن القيود التي قبلتها كانت قصيرة الأمد نسبيا، فمن المقرر أن ينتهي العمل بها على مدار العقد المقبل.
عند تلك النقطة، من الممكن أن تبقى إيران ضمن حدود الاتفاق ومع ذلك تظل قادرة على تجميع كل ما قد تحتاج إليه لبناء مخزون نووي في غضون فترة وجيزة أو دون سابق إنذار. لم يكن هذا مبررا معقولا لانسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، خاصة وأن إيران كانت ممتثلة لها، لكنه يشكل حجة قوية لإعادة التفاوض.
لا تزال الفرصة قائمة. فعلى الرغم من فشل محاولة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الأخيرة للوساطة بين الولايات المتحدة وإيران، تحسنت الآفاق الدبلوماسية، وهو ما يرجع جزئيا إلى حقيقة مفادها أن العقوبات باتت موجعة. وقد أعربت إدارة ترامب عن استعدادها للتحدث مع الحكومة الإيرانية دون شروط مسبقة. حتى الآن، كانت إيران تفرض المحادثات، لكن هذا قد يتغير إذا أشارت الولايات المتحدة إلى أن درجة من تخفيف العقوبات ستكون مطروحة على الطاولة.
الآن، حان الوقت لمثل هذه المفاتحة الدبلوماسية. ولتكن خطة العمل الشاملة المشتركة رقم 2.0. الواقع أن شروط الاتفاق التي تقيد أنشطة إيران النووية -وخاصة أجهزة الطرد المركزي والوقود النووي- سوف تمتد لفترة طويلة في المستقبل. والمفترض أن يقضي الاتفاق المعدل أيضا بتقييد برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني. في المقابل تحصل إيران على التخفيف من العديد من العقوبات التي فرضت عليها.
تغيير السياسة الإيرانية وليس تغيير النظام الإيراني؟
ومن الممكن أيضا أن تضفي الولايات المتحدة الطابع الرسمي على تصريح ترامب بأنه يسعى إلى تغيير السياسة وليس تغيير النظام. ولا يخلو الأمر من فرصة طيبة للمشاركين الأوروبيين في المفاوضات الأصلية -بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي- للمشاركة في هذا النهج، وتقديم اتفاقية معدلة للكونغرس الأمريكي للحصول على موافقته الرسمية من شأنه أن يشير إلى أن الولايات المتحدة لن تنسحب مرة أخرى.
ومع ذلك، ينبغي لبعض العقوبات أن تظل قائمة، نظرا للأنشطة الإيرانية في المنطقة. من حيث المبدأ، ربما يتخيل المرء مفاوضات تعرض إزالة كل العقوبات في مقابل وقف ممارسات إيران في سوريا واليمن، وإنهاء دعمها للإرهاب، وإدخال إصلاحات سياسية ليبرالية في الداخل. لكن هذا لن يحظى بأي فرصة للنجاح. ذلك أن دبلوماسية "كل شيء أو لا شيء" لن تسفر عن أي شيء.
وكما كانت الحال مع جهود الحد من التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، فإن السعي إلى الحد من المنافسة، بدلا من إزالتها، ربما يكون طموحا بالقدر الكافي في بعض الأحيان.
لا يعني هذا أن إيران قد تتمتع بحرية التصرف في المنطقة. فالأرجح أن إسرائيل ستواصل العمل العسكري الموجه لضمان عدم تمكين إيران من ترسيخ وجودها العسكري وبنيتها الأساسية في سوريا بالقرب من حدود إسرائيل، كما فعلت في لبنان. وينبغي للولايات المتحدة أن تحتفظ بوجود عسكري معزز في الخليج الفارسي أو بالقرب منه، والإبقاء على قوات في سوريا، والحفاظ على وجود دبلوماسي وعسكري حقيقي في العراق.
إن الترويج لخطة العمل الشاملة المشتركة رقم 2.0 لن يقود إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، لكنه كفيل بالتقليل بشكل كبير من احتمالات اندلاع حرب أو ظهور إيران كقوة مسلحة نوويا، وهو التطور الذي من المحتمل أن يدفع المملكة العربية السعودية والعديد من الدول الأخرى إلى أن تحذو حذو إيران. الواقع أن الشرق الأوسط مكان خطر بالقدر الكافي بالفعل دون إضافة بُعد آخر أشد إهلاكا إلى هذا المزيج.
ريتشارد هاس
ترجمة: إبراهيم محمد علي
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2019
ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الأمريكية الخارجية، شغل سابقا منصب مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية (2001-2003)، وكان المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي جورج بوش في إيرلندا الشمالية ومنسق من أجل مستقبل أفغانستان.