الثورة تولد من رحم الأحزان

في حي بيروتي محطم احتشد لبنانيون حول أيقونة الغناء ماجدة الرومي والدموع في عينيها وهي تقول إن تضامن الناس يلهمها ويجعلها تنشد: "إن الثورة تولد من رحم الأحزان"، فقد بلغت روح التضامن حدا عظيما في بيروت بعد الانفجار الضخم الذي هزها ووَحّد غضب اللبنانيين على النخبة السياسية. وبينما يتعاون متطوعون في إزالة الأنقاض والحجارة عن المنازل المتحطمة ينشغل الساسة في صراعاتهم ويتحمل المواطنون عبء إعادة الإعمار. الصحفية الألمانية يوليا نويمان شاهدت شوارع بيروت ونقلت الصورة لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Julia Neumann

تحت شرفة منزل أصفر فاتح اللون ذي قناطر بيضاء، تقف سابين سويدي بجوار كومة من الأنقاض والطوب. "يقال إن بيروت قد سويت بالأرض عدة مرات. أعتقد أنها المرة الثامنة الآن، إلا أننا سنعيد بناءها بأنفسنا"، تقول سابين، طالبة العلوم السياسية البالغة من العمر 23 عامًا. وتعمل سابين مع متطوعين آخرين منذ الصباح على إفراغ المنزل من الأنقاض والرماد وبقايا الجدران؛ ويعد هذا المنزل أحد أقدم المنازل في حي مار مخايل، أحد شوارع التنزه المعروفة في بيروت. تقول سابين: "تعود ملكية المنزل لامرأة عجوز ولأحفادها، وقد كانوا لتوهم قد جددوا المنزل قبل الانفجار".

وقد أبدت سابين غضبها بشكل خاص تجاه النخبة السياسية في لبنان، وأضافت قائلةً: "نحن نعيش غياب الحكومة، وهذا ما يدفعنا للضلوع بالمهام الملقاة على عاتقها، فمن غيرنا إذاً سيقوم بتنظيف بيروت؟ "، تضيف بنبرة غاضبة.

بتاريخ الرابع من شهر آب / أغسطس 2020، بتوقيت الساعة السادسة وثمان دقائق مساءً، انفجر ما يصل وزنه إلى 2750 طنًا من نترات الأمونيوم في ميناء العاصمة اللبنانية. وقد لقي أكثر من 150 شخص حتفهم، وأصيب ستةُ آلاف آخرون، كما فقد نحو ربع مليون شخص منازلهم في غضون ثوانٍ؛ ويواصل الأقارب وفرق الإنقاذ البحث عن المفقودين.

فعلى الأرض يتناثر حطام النوافذ وشظايا الزجاج، وقد ألقت موجة الضغط الناتجة عن الانفجار بالكراسي وبإطارات الصور وبأواني الزهور من داخل البيوت إلى الشوارع؛ أما في داخل المنازل فتتموضع الأبواب على الأسرّة، وتتكدّس الأباجورات على الألواح الخشبية، وتتناثر بقايا الجدران والملابس وسواها من الأمتعة والممتلكات الشخصية.

 

حي الجميزة  - أعمال تنظيف بعد انفجار مرفأ بيروت - لبنان.Foto: Julia Neumann
Teile von Beirut liegen in Schutt und Asche. Bei den Aufräumarbeiten sind die Libanesen vor allem auf sich selbst angewiesen, aber ein starker Überlebenswille hilft den Menschen auch jetzt. „Es gibt einen Spruch: Beirut lag viele Male am Boden. Ich glaube, es ist inzwischen das achte Mal, aber wir bauen es selbst wieder auf“, sagt die 23-jährige Studentin Sabine Soueidy.

 

وقد تضررت المناطق الأكثر فقرًا في بيروت، مثل حي الأرمن والمباني السكنية في منطقة الكرنتينا، الواقعة بالقرب من الميناء مباشرةً، بالانفجار؛ كذلك كان الحال بالنسبة للأحياء التي لحقت بالحداثة وأصابها الغنى، مثل الجميزة والأشرفية ومار مخايل، المعروفة بفيلاتها القديمة وبباراتها الحديثة وبمطاعمها الأنيقة.

أما الطريق الطويل المار عبر مار مخايل، المعروف بالفعاليات المتنوعة التي كانت تعقد فيه، فقد تم إغلاقه في اليوم التالي للانفجار؛ ولا يبعد هذا الطريق أكثر من مسافة تقدر بـ 600 متر على الخريطة عن المستودع الذي انفجرت فيه نترات الأمونيوم؛ وعلى الشارع نرى شظايا الزجاج المتناثرة، وامرأة تعيد خزانة ذات دروج من الرصيف إلى متجر الملابس الخاص بها؛ وفي متجر آخر للجينز، ينفض الموظفون الغبار عن سراويل الجينز؛ وفي فرع أحد البنوك، ينتزع العمال لوحًا كاملًا من الزجاج المحطم من إطارات النوافذ.

وليس بعيدًا عن هذه الطريق، يكنس توفيق أبو خليل الزجاج المحطم إلى كومة ثم يسكبها في سطل. يبلغ هذا الرجل من العمر 78 عامًا، ويعمل في مجال تزويد المطاعم بمكيفات الهواء وأجهزة المطبخ؛ وقد حطمت موجة الضغط الناتجة عن الانفجار العديد من الآلات في متجره؛ ويقدر الأضرار التي لحقت به بما يقارب 47 ألف يورو. ويقول: "اعتزم تصليح المتجر فقط لكي أبيعه، وبعدها سأغادر". وقد كان أبو خليل ينوي السفر إلى كندا قبل حدوث الانفجار لزيارة أبناءه الخمسة هناك، ومن ثم العودة إلى لبنان؛ إلا أنه ما لبث أن غير خططه بعد الكارثة، إذ يريد الآن مغادرة البلاد بلا رجعة. يسأل بغضب: "ماذا يفترض بي أن أفعل هنا؟ ".

 

............................

طالع أيضا

إلياس خوري يعري مافياوية نخبة لبنان الحاكمة

لبنان الجريح - هذه ليست بيروت

لهذا تأزم لبنان وانزلق إلى فوضى اقتصادية

خليط سام من المحسوبية والطائفية يهدد مستقبل لبنان

أكثر من نصف سكان لبنان باتوا فقراء

رائحة بيروت - نفحة العشق ومتن الفكر وصوت فيروز

..............................

 

"الحكومة هي الجهة المسؤولة عن الكارثة"

وقد عانى اللبنانيون حتى وقوع الكارثة من تبعات جائحة كورونا ومن الأزمة الاقتصادية؛ وفقد الآلاف وظائفهم، كما خسرت الليرة اللبنانية ما تصل نسبته إلى 80 في المئة من قيمتها. ويتنامى في هذا الوقت خوف من حدوث نقص في الأغذية. ويعتمد لبنان على واردات القمح والبنزين والأدوية، ويمر ما تصل نسبته إلى 60 في المئة من الواردات عبر ميناء بيروت. وقد دمر الانفجار مستودعًا للقمح وللأدوية، ونجم عنه حفرة كبيرة يبلغ قطرها 200 متر.

 

 

لم تكن هذه الشحنة الخطرة متجهة أصلًا إلى بيروت. ففي خريف العام 2013، أبحرت السفينة "روسوس" من جورجيا إلى موزمبيق حاملةً هذه الشحنة الخطرة، إلا أنها ما لبثت أن أُوقِفت في بيروت بسبب عيوب فيها. وقد تم تخزين هذه المواد المستخدمة في صنع المتفجرات في ميناء بيروت بدون اتخاذ احتياطات أمنية مناسبة. وقد ذكر القبطان السابق للسفينة، بوريس بروكوشيف، أن السلطات اللبنانية كانت "تدرك تمامًا" خطورة الشحنة، وقال لوكالة الأنباء الأمريكية أسوشييتد بريس إن " الحكومة هي الجهة المسؤولة عن الكارثة".

وحمّل سعد الحريري، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء ما بين عامي 2016 و 2019، الحكومةَ اللاحقة، التي باشرت مهامها في شهر يناير/كانون الثاني 2020، مسؤولية حدوث الانفجار. وقد تسبب هذا الانفجار باعتقال 16 شخصًا من موظفي الميناء. وكان مسؤولو الجمارك قد لفتوا الانتباه مرارًا إلى خطورة الشحنة. إلا أن السؤال الذي يبقى بلا إجابة واضحة: لماذا لم يتم اتخاذ أي إجراء رغم ذلك. لعل مرد ذلك كون الميناء والجمارك من بين المؤسسات الأكثر فساداً وإدرارًا للمال للنخبة السياسية، حيث يخضع الميناء لنفوذ الفصائل والسياسيين وحزب الله.

وقد خرج مئات الآلاف من اللبنانيين إلى الشوارع في خريف العام الماضي 2019 للتظاهر ضد سوء الإدارة، وانتقدوا سياسيّيهم بسبب المحسوبية والفساد، ودعوا إلى الثورة. فقد ضاق اللبنانيون ذرعًا بالنخبة القديمة التي تتمسك بالسلطة منذ نهاية الحرب الأهلية قبل 30 عامًا. ففي الوقت الذي تسري فيه شائعات عن الهدية الباذخة التي قدمها رئيس الوزراء سعد الحريري لعارضة بكيني جنوب أفريقية، تبلغ قيمتها 13.5 مليون يورو، يعاني اللبنانيون من انقطاع التيار الكهربائي، ويضطرون إلى شراء مولدات كهربائية باهظة الثمن لتأمين إمدادات الكهرباء. ويبلغ العجز السنوي لشركة الكهرباء الوطنية حوالي 1.7 مليار يورو، وقد وصلت مدة انقطاع التيار الكهربائي قبل حدوث الكارثة إلى 3 ساعات يوميًا على الأقل.

 

 

والآن، وفوق ذلك كله، تسبب الانفجار بضياع ذكريات الماضي، وبدمار المنازل، وبالصدمة والحزن. وهذا ما يُشعل غضب اللبنانيين. وقد ظهر وزير التربية والتعليم (المستقيل حاليًا) طارق مجذوب أمام باب يحمل مكنسة يوم الجمعة (7 آب/أغسطس 2020)، فقوبل بهتافات تطالبه بالاستقالة من منصبه.

أيقونة غنائية مصابة بأعمق الجروح

وفي حي الجميزة المحطم، استقبل العديد من اللبنانيين المطربة ماجدة الرومي والدموع في عينيها. وقالت ذات الـ 64 عامًا أمام حشد من المساعدين والصحفيين أن تضامن الناس يلهمها ويجعلها تنشد: "إن الثورة تولد من رحم الأحزان"؛ وهذه العبارة هي مقطع من أغنيتها الشهيرة "يا ست الدنيا، يا بيروت". وفي الأول من آب/أغسطس 2020، أي قبل ثلاثة أيام من حدوث الانفجار، أنشدت الرومي هذه الترنيمة لبيروت خلال حفل تأبين افتراضي للجيش اللبناني، إلا أن العبارة أعلاه لم تنجُ من الرقابة، فكان على جوقتها أن تدندن لالالا عوضاً عنها. وقد أكدت الرومي خلال تواجدها مع الناس في الشارع أنه لا يمكن محو هذه العبارة "لأنها تعبر عما يشعر به الناس".

وفي مساء يوم الجمعة (7 آب/أغسطس 2020)، وقفت دانيا بيضون في الشارع مرتديةً سترة سلامة برتقالية اللون، وغنّت أغنية ماجدة الرومي هذه بأعلى صوتها. "ما كان لهذا أن يحدث لو لم تكن هذه الحكومة والحكومات التي قبلها فاسدة"، تقول هذه السيدة البالغة من العمر 40 عامًا، وأضافت: "هم لا يسمحون لنا بالعيش في سلام. يجب على جميع السياسيين أن يفهموا أن عليهم المغادرة. هم سيغادرون لبنان، أما نحن فسنبقى". ودانيا بيضون هي أم لخمسة أبناء، قامت بجلب أبنائها وأقاربها من صيدا في جنوب لبنان إلى بيروت للمشاركة في أعمال المساعدة.

 

متطوعون في بيروت ينشدون أغنية ماجدة الرومي "إن الثورة تولد من رحم الأحزان".  Foto: Julia Neumann
Freiwillige leisten Aufräumarbeiten im Beiruter Stadtteil Gemmayze. Das einstige Szeneviertel wurde von der Explosion hart getroffen. Nun sind es libanesische Bürger, die Schutt beiseiteschaffen, Mauerreste entsorgen und die überall herumliegenden Glasscherben zusammenkehren, während Militär und Polizei weitgehend untätig bleiben.

 

وقد بلغ التضامن حدًا عظيمًا هذه الأيام في بيروت. تقوم إحدى النساء يوميًا بالطبخ، ومن ثم تجلب الطعام إلى إحدى الخيام العديدة التي نصبها المساعدون؛ وينسق المتطوعون أعمال التنظيف، ويقدمون المساعدة النفسية، ويبحثون عن المفقودين؛ ويزور المهندسون المعماريون المنازل، ويسألون الناس عن احتياجاتهم، ويقومون بحملة لضمان عدم طرد السكان إذا ما أعادت الدولة البناء.

والمواطنون الذين يحملون في هذا الحين المعاول والمجارف لتنظيف الشوارع والشقق السكنية غاضبون من الحكومة التي يقف جيشها وشرطتها مكتوفَيْ الأيدي. وقد جاء في مجموعة واتساب لتنسق جهود الإغاثة نداء "نحن بحاجة إلى إصلاح منازلنا وإصلاح النظام على حد سواء"؛ وتوجه كثير من اللبنانيين إلى ساحة الشهداء في وسط بيروت في عطلة نهاية الأسبوع للاحتجاج، حاملين معهم مكانسهم.

وقام المتظاهرون بصناعة نماذج تحاكي الشخصيات السياسية، ومن ثم نصبوا لها مشانق من الخشب والحبال، لمحاسبة هؤلاء الجلادين رمزيًا، مطالبين باستقالة الحكومة، وبإحقاق العدالة لضحايا الانفجار. ولا تقوم طالبة العلوم السياسية سابين سويدي بالمساعدة في أعمال التنظف فحسب، وإنما تريد أيضًا الاحتجاج حتى يتم تحقيق التغيير السياسي، وتقول: "سنكافح إلى أن نحصل على ما نريد".

 

 

يوليا نويمان

ترجمة: حسام الحسون

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:41133]