ماذا نقصد بالضبط حين نتحدث عن الأدب الفلسطيني؟

مَن هو الفلسطيني؟ حوالي عشرين بالمئة من سكان إسرائيل هم عرب: وهم إمَّا مسلمون أو مسيحيون وغالباً ما يقولون عن أنفسهم أنهم فلسطينيون. يعيش كثيرون منهم في المدن الكبرى مثل القدس كما في الصورة هما، أو في مدينة يافا القديمة في تل أبيب.
مَن هو الفلسطيني؟ حوالي عشرين بالمئة من سكان إسرائيل هم عرب: وهم إمَّا مسلمون أو مسيحيون وغالباً ما يقولون عن أنفسهم أنهم فلسطينيون. يعيش كثيرون منهم في المدن الكبرى مثل القدس كما في الصورة هما، أو في مدينة يافا القديمة في تل أبيب.

الناقدة الأدبية الألمانية ميريام شيلباخ تستكشف الماهية الأدبية الفلسطينية المتعددة اللغات ومَن هم كُتاب أدب فلسطين، وذلك من خلال مثال رواية "تفصيل ثانوي" القصيرة للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي.

الكاتبة ، الكاتب: Miryam Schellbach

ذات صباح في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2003، كانت هناك شابة فلسطينية منهمكة في مطالعة صحيفة "هآرتس" اليومية الإسرائيلية. تغيَّرت الشابة بعدما وقع نظرها على مقال يُوثِّق فيه بعد البحث وبالتفصيل صحفيٌ إسرائيليٌ اغتصابًا جماعيًا لفتاة بدوية فلسطينية كانت لا تزال صغيرة من قِبَل جنود إسرائيليين في جيش الدفاع الإسرائيلي يوم الثالث عشر من آب/أغسطس 1949. وكلاهما - الجريمة والمقال - يشكِّلان الإطار الموضوعي لرواية "تفصيل ثانوي" للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي. وكلاهما - الجريمة والمقال الكاشف عنها - ليسا من وحي الخيال، بل هما حقيقيان.

عندما قرأت الشابة الفلسطينية في الرواية حول هذا الاغتصاب، أذهلها أحد التفاصيل - تفصيل ثانوي. فقد وقع هذا الاعتداء والقتل اللاحق بالضبط قبل خمسة وعشرين عامًا من ولادتها، والآن - بعد أكثر من خمسين عامًا، ها هي تقرأ عنهما وتقرِّر تتبُّع القصة. وهي تريد - مثلما يُقال كثيرًا اليوم وبتعبير بسيط - أن تمنح صوتًا لهذه الضحية المجهولة.

غلاف لرواية عدنية شبلي: "تفصيل ثانوي. Cover of Adania Shibli's "Minor Detail", translated into English by Elisabeth Jaquette (published by Fitzcarraldo Editions)
Translated into English by Elisabeth Jaquette, Palestinian novelist Adania Shibli's "Minor Detail" was a finalist for the National Book Award for Translated Literature and long-listed for the International Booker Prize. Shibli talks about what it means that she doesn’t write 'about' Palestine, but rather 'from' Palestine. And why for her, as a writer, so many of the questions surrounding colonisation, dehumanisation and ethno-nationalism come down to language

عدنية شبلي غير معروفة كثيرًا في ألمانيا، وكذلك لا يحظى الأدب الفلسطيني عامةً باهتمام كبير في ألمانيا ولا بدّ من تغيير ذلك بسرعة. ولكن هنا تبدأ مشكلة تحديد ما هو الأدب الفلسطيني أصلًا ومَنْ الذي يكتبه وهل يكتبه الفلسطينيون في الشتات، مثل الفلسطينيين الأمريكيين، أم الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة أم الفلسطينيون المقيمون في دولة إسرائيل ويشكِّلون كمسلمين ومسيحيين عرب على الأقل عشرين في المائة من سكَّانها؟

ومن الصعب أيضًا تعريف الأدب الفلسطيني لأنَّه متعدِّد اللغات. لقد كتب كبار المؤلفين الفلسطينيين مثل محمود درويش وإميل حبيبي بالعربية. ولكن سيد قشوع، وهو من أشهر الكتَّاب العرب في إسرائيل، يكتب رواياته بالعبرية وقد غادر البلاد مؤخرًا إلى أمريكا، وذلك - مثلما يقول - احتجاجًا على الوضع السياسي الخانق.

ولكن يجب أيضًا أن نحسب ضمن الأدب الفلسطني روايات مكتوبة باللغة الإسبانية، مثل رواية "أن تصبح فلسطين" (Volverse Palestina) للكاتبة لينا مروان، التي هاجرت عائلتها من بلدة بيت جالا في ما يعرف اليوم باسم الضفة الغربية إلى تشيلي، التي تضم أكبر أقلية فلسطينية خارج الشرق الأوسط.

التفاصيل تجذب انتباهنا وتثير اهتمامنا

تتحدَّث المؤلفة عدنية شبلي ست لغات وتعيش في ثلاثة بلدان، ويمتد تاريخ عائلتها عبر أربع مناطق ودول تاريخية: الدولة العثمانية والانتداب البريطاني والضفة الغربية وإسرائيل. ولعل ذلك يجعل عدنية شبلي فلسطينية شتات نموذجيةً من الطبقة الوسطى المتعلمة، وهي تعود دائمًا إلى مكان ولادتها. وتُدرِّس بانتظام في جامعة بير زيت الفلسطينية بالقرب مدينة من رام الله.

وكونها قد وُلِدت مثل بطلة روايتها المجهولة الاسم في عام 1974 وعاشت سابقًا في رام الله فهذه مجرَّد تفاصيل ثانوية، لأنَّ هذه الرواية لا تتعلق بألعاب التحري عن سيرة ذاتية؛ بل تتعلق بالسؤال الأكثر أهمية اليوم: لماذا نشعر بأنَّنا قريبون جدًا من مصير شخص ما في لحظات معيَّنة، ولماذا لا يعنينا في لحظات أخرى؟

"قد تبدو هذه نرجسية خالصة، حقيقة أنَّ ما شدَّني إلى تلك الحادثة وجعلها تستحوذني هو مثل هذا التفصيل الثانوي، مقارنة مع تفاصيلها الرئيسية الأخرى، التي يمكن وصفها بالمفجعة"، مثلما تعترف الراوية. ولكنها تشعر بالخجل من دون سبب. التفاصيل تجذب انتباهنا، تجذبنا إليها وتثير اهتمامنا بها.

 

حيث يبدو وضع يد بجيب لأخذ علكة كأنه سحب مسدس

 

يُوَثِّق الجزء الأوَّل من رواية "تفصيل ثانوي" في سرد رصين فاتر الأيَّامَ الثلاثة الأخيرة من حياة الفتاة البدوية المجهولة الاسم. من الصعب تحمُّل كلّ ما يرد فيه، مثل: المسافة الناتجة عن صوت السرد، الذي يلتصق بأحد الجناة، وهو الضابط قائد الكتيبة العسكرية (يبقى مجهول الاسم أيضًا)، الذي تعرَّض للدغة حشرة من المحتمل أن تكون عقربًا في الليلة التي سبقت عثور كتيبته على مجموعة البدو.

ومنذ ذلك الحين يعيش هذا الضابط الأحداث وهو في حالة هذيان: جرحه المُتقيِّح، الذي يخفيه عن جنوده، وكذلك حرارة القيظ الشديدة والقفر في صحراء النقب وغبار يخترق كلَّ شيء وكذلك رغبة جنوده المدمِّرة في ممارسة السلطة. وفي آخر المطاف يتحوَّل هو نفسه إلى مجرم: "انقضّ هو عليها باحثًا بيده عن فمها محاولًا سدّه. عندها أطبقت بأسنانها على يده وعضّته. لكنه بسرعة سحب يده ودفع بالثانية إلى شعرها".

 

دنية شبلي كاتبة فلسطينية ولدت عام 1974 في الجليل؛ تتحدَّث ست لغات وتحمل جواز سفر إسرائيليًا. Adania Shibli speaks six languages, has an Israeli passport and teaches at universities in Nottingham, Paris and the West Bank (photo: Wikipedia)
Adania Shibli speaks six languages, has an Israeli passport and teaches at universities in Nottingham, Paris and the West Bank

تتخلى عدنية شبلي في قصتها عن الإطار التاريخي، ولا تذكر شيئًا حول اتفاقية وقف إطلاق النار، التي كان يجري التفاوض عليها مع مصر في ذلك الحين، وتتجنَّب بذلك عبارة "جريمة حرب"، وهي المصطلح الخطأ دائمًا. ومرة واحدة فقط يقول الضابط إنَّ وحدته تتمركز في الصحراء بهدف تأمين الحدود الجنوبية مع مصر ومن أجل تطهير الصحراء من العرب الباقين. ينتهي الجزء الأوَّل من الرواية بقتل الفتاة البدوية، ولو أنَّ الرواية قد انتهت هنا لكان لا بدّ من اتهام عدنية شبلي بأنَّها قد استغلَّت هذه المعاناة الرهيبة من أجل تأليف عمل أدبي.

تعريف إدوارد سعيد

حاول إدوارد سعيد، وهو فلسطيني من الشتات ومُنظِّر مبكِّر لما بعد الاستعمار، تعريف الأدب الفلسطيني في عام 1986. وتعريفه هذا يبدو تقريبًا كما يلي: الأدب الفلسطيني غير مستقر شكليًا، فهو يحاول التعامل مع "استحالة شبه ميتافيزيقية من أجل تمثيل الحاضر". ويضيف أنَّ الأدب الفلسطيني يتكوَّن من مؤلفات مُجزَّأة "يتعثَّر فيها صوت السرد بنفسه وبالتزاماته وحدوده".

وإدوارد سعيد كتب ذلك قبل أن تصبح عدنية شبلي كاتبةً بوقت طويل. ولكن يُلاحظ في الجزء الثاني من الرواية أنَّ راويتها بضمير المتكلم يتم استبعادها بسبب الالتزام التاريخي والقيود الحالية. وهو التزامها بأن تمنع انتهاء المطاف بهذه الفتاة المقتولة من دون اسم على جبل قمامة التاريخ:

"باختصار، لا جدوى البتَّة من إحساسي بالمسؤولية نحوها، وبأنَّها نكرة، وستبقى نكرة لن يَسْمع أحد صوتها". والقيود المفروضة عليها، لأنَّها بجواز سفرها الفلسطيني مقيَّدة الحركة، فجواز سفر الضفة الغربية يتم تصنيفه في مقارنة دولية إلى جانب الأفغاني والسوري على أنَّه من "أسوأ" جوازات السفر في العالم، أي التي يكاد يكون من المستحيل على حامليها الحصول على تأشيرات دخول لدول أخرى.

تحصل الراوية الباحثة على بطاقة هوية إسرائيلية من زميلة لها، لأنَّها بهويتها الفلسطينية ستتم إعادتها مباشرة عند الحاجز. هذه نسخة فلسطينية من رحلة سفر برية: تسافر هذه الشابة بشكل غير قانوني، أي بجواز سفر مستعار وسيارة مستعارة وبلغة عبرية ركيكة، ليس في مغامرة لاستكشاف العالم، بل من أجل استكشاف منطقة تقع خلف الجدار مباشرة وتبعد فقط من عشرة كيلومترات إلى مائة كيلومتر عن مكان ولادتها.

توجد على مقعد الراكب الأمامي خريطتان - واحدة قبل عام 1948 والأخرى بعد عام 1948. ومحطتها الأولى هي منطقة ميناء تل أبيب بأرشيفها المركزي الخاص بالجيش الإسرائيلي، ولكنها تطلق على ذلك الجزء من المدينة اسم "يافا" باللغة العربية بدلًا من الاسم العبري "يافو". يمكنها أن تخطئ قليلًا بهذه الأسماء فقط إن كانت سائحة. ولكن عدنية شبلي ترسم هنا بلمسة خفيفة وبصورة عابرة حربًا تمتد حتى إلى الأسماء في هاتين اللغتين الساميتين المتشابهتين كثيرًا.

 

 

 

 

وتعلمنا رواية "تفضيل ثانوي" درسًا يفيد بأنَّ في إسرائيل المعتادة على الصراعات لا يوجد أي عمل من دون أن تكون له رسالة ضمنية، ولا توجد أية سمة نمطية ظاهرية أو قطعة ملابس تفلت من التصنيف الديني أو العرقي. وقد يبدو وضعُ يدك بشكل عفوي في جيبك للبحث عن علكة وكأنَّه محاولة سحب مسدس بالنسبة للشخص المقابل لك. ورواية عدنية شبلي لا تنتهي بتصالح، بل تنتهي بخطأ في تفسير تفصيل ثانوي له عواقب وخيمة.

تم ترشيح عدنية شبلي في العام الماضي (2021) لجائزة البوكر الدولية عن الترجمة الإنكليزية لروايتها "تفصيل ثانوي"، وقد نقل المترجم الألماني غونتر أورت دلالاتها العربية المعقَّدة في ترجمة رائعة إلى اللغة الألمانية. وهذه مجرَّد خطوة أولى لأنَّ أعمال عدنية شبلي الأخرى مثل روايتها الصغيرة "مساس"، المترجمة إلى الإنكليزية في عام 2010، ما تزال تنتظر ترجمتها إلى الألمانية.

عدنية شبلي مراقبة للتفاصيل هادئة وباحثة ودقيقة في وسط أصوات صاخبة ومستقطبة تحيط بالصراع في الشرق الأوسط. مَنْ يستمع لها يُحبّ سماعها أكثر. ولحسن الحظّ أنَّ الأدب ليس من واجبه تقديم تحليلات سياسية، ولكن بإمكانه عرض مصائر فردية. ويمكننا أن نتعلم من رواية "تفصيل ثانوي" أنَّ: كلَّ صراع سياسي - سواء كان قريبًا أو بعيدًا من الناحية الجغرافية - يخلق حيوات تصطدم بحدودها الخاصة حتى قبل أن تبدأ حقًا.

 

 

ميريام شيلباخ

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ 2022 / موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de

 

رواية عدنية شبلي: "تفصيل ثانوي" ترجمها عن العربية إلى الألمانية غونتر أورت بعنوان "Eine Nebensache“، صدرت عن دار بيرنبيرغ للنشر، سنة 2022.