ولادة الموجة الرابعة للحركة النسائية في مصر

فيلم المخرجة الفلسطينية سماهر القاضي "كما أريد" يوثق ولادة الموجة الرابعة للحركة النسائية في مصر من أجل تحرير جسد المرأة. هدى صلاح شاهدت الفيلم لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: هدى صلاح

عرض الفيلم التسجيلي "كما أريد" للمخرجة الفلسطينية سماهر القاضي في إطار مهرجان لأفلام المرأة نظمتها مؤسسة "أرض المرأة" أو تير دي فام في برلين، في نوفمبر 2021. والفيلم يعرض كفاح النساء المصريات خلال الثورة المصرية 2011 ضد التحرش الجنسي والاغتصاب الجماعي المنظم والعشوائي ضد النساء.

والفيلم يبدأ بمشهد حقيقي لاغتصاب جماعي لفتاة مصرية اشتركت في المظاهرات. ويظهر الفيلم غضب النساء وكيف بدأن بتنظيم أنفسهن للدفاع عن أنفسهن خاصة أنهن في هذا الوقت -لعدم وعي المجتمع الكافي لتفشي الظاهرة- لا يستطعن طلب الحماية من الدولة او حتى الأهل، لأن الجميع دائم اللوم للمرأة ولايرون فيها ضحية بل مذنبة ومستفزة للرجال بسبب لبسها أو خروجها في وقت أو أماكن تعرضها للمخاطر. 

أجبرت أهلها لاحقا على احترامها بل والوقوف بجانبها

تربط سماهر ما تتعرض له النساء من عنف في المجال العام، وما بين ما تعرضت له هي في المجال الخاص، في البيت المفترض فيه الحماية. وكيف تعرضت هي من أسرتها للغدر والضرب والحبس بسبب رغبتها في السفر والتعلم، وكيف أنها بإصرارها حررت نفسها ودرست السينما في مصر، بل وكيف أجبرت أهلها لاحقا على احترامها بل الوقوف بجانبها في مسارها الفني. الفيلم ينتهي بإصرار النساء على فضح ما يحدث ضدهن إعلاميا واجتماعيا ومن خلال المظاهرات والفن والرسم.

تبين لنا سماهر كيف أن الثورات العربية هي ثورة نسائية، وأن تحرير المرأة يبدأ من البيت بتربية الأطفال على احترام المرأة، ويمر بالشارع حتى مكان العمل. وتطلب من كل امرأة أن تحمي نفسها بنفسها، حتى ولو بادلت النساء العنف الذكوري بعنف يصل لاستعمال السكاكين لحماية أجسادهن الذي هتك أعضاءه البلطجية. 

عند انتهاء عرض الفيلم وإشعال الأضواء لمناقشة الفيلم، خيم سكون عميق جعل تنفس المشاهدين المثقل بالحزن مسموعاً بوضوح، والعين لم تخطئ الصدمة التي ارتسمت على وجوه الحضور، حيال ما يحدث من انتهاكات يومية ضد المرأة.

فيلم سماهر فيلم رفيع المستوى فنيا وإنسانيا

فيلم سماهر فيلم رفيع المستوى من الناحيتين الفنية والإنسانية. والفيلم وصل لنتائج مثيرة للاهتمام، اُعتُقِد أن سماهر وفي الحركة النسائية لم يكن يهدفن لها، فالفيلم يحوي توثيقاً لأحداث كثيرة من الثورة، وأجملها ولادة الموجة الرابعة للحركة النسائية.

الحركات النسائية والشبابية في العالم العربي هي حامل شعلة التغيير

 

ملصق في جامعة القاهرة المصرية ضد التحرش Ägypten Plakat in der Kairo Universität FOTO DW
تغيير جذري على مستوي الدين والدولة والمجتمع، وحتى على مستوى الأسرة في التربية لوقف العنف ضد المرأة: لقد انتهى تصوير الفيلم عام 2013 ونحن الآن في 2021. خلال تلك السنوات الثمان جنت نساء مصر ثمار كفاحهن. ففي دستور 2014 تم التأكيد على المساواة الكاملة وإلغاء القوانين المجحفة بحق المرأة. الآن تستطيع المرأة المصرية إعطاء الجنسية لأولادها، وتستطيع السفر بدون إذن الزوج ويتم الاعتراف بأولادها وكل حقوقهم حتى لو ولدوا خارج إطار الزواج الرسمي. أيضا صدرت عقوبات رادعة ضد المتحرشين تصل إلى 3 سنوات على الأقل. وفي 2020 تم تأكيد تحريم الختان بل وزاد عليه عقوبة الوالدين والأطباء لقيامهم بجريمة الختان. والأجمل في كل هذا هو تبني الإعلام لهذا الخطاب النسوي وإنتاج برامج كثيره وأفلام مختلفة لرفع حساسية المجتمع فيما يتعلق بجريمة التحرش والعنف ضد المرأة ودفع الرجال للكف عن التحرش. حتى الأزهر أعلى مؤسسة دينية في العالم الإسلامي السني طالب عام 2019 بأن يكون من حق المرأة أن ترتدي ما تريد، وأن المذنب وصاحب السيئات هو المتحرش الرجل، الأمر الذي يعني هنا أن الأزهر يحرر فكرة ارتباط اللبس والحجاب بالعفة، وكذلك تأكيد

 

تؤكد وثائق الفيلم عن غير قصد ما توصلت له أبحاث علمية كثيرة، حول أن الحركات النسائية والشبابية في العالم العربي هما حاملا شعلة التغيير الجذري الاجتماعي والسياسي في العالم العربي. وهذا ما نراه في الفيلم.  

نساء شابات يتجمعن وهن في غاية الحزن بل والغضب من الاعتداء عليهن اليومي قبل وخلال الثورة وبعدها، ونرى كيف تقرر الناشطات مواصلة كفاح جداتهن وأمهاتهن من الحركة النسائية، فهن يرين أنفسهن امتداداً لهن. 

وخلال المظاهرات ضد التحرش تحمل الشابات صور قائدات الحركة النسائية بموجاتها الثلاث السابقة.

نرى النساء من كل أطياف المجتمع المصري، سافرات، محجبات أو منقبات وهن يرفعن صور هدي شعراوي، قائدة الحركة النسائية في عشرينيات القرن الماضي، ومؤسسة أول اتحاد نسائي في عام 1923 الذي كان أهم أهدافه الحصول على حقوق المرأة في العمل والتعليم وحقها في الانتخاب وأيضا متطلباتهن لتعديل قوانين الأسرة وخاصة إلغاء حق الرجل المنفرد في الطلاق وحقه في تعدد الزوجات.

لقد حصلت نساء مصر على تلك الحقوق الثلاثة، أما إلغاء قوانين الأسرة بشقيها الإسلامي والمسيحي واليهودي وإبدالها بقوانين مدنية تضمن المساواة فهي معركة مستمرة منذ أكثر من 100 عام ولم تنتهِ بعد. ويوجد الآن حوار كبير في المجتمعات العربية في تطوير الخطاب الديني.

وتحمل سماهر والنسويات صور قائدات الموجة الثانية مثل درية شفيق، التي اقتحمت مع 1500 امرأة البرلمان المصري 1951، ثم دخلن في اعتصام عن الأكل 1954لإجبار رجال ثورة على تنفيذ وعودهم بإعطاء المرأة المصرية حق الانتخاب واستقلالها بعد تحرر مصر من الاستعمار، وقد نجحن في هذا، بل وفي تبني الدولة الجديدة النسوية الاشتراكية والتأكيد في دستور 1956 على المساواة بين الرجل والمرأة في العمل وحق المرأة في الانتخاب.

حق المرأة في تقرير مصير جسدها

ثم رأينا الناشطات يحملن صور نوال السعداوي رائدة الموجة الثالثة في الثمانينيات من القرن الماضي، وأيضاً كيف بنين المجتمع المدني ومنظمات حقوق المرأة وكافحن ضد العنف الجسدي والأسري ضد المرأة وطالبن بتجريم الختان وجرائم الشرف أو منع الميراث عن المرأة باسم الدين أو التقاليد، وذلك كيف أثبتن أن الختان لا يمارس في معظم الدول الإسلامية وأنه أكثر منه عادات فرعونية وتقاليد أفريقية. 

إنجاز الفيلم تمثَّل في توثيقه لنشاط النساء الشابات في الموجة الرابعة للحركة النسائية، وتركيزهن على الحقوق الفردية والجسدية والجنسية للمرأة، وحقها في تقرير مصير جسدها وأنه يخصها وحدها وأن لا أحد يتدخل في لباسها أو تحركاتها أو خروجها، أي أن المجال العام يخص المرأة أيضاً، وأن عليها مواصلة كفاح جداتها من الموجات النسائية السابقة للحصول على حقوقهن الجنسية. 

الفيلم برغم آلامه يمنح فرحة حقيقية وفخراً لنساء مصر. لقد انتهى تصوير الفيلم عام 2013 ونحن الآن في 2021.  خلال تلك السنوات الثمان جنت نساء مصر ثمار كفاحهن.

ثورة فكرية أيضا داخل الأزهر نفسه

ففي دستور 2014 تم التأكيد على المساواة الكاملة وإلغاء القوانين المجحفة بحق المرأة. الآن تستطيع المرأة المصرية إعطاء الجنسية لأولادها، وتستطيع السفر بدون إذن الزوج ويتم الاعتراف بأولادها وكل حقوقهم حتى لو ولدوا خارج إطار الزواج الرسمي.

أيضا صدرت عقوبات رادعة ضد المتحرشين تصل إلى 3 سنوات على الأقل.

وفي 2020 تم تأكيد تحريم الختان بل وزاد عليه عقوبة الوالدين والأطباء لقيامهم بجريمة الختان. 

والأجمل في كل هذا هو تبني الإعلام لهذا الخطاب النسوي وإنتاج برامج كثيره وأفلام مختلفة لرفع حساسية المجتمع فيما يتعلق بجريمة التحرش والعنف ضد المرأة ودفع   الرجال للكف عن التحرش. 

حتى الأزهر أعلى مؤسسة دينية في العالم الإسلامي السني طالب عام 2019 بأن يكون من حق المرأة أن ترتدي ما تريد، وأن المذنب وصاحب السيئات هو المتحرش الرجل، الأمر الذي يعني هنا أن الأزهر يحرر فكرة ارتباط اللبس والحجاب بالعفة، وكذلك تأكيد الأزهر علي العلاقة الخاصة بين الإنسان وربه، 

وعلى عدم أحقية أحد من أفراد المجتمع بالحكم على الآخر. وهذه ثورة فكرية داخل الأزهر نفسه. 

 

مظاهرة نسائية ضد التحرش الجنسي في القاهرة - مصر. Frauen demonstrieren in Kairo gegen sexuelle Belästigung; Foto: DW/K. El Kaoutit
Ägypter demonstrieren vor dem Opernhaus in Kairo gegen sexuelle Belästigung.

 

من نتائج الحركة النسائية نجاح حركه "وانا كمان" أو Me Tool وإجبار مذيعين ومخرجين ولاعبي كرة قدم بل أساتذة ورؤساء أحزاب على ترك مناصبهم والاعتذار للنساء لأنهم تحرشوا بهن. كل هذا يعد تغييراً راديكالياً في المجتمع المصري.

إذن بفضل الموجة الرابعة للحركة النسائية، حدث تغيير جذري على مستوي الدين والدولة والمجتمع، وحتى على مستوي الاسرة في التربية لوقف العنف ضد المرأة. 

صحيح أن الفيلم يصيب المشاهد بالحزن، وربما بالرعب عما تعايشه النساء في مصر، لكنه في الوقت نفسه يعطي بهجة وأملاً عندما نقارن كيف كان حال النساء قبل أو في أوائل سنوات الثورة، وما آل الحال إليه الآن. 

طبعا مازالت هناك انتهاكات بشعة تحدث بشكل يومي ضد المرأة المصرية، لكن النساء كسرن تابوهات الجسد. نعم هن ما زلن ضحايا العنف والتحرش، لكنهن ضحايا يملكن اعتزازاً كبيراً بأجسادهن، ولا يخجلن منه أو يسكتن على انتهاكه من الآخر، بل هن يجعلن المعتدي والمتحرش هو من يخجل ويعتذر بل ويعاقب.

الثورات العربية هي ثورات نساء

إن المجتمع المصري يتجه الآن نحو علمانية لا تربط احترام المرأة بملبسها أو دينها كما كان في الماضي، والأزهر يدعم خطاباً لاحترام جسد المرأة. إن تلك الثورة الجنسية والتأكيد على حرية الجسد والكلام عن تابوهات مثل ممارسة الجنس خارج إطار الزواج أو حق الأم العزباء في أطفالها الذين أنجبتهم دون زواج أو بالكفالة أو حق النساء في الحياة بمفردهن، بل وأيضا حق الرجال في التعبير عن مشاعرهم والتخلص من الذكورية وتحرير أنفسهم من ضغوط المجتمع المادية على الرجل لنحو مساواة في المسؤوليات والواجبات بينه وبين شريكته.

كل هذا التكسير للتابوهات وتحول للمجتمع باتجاه فتح حوارات ونقاشات، يعد من الدلائل التي تشير إلى نجاح الحركات النسائية في تغيير أفكار وممارسات المجتمع للأفضل.

لقد نجحت سماهر عبر فيلمها "كما أريد" أن تجعلنا نرى أن ثمار هذ الكفاح قطفته نساء كثيرات في العالم العربي، وأن هناك تغييرات تشريعية واجتماعية مشابهة حدثت لصالح النساء العربيات في فلسطين والأردن ولبنان واليمن والمغرب وتونس، من تغليظ العقوبات ضد العنف الأسري. ومن هنا القول بأن الثورات العربية هي ثورات نساء وأنها مازالت ناجحة ومستمرة. 

 

 

هدى صلاح

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 

 

هدى صلاح دَرَسَتْ العلوم السياسية والألمانية في مصر وألمانيا والولايات المتحدة وكندا. حصلت على الدكتوراه في حقوق المرأة من جامعة فرانكفورت الألمانية. وهي محاضرة جامعية ودعاية ومدربة للتربية السياسية اهتماماتها البحثية الرئيسية هي الإسلاموية ودراسات النوع الاجتماعي والنسوية والذكورية والمحظورات في العالم العربي في سياق السياسة والجنس والدين. كما أنها ألفت العديد من المقالات حول الحركات النسائية والثورة في المجتمعات العربية. عملت أثناء الثورات العربية كصحفية وأكاديمية بين مصر وألمانيا. وصدر كتابها النقدي "مشاركة المرأة في الإسلاموية" من قبل دار شبرينغر للنشر.