أفريقيا بلا أفارقة؟

بعد ثلاثة عقود ونيف، تعود نوبل إلي أفريقيا وإلى ما بعد الكولونيالية. ففي سياق سعى الجائزة إلى ترميم سمعتها بعد سلسلة من الفضائح، مالت الأكاديمية السويدية في الدورتين الأخيرتين إلى خيارات آمنة، و"صائبة سياسياً". بحسب تلك المعايير، يبدو عبد الرزاق قرنح مرشحاً مثالياً، مُسلم وأفريقي لاجئ ومهاجر وكاتب كوزموبوليتاني وأكاديمي ما بعد كولونيالي.

الكاتب، الكاتبة : شادي لويس

في تغطيتها لفوز عبد الرزاق قرنح، بنوبل للآداب هذا العام، تشير الصحافة البريطانية، بوجل، إلى أن آخر فائز أفريقي أسود نال الجائزة، كان النيجيري وولي سوينكا في العام 1986. لا يحتسب فوز المصري (الإفريقي) نجيب محفوظ بعدها بعامين، كونه غير أسود، ولا نادين غوردمير، الجنوب أفريقية البيضاء في العام 1991، وبعدها جي إم كوتزي الجنوب أفريقي أيضاً، والأبيض كذلك في العام 2003. بعض لوائح الفائزين بنوبل تضع كلود سيمون، الفرنسي الأبيض المولود في مدغشقر لأب عسكري، كأول أفريقي ينال الجائزة في العام 1985. كان فوز سيمون، المرتبط اسمه بالرواية الجديدة في فرنسا، حدثاً قد أثار بعض اللغط والكثير من الإحباط، خصوصاً في أفريقيا. بعض اللوائح الأخرى، تضع في قمة الفائزين بالجائزة من أفريقيا، اسم ألبير كامو، الجزائري - الفرنسي في العام 1958.





النظر إلى تلك اللائحة، مشفوعة بالصور، تدفع المرء للتساؤل إن كان هناك سود في أفريقيا جنوبي الصحراء؟ أم أن الأكاديمية السويدية مصابة بنوع خاص من عمى الألوان؟

 



بعد استلام سوينكا للجائزة، استقبلته الجماهير في لاغوس كبطل قومي، يليق بالفائز بـ"كأس العالم للأدب"، الأفريقي والأسود الأول على الإطلاق. لا يبدو الربط بين الرياضة والأدب مقحماً هنا، فانطلاق الفعاليات الثقافية الدولية الأولى جاء على مثال البطولات الرياضة الدولية. فبينالي فينيسيا، المعرض الفني الدولي الأعرق، حين أنطلق في العام 1895، كان محاكاة واعية لبطولات كرة القدم بين الفرق الوطنية في أوروبا. ولم يكن من باب الصدفة فقط، أن يتواكب افتتاح الدورة الأولمبية الأولى في العام 1896، مع الإعلان عن وصية نوبل. الجدير بالذكر أن الفوارق بين الرياضي والثقافي لم تكن بهذا الوضوح في مطلع القرن العشرين، ففي الدورات الأولومبية الأولى كانت تعقد منافسات في الآداب والغناء الرقص، بل وحتى في دورة العام 1921، والتي استضافتها مدينة ستوكهولم دون غيرها، فاز مؤسس الأولمبيات الحديثة، بيير دي كوبرتان، بميدالية ذهبية لفرنسا، وكانت في الشِّعر.



في ذلك السياق، نالت نوبل منذ انطلاقها في العام 1901، وزناً استثنائياً، لا يعود فقط لقيمة الجائزة المالية الكبيرة، بل باعتبارها المنافسة الدولية الأولى عن حق في الآداب، والتي يحكم نتيجتها سويديون "محايدون" (فالحجم الهامشي للسويد في الساحة السياسية والثقافية والأوروبية، كان واحداً من أهم مسوغات القبول بمصداقية نوبل).



فقط في 1986، جاء اعتراف الأكاديمية السويدية بأفريقيا، إلا أن فوز سوينكا بنوبل في ذلك العام، لم يكن سبباً لاحتفاء الجميع في القارة. ففي نيجيريا، أشارت إحدى الصحف إلى الجائزة بـ"غير المرغوب يكرم غير المقروء"، فنصوص سوينكا الغامضة والحداثية كانت تقرأ في بريطانيا أكثر منها في نيجيريا، أما سوينكا نفسه فكان معروفاً في السويد بوصفه معارضاً سياسياً أكثر منه كاتباً. وقد أصاب فوزه الكثير من الدوائر الأدبية الأفريقية بخيبة الأمل، فالتوقعات كانت تعول، على فوز ليوبولد سنغور، شاعر السنغال الكبير وأحد منظري استقلالها، ورئيسها لأول عقدين بعد الاستقلال، وأحد رواد حركة الزنوجة في الأدب الفرانكفوني.

 

فوز عبد الرزاق قرنح عن "سرده الخالي من أي مساومة للاستعمار"

 

مؤلفات عبد الرزاق قرنح
يتميز الروائي عبد الرزاق جرنة المولود في زنجبار والمقيم في بريطانيا بأعماله التي تغوص في آثار الاستعمار والهجرة على الهوية. وقد كوفئ بالجائزة الأدبية الأرقى تقديرا لسرده "المتعاطف والذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات"، بحسب لجنة التحكيم التي أشادت بـ"تمسكه بالحقيقة وإحجامه عن التبسيط". وكان الروائي قد قال في مقابلة أجريت معه في فرانكفورت سنة 2016 "أريد بكل بساطة أن أكتب بطريقة تكون أقرب ما يكون إلى الحقيقة وأن أقول ’ما فيه نُبل‘". وجرنة هو أول كاتب أفريقي ينال نوبل الآداب منذ 2003. وقد ظن الأمر "مزحة" عندما أبلغ بفوزه بالجائزة. وفي مقابلة مع مؤسسة نوبل، دعا أوروبا إلى اعتبار اللاجئين الوافدين إليها من أفريقيا بمثابة ثروة، مشددا على أن هؤلاء "لا يأتون فارغي الأيدي".





منذ منتصف السبعينات، كان سوينكا معادياً بشكل علني لجماليات الزنوجة، وسخر في أكثر من مناسبة من محاولات البحث عن "أصالة" أفريقية غير موجودة. وكان خيار نوبل واعياً بتلك المواجهة بين "ضد الاستعماري" و"بعد الاستعماري"، فاختيار سوينكا لم يكن اعتباطياً، بل مدفوعاً بكوزموبوليتانيته، فهو يستلهم ثقافته المحلية وأساطير مجتمعه داخل "تقاليد أدبية أوروبية" (بحسب بيان الأكاديمية السويدية). وعلى الأغلب، لم يكن دافع الجائزة في خيارها هذا سياسياً، ببساطة كان "ما بعد الكولونيالي" هو الذائقة الجديدة، والأوسع انتشاراً.



بعد ثلاثة عقود ونيف، تعود نوبل إلي أفريقيا وإلى ما بعد الكولونيالية. ففي سياق سعى الجائزة إلى ترميم سمعتها بعد سلسلة من الفضائح، مالت الأكاديمية في الدورتين الأخيرتين إلى خيارات آمنة، و"صائبة سياسياً". بحسب تلك المعايير، يبدو عبد الرزاق قرنح مرشحاً مثالياً، مُسلم وأفريقي لاجئ ومهاجر وكاتب كوزموبوليتاني وأكاديمي ما بعد كولونيالي، وبالإضافة إلى ذلك غير معروف، مما يسمح للجائزة باستعراض أثرها المعجزي، أي تحويل كاتب شبه مجهول إلى واحد من الأكثر مبيعاً، بعقود ترجمات إلى عشرات اللغات.



لكن، وأياً كان خيار الجائزة، فلن يعدم الوسيلة الراغبون في انتقاده. فهل قرنح، ذو الأصول العربية، أسود بشكل كافٍ؟ ولماذا، حين تذهب الجائرة أخيراً إلى أديب أفريقي، يكون مقيماً في بريطانيا وينشر فيها، ويكتب بالإنكليزية، وينتمي إلى طائفة الروائيين-الأكاديميين من أصول عالم ثالثية، في جامعات المراكز الكولونالية القديمة/الجديدة؟ هل كان ذلك التكريم مجرد تأكيد آخر على آليات عمل السوق الرمزي المعولم، والهيمنة الغربية على تنظيمه وهيراركيته، أم إنها محاولة إعادة توزيع أكثر عدلاً لرأسماله المعنوي؟



تظل تلك النوعية من الأسئلة والانتقادات، مثلها مثل الفضائح السابقة، أحد الأركان الأساسية في العمليات التي تعيد بها نوبل إنتاج مصداقيتها. فهي تتضمن افتراضات مسبقة عن المعايير الواجبة للاختيار الصحيح، أي أن كل نقد لخيارات الجائزة يحمل إيماناً بمنطق الجائزة بالعموم، وبحقها، بل وحتى واجبها تجاه تعيين حدود الأبيض والأسود، العالمي والمحلي، ورسم خريطة لجغرافيا السوق الرمزي وتحديد تراتبية القيمة في حقول الثقافة المعولمة. 

شادي لويس

حقوق النشر: موقع المدن 2021

موقع قنطرة يعيد نشر المقال بالاتفاق مع الكاتب