دور الإسلام الحركي في سوريا تحت المجهر

غلاف كتاب: الثقب الأسود، أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية.
غلاف كتاب: الثقب الأسود، أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية.

يمكن اعتبار كتاب الباحث طارق عزيزة دعوة جدية لدراسة دور الإسلاميين في سوريا وتفاعلاتهم الجوهرية مع النظام السوري. حمّود حمّود في قراءة نقدية للكتاب لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: حمّود حمّود

في كتابه "الثقب الأسود: أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية"، الذي صدر هذا العام عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع في إسطنبول، يثبت الباحث طارق عزيزة أننا أمام ثقب إسلاموي لم يبتلع كثيراً من تفاصيل الحراك الشعبي السوري ويسهم في تعثّر الثورة السورية فحسب، بل ابتلع بعض من يُفترض أنهم على قائمة منتقديه من المتعلمنين الزائفين، حتى غدوا من المدافعين عنه، وقد أشار إلى انزلاق بعض المجموعات السياسية "اليسارية" في أحضان الإسلاميين.

"إخوان ومتأخونون"

يتوزّع الكتاب على مقدمة وأربعة فصول ونتائج ختامية، ورغم أنّه ليس بحثاً أكاديمياً حول الإسلام السياسي السوري، إلا أنه يلقي أضواء نقدية، وأحياناً موضعية، في كثير من محطاته على مسار الإسلاميين ومساهمتهم الجوهرية في تدمير الحراك السوري، سواء من الناحية السياسية (من خلال الإخوان المسلمين وتشابكاتهم مع المعارضة السورية) أو من الناحية العسكرية (والدور الكبير للتيارات الجهادية بتنظيماتها المتعدّدة).

في فصله الأول يبدأ الكتاب بمناقشة عدّة قضايا نظرية تتناول في بعض محطاتها التمييز بين الإسلام كدين وبين الإسلام السياسي كأيديولوجية سياسية تحاول خطف الدين الإسلامي وتسييسه. ويتطرق لمسائل متعلقة مثلاً بالآداب السلطانية وجذورها المؤسّسة لخطاب الإسلام السياسي والتطرف المذهبي وما إليه، فضلاً عن تناول مسألة الإصلاح الديني، حيث يشدّد هنا على ضرورته القصوى والذي سيبقى "قاصراً ناقصاً ما لم يشمل الجميع: السنة والشيعة وما بينهما من فرق ومذاهب دون استثناء" (ص39).

أما الفصل الثاني (في أسلمة الثورة السورية)، فقد بدا أكثر عمليةً ومباشرة، بل ومتعة في تناوله العلائق المتشابكة بين الأيديولوجيات الإسلاموية لسيد قطب وغيره في منتصف القرن العشرين، وتأثير هذا على الفضاءات الإسلاموية السورية، ثم تطورها ضمن فضاءات الجهاد العالمي. هكذا ليناقش، من ثم، هيمنة خطاب الإسلاميين على الثورة السورية بتواطؤ فئات كثيرة من المعارضة السورية.

من النقاط الأساسية التي ينيرها الكتاب في هذا السياق (وأجدها إحدى إطلالات الكتاب المهمة) هي الارتباطات التاريخية بين تنظيم الإخوان المسلمين السوريين وبين فضاءات الجهاد الأفغاني، حيث يراجع بعض أدبيات الإخوان لمنظرين (مثل سعيد حوى)، أو قياديين (عدنان سعد الدين ) التي تكشف اتصالات قيادات الإخوان بالجهاد الأفغاني، وتزامنها مع الحرب بين النظام السوري وتنظيم الطليعة المقاتلة. وأعتقد أن تسليط الكتاب الضوء على هذه المحطة الإخوانية، وإن كان جزئياً، مهم جداً إذا ما أردنا فعلاً فهم السياق العام للسبعينيات والثمانينيات الذي ترك بصماته العميقة إلى لحظاتنا هذه، وخاصة حينما يحاول الإخوان ومعهم أصوات من المتأخونين حديثاً تصوير الثورة السورية وكأنها امتداد قسري للثورة الإسلامية الإخوانية في تلك المرحلة التاريخية من التاريخ السوري.

 

مظاهرات في سوريا ضد رئيس النظام السوري بشار الأسد.  Demonstrationen gegen Bashar al-Assad Präsident Syrien Foto Reuters
"تصوير الثورة السورية وكأنها امتداد قسري للثورة الإسلامية الإخوانية": "أعتقد أن تسليط الكتاب الضوء على هذه المحطة الإخوانية، وإن كان جزئياً، مهم جداً إذا ما أردنا فعلاً فهم السياق العام للسبعينيات والثمانينيات الذي ترك بصماته العميقة إلى لحظاتنا هذه، وخاصة حينما يحاول الإخوان ومعهم أصوات من المتأخونين حديثاً تصوير الثورة السورية وكأنها امتداد قسري للثورة الإسلامية الإخوانية في تلك المرحلة التاريخية من التاريخ السوري"، كما يكتب حمّود حمّود.

 

النقطة الثانية المهمة في هذا السياق هي رصدُ الكتاب مسارات الأسلمة للثورة السورية منذ بداياتاها. وهنا، لا يقع الكتاب في التبسيطات التي نقرؤها أحياناً والتي تصف الأسلمة كما لو أنها فعل جوهري في الذات التي انتفضت ضد نظام الأسد، بل يرى إليها بوصفها "ظاهرة طارئة" (ص98) بفعل عوامل عديدة. لكنّه لا يتوسّع في شرح العوامل، ويكتفي بالإشارة إلى عسكرة الثورة جهادياً ومسائل أسماء الجُمَع الإسلامية التي زينت الحراك السوري وأعطته وجهاً إسلامياً والتي ساهمت أيضاً في تطييف خطابه. وهنا ينتقد الكتاب المعارضة السورية لا بسبب سكوتها فحسب على مظاهر الأسلمة، بل كذلك مساهمتها فيها.

"مجانين الجهاد، سنة وشيعة" و"صراع الإسلاميين على الإسلام"

أما الفصل الثالث (صفحات من سيرة إسلاميين في الثورة السورية)، فقد بدا أكثر تخصّصاً في معالجته التي تطرقت إلى اثنين من أهم التنظيمات الجهادية السورية، وتحديداً "جبهة النصرة" و"جيش الإسلام"، هذا فضلاً عما اعترى حراس الجهاد هؤلاء (أو ما يسميهم الكتاب عن حق "مجانين الجهاد، سنة وشيعة") من صراعات بينية وعسكرية، أحبُّ أن أُطلِق عليها "صراع الإسلاميين على الإسلام".

وأخيراً، يبدو الفصل الرابع (التوظيف السياسي للدين في المجتمع السوري خلال الحكم الأسدي)، وقد اعتراه بعض التكرار لأفكار سبق للكتاب التأكيد عليها في كثير من مواضعه. بيد أنه يعالج بشكل مهم المسألة الطائفية، ويضيف ملحقاً صغيراً حول العلويين السوريين وبعض الجوانب التاريخية المتعلّقة بدورهم في التاريخ السوري المعاصر، ثم استخدام النظام لهم في سعيه لتثبيت سلطته. ولا ينسى الكتاب التشديد على نقض مقولة "عَلويّة" النظام السوري التي أشاعها بعض المثقفين السوريين، ويذهب لتأكيد الاستثمار الطائفي للنظام في العلويين واستغلاله لهم، لا من خلفية طائفية، بل سلطوية ارتهن بها الطائفة. وفي الفصل الختامي، يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها التمييز بين ثورتين شهدتهما سوريا، الأولى سورية شعبية سلمية تنشد الديمقراطية، والثانية إسلامية جهادية ذات مشروع ديني تسلّطي، تكاملت مع جهود النظام لإجهاض الثورة الأولى، السورية.

هذه بعض المواضيع المهمة التي تطرق إليها الكتاب، ولا يمكن هنا الإحاطة بكل ما أتى عليه. بيد أن هناك نقاطاً يلزم التعليق عليها، لا أعتبرها نقداً للكتاب بمقدار ما هي أسئلة يمكن التوسع بها لاحقاً.

النقطة الأولى اصطلاح "الإسلاميين" نفسه، الكتاب قائم بجوهره على تناول نقدي للإسلاميين في السياق السوري (وهو قد تعنون به)، وبالتالي كان من المركزية بمكان تقديمه ببضع من الصفحات حول ما الذي يعنيه بهذا الاصطلاح، والزاوية النقدية والمنهجية التي ينطلق منها في معالجته للاصطلاح والظاهرة المتطرّق إليها في الكتاب، بدل الاكتفاء بالتمييز بينهم وبين المسلمين، على نحو ما سار الفصل الأول (دين المسلمين وأيديولوجيا الإسلاميين).

خلط بين الإسلاميين الدعويين وبين الجهاديين

فالاصطلاح بقي مبهماً نسبياً، مما يسبب الخلط بين الإسلاميين الدعويين وبين الجهاديين كالقاعدة مثلاً. صحيح أن الفضاءات الأيديولوجية والمظلة الأصولية مفتوحة ومائعة بين الظاهرتين، الجهادية والإسلاموية (والاتصالات بين الإخوان السوريين والجهاديين الأفغان مثال مهم تطرق إليه الكتاب)، بيد أن الإسلامي حينما يتحول إلى جهادي أو العكس، فإن مساراته الفكرية والحركاتية تشهد بعض الانزياحات والتبدّلات، فهذا التحول يفرز مسارات سوسيولوجية ودينية مختلفة تماماً (الجولاني مثلاً)، وحتى الأولويات والقيم تختلف بين الظاهرتين الإسلاموية والجهادية (مثل التبجح الإخواني بالديمقراطية وكفر الجهاديين بها)، رغم القرابة بين الكل. فلا يمكن التعامل مع الإخواني وظاهرته الإسلاموية بالطريقة نفسها لتعاملي مثلاً مع الظواهري، رغم أن هذا الأخير قد خرج من عباءة الإخوان، وقل الأمر نفسه على شخصيات سورية تقارب هذه النماذج.

النقطة الثانية هي إشارة الكتاب إلى مسألة الإصلاح الديني والإسلام السياسي، والتأثير الكولونيالي، سلباً وإيجاباً، في هذه المسألة، وتذكيرنا برواد الإصلاح الإسلامي في مسار ما يسمى بالنهضة العربية، من غير إظهار الرابط الجوهري بين فشل هذه الأصوات وبين الإسلام السياسي.

الملاحظ أنّ الكتاب احتفى بهذه الأصوات إلى حدّ ما، من غير قراءتها نقدياً في سياقها التاريخي، في حين أرى إحدى إشكالات خطاب الإسلام السياسي (إضافة إلى الإشكال الكولونيالي) هي أساساً مشكلة الخطاب الديني الإسلامي نفسه، وخاصة ذاك الذي يدعى بـ «الإصلاحي»، فخطاب الإسلام السياسي هو في عمقه، وفي معظم مراحله، لم يُمثّل سوى «الواجهة السياسية» للخطاب الديني، أو قلْ لفشله.

من الصعب نقدياً، فصل الخطابين عن بعضهما، وخاصة في لحظات التأسيس في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ذلك أنّهما لم يُشكّلا، عمقاً، سوى نظائم دينية متقاطعة. وفوق ذلك، لم يُشكّل الخطاب الإسلامي (سواء دُعي بـ «الإصلاحي» أم لا)، سوى الحاضن المعرفي والإيديولوجي لحركات الإسلام السياسي، وتحديداً الإخوان المسلمين. لدينا إشكال إلى هذه اللحظة حول معنى «الإصلاح»: كيف يتحول هذا الإصلاح بلحظة إلى أصولية؛ كيف أنّ سلفياً أصولياً مثل محمد رشيد رضا يخرج من «جبّة الشيخ» محمد عبده (وليس صحيحاً أنه «انقلب» على إصلاحيته في كتاباته العشرينية)، وسيد قطب يخرج من جبة الإصلاح والمودودي، والخميني من نظيمة علي شريعتي إلخ. هؤلاء الأفراد لا يمثلون ظواهر منعزلة بعضهم عن بعض ولا حتى عن السياق الثقافي الإسلامي المتأزم الذي اصطدم بالحدثة لا من «داخلـ»ـها، بل من «خارجـ»ـها.

 

مظاهرة مؤيدة للأسد في سوريا. Pro Assad Demo in Syrien Foto Reuters
"الاستثمار الطائفي للنظام في العلويين واستغلاله لهم": الكتاب "يعالج بشكل مهم المسألة الطائفية، ويضيف ملحقاً صغيراً حول العلويين السوريين وبعض الجوانب التاريخية المتعلّقة بدورهم في التاريخ السوري المعاصر، ثم استخدام النظام لهم في سعيه لتثبيت سلطته. ولا ينسى الكتاب التشديد على نقض مقولة "عَلويّة" النظام السوري التي أشاعها بعض المثقفين السوريين، ويذهب لتأكيد الاستثمار الطائفي للنظام في العلويين واستغلاله لهم، لا من خلفية طائفية، بل سلطوية ارتهن بها الطائفة. وفي الفصل الختامي، يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها التمييز بين ثورتين شهدتهما سوريا، الأولى سورية شعبية سلمية تنشد الديمقراطية، والثانية إسلامية جهادية ذات مشروع ديني تسلّطي، تكاملت مع جهود النظام لإجهاض الثورة الأولى، السورية"، وفق ما يكتب حمّود حمّود.

 

مسألة العلمانية – "دعوة الكتاب غير المباشرة للاقتداء بما حدث للمسيحية" – ولكن ...

أمّا النقطة الأخيرة، فهي تتعلّق بحديث الكتاب عن العلمانية، حيث وردت فيه دعوة غير مباشرة للاقتداء بما حدث للمسيحية، نقلاً عن جورج طرابيشي، ص229، كونها "اكتشفت، بعد طول مقاومة، أن العلمانية أفادتها في استعادة بعدها الروحي بعدما كانت جرت مصادرته على مدى قرون، لحساب البعد الزمني." هنا يمكن السؤال حول معنى استعادة المسيحية لبعدها الروحي من خلال العلمانية، وهل هذا ما جرى فعلاً مع المسيحية؟ أعتقد أن المقصود هو حصراً النأي بها عن السياسة، بيد أن المسيحية بحد ذاتها كدين لم يتم إصلاحه، حتى أن كثيراً من المؤرخين وصفوا القرن التاسع عشر، حيث ذروة الحداثة الأوروبية، بـ "القرن الطائفي" بسبب بدايات ولادة أشكال طائفية وأصولية مسيحية، وخاصة من العمق الإنجيلي البروتستانتي، الذي يفترض أنه سعى لتهديم السلطة الكاثوليكية. أما مسألة العلمانية، فقد أجبرت إجباراً، كما يقول أوليفيه روا، المسيحية على التخلي عن سلطاتها وأملاكها العامة لصالح سلطة الدولة (وهذا كان في فرنسا 1920)، وليس بسبب إصلاح بداخلها.

مؤكّد أنه ليس على الكتاب البحث بهذه الجوانب. بيد أنني رأيت الإشارة إليها من أجل بحثها لاحقاً وإغناء الأسئلة المركزية التي يطرحها الكتاب، والذي يمكن اعتباره في النهاية دعوة جدية مهمة لنا لأن نمعن في استحقاقات "الثقب الأسود" الإسلاموي وتفاعلاته الجوهرية مع النظام السوري، مما يدعونا إلى معاودة الأسئلة التي تصب في صميم تأزمنا.

 

حمّود حمّود

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de

 

حمّود حمّود كاتب وباحث سوري