وكأن قطر رفعت مرآة ليرى العالم وجهه القبيح فيها

نحن الألمان ندافع عن حقوق الإنسان لكننا زكينا أنفسنا برفعنا لشعار مجتمع الميم "حُبّ واحد" في مونديال قطر وكأننا خير أمة أُخرجت للناس وعلى خُلق أعظم من بقية الأمم، في حين أن هذا يخفي عن العيان نقاطا جوهرية أخرى. فوراء الأكمة ما وراءها. تعليق الصحفي الألماني شتيفان بوخن لموقع قنطرة عن انتقادات ألمانيا لقطر.

الكاتب، الكاتبة : Stefan Buchen

الصحراء في الواقع موطن رموز قوية باقية ومن أكثر الرموز الصحراوية شيوعاً هو نزول النبي موسى من جبل سيناء حاملاً بمشقةٍ لوحَيْ الحجارة والشريعة والوصية -في قصة لم تسجلها فقط الرواية التوراتية الأصلية بل أيضاً صوَّرها لاحقاً فن الرسم بلوحات متوسطة الحجم لم تأخذ تحريم تصوير الذات على محمل الجد- ومحتواهما معروف باسم "الوصايا العشر". وهنا ربما تكون بداية سوء التفاهم. فليس على اللوحين الحجَريَّيْن تعليمات محفورة تُلزِم بالقيام بأشياء معينة، وإنما فيهما تحذيرات قاطعة ناهية تأمر بالامتناع عن ارتكاب الخطايا المدمرة للتعايش. تحذيرات ناهية من قبيل: "لا تقتل".

لكننا في ألمانيا نسينا المغزى من هذا النهي -الهادف إلى إقامة قانون قِيَم متأصل ومستدام- مستخدمين قطعة قماش تافهة مشحونة بعبارة إيجابية بصيغة الإثبات اللغوية كتعبير عن الخير، ومشددين على أننا فقط ندافع عن حقوق الإنسان، ومتسائلين عن من يمكنه الاعتراض على ذلك أو من يقدر على استنكار شعار مجتمع الميم "حُبّ واحد" المُلصَق على أذرعنا!

غير أنه تصرُّف محكوم عليه منذ البداية بالفشل نظرا لأنه يشبه سلوك واعظ بين وثنيين قام به لاعبو المنتخب الألماني لكرة القدم ومنتخبات أوروبية أخرى مشحونين بهتافات مشجعيهم "المستنيرين"، وسبب هذا الإخفاق ليس فقط تراجع لاعبي كرة القدم في النهاية عن وضع ملصقات مجتمع الميم على أذرعهم -مضيفين بذلك طبقة رقيقة من الزبالة إلى جبل نفايات زائد عن الحد أصلاً- بل أيضا يعود هذا الفشل إلى ردّ الرأي العام الألماني -على خضوع منتخبه- بهلع أكبر من رده على انتكاسات فريقه الرياضية الكروية. ورد الفعل هذا هو بالتحديد الذي قاد إلى جوهر المشكلة.

ملصقة مجتمع الميم "حُبّ واحد" وما تخفيه من دلائل

فلسان الحال هو أننا -نحن الألمان- يتعين علينا إبلاغ هذا البلد العربي الصحراوي المستضيف لكأس العالم بأننا تقدميون وبأننا نمنح المرأة حقوقا مساوية لحقوق الرجل ونعتبر المثلية الجنسية والتوجهات الجنسية الأخرى جزءاً من الحرية ومن حق تقرير الأفراد لمصائرهم ونتعامل مع عمال البناء باحترام وإنصاف وأن من لا يفهم ذلك فإن مجتمعه ليس حراً وإنما هو مجتمع متخلف ذكوري قمعي.

 

المنتخب الألماني في احتجاج صامت في قطر ضد حظر الفيفا ارتداء ملصقات "حبٌّ واحد" رمز مجتمع الميم والمثلية الجنسية. Die DFB-Mannschaft beim stummen Protest gegen das Verbot der One Love-Binde; Foto: Javier Garcia/Shutterstock/Imago
Die DFB-Mannschaft beim stummen Protest gegen das Fifa-Verbot der One Love-Armbinden beim Spiel gegen Japan. "Die Selbstgefälligkeit, mit der das One Love-Anliegen vorgetragen wurde, hat die Wortführer der freudig-positiven Botschaft zunächst einmal blind dafür gemacht, dass der Gegenslogan 'no discrimination', wer auch immer ihn sich ausgedacht und der Fifa eingeflüstert hat, gar nicht so verkehrt war", schreibt Stefan Buchen in seinem Essay. "Schlimmer sind jedoch die Ausblendungen, die mit dem Armbinden-Gestus einhergehen.“ Und weiter: "Allein die Tatsache, dass Homosexualität in Deutschland noch strafbar war, als die allermeisten heute lebenden Deutschen, inklusive die lautesten Qatar-Kritiker, bereits geboren waren, könnte zur Bescheidenheit anregen.“  

 

 

لكن الطريقة النرجسية المتعالية -التي قدَّم بها ألمان مطلب مجتمع الميم "حُبّ واحد"- أعمَت في المقابل أَبصار ناقلي هذه الرسالة الإيجابية البهيجة عن أن شعار "لا للتمييز" هو شعار لا تثريب عليه ولا بأس به -أيّاً كان من ابتكره وهمس به في أذن الفيفا- وأظهرت أن الأسوأ من هذه الطريقة المتعالية نفسها هي الجوانب الخفية المرتبطة بلصق شعار مجتمع الميم على أذرع لاعبي المنتخب الألماني.

فكل من نَصَّب نفسه وصياً على الأخلاق وتجرأ على الدفاع بملء فمه عن حقوق الإنسان على "أرض صحراوية معادية" كان يتوجب عليه أولاً التحقق مسبقاً من أحقيته هو نفسه بذلك والتأكد: بأي حق اختار لنفسه أن يكون بطلا لمثل هذه التمثيلية؟

فالتواضع التواضع يا أيها الألمان الناقدون، لأن المثلية الجنسية كانت لا تزال جريمةً يُعاقِب عليها القانون الألماني حين وُلِدَت أغلبية الألمان العظمى ممن ما زالوا على قيد الحياة حتى اليوم، بمن فيهم أعلى منتقدي قطر صوتاً، وهذه الحقيقة وحدها كافية لأن تكون دافعا إلى التواضع، والشيء ذاته يقال لألمان يحاسبون قطر على حرمان المرأة القطرية من حقوقها فعلى هؤلاء تذكر عدم السماح للأمهات الألمانيات بمنح جنسيتهن إلى أطفالهن حتى عام 1975 في وقتٍ كان فيه هذا الامتياز حكرا على الآباء الألمان وحدهم.

تكلفة الرفاهية الغربية يدفعها عمال الخارج الفقراء

ولكن ماذا لو وجهنا اهتمامنا الآن إلى الوضع على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي؟ ما رأي أوروبا في وصية النبي موسى العتيقة بحُرمة ارتكاب القتل؟ فالتقارير متزايدة عن عمليات "صد وترحيل للاجئين بالقوة" وموت بعضهم عند حدود الاتحاد الأوروبي، غير أن أوروبا تستهين بوصية عدم القتل بتهاون كبير، حتى أن أحزاب الوسط السياسي الأوروبية "المتطرفة في الواقع" بات بإمكانها -حين يجد الجد- القول إن سبب صد المهاجرين وإخراجهم من أراضي الاتحاد الأوروبي هو جورجا ميلوني (رئيسة وزراء إيطاليا منذ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2022) اليمينية المتطرفة المنتمية إلى تيار ما بعد الفاشية.

ولكن ماذا أيضا عن حقوق العمال؟ فالتركيز على الاستغلال المميت للعمال -الذين بنوا في قطر ملاعب كأس العالم وأنشأوا البنية التحتية القطرية الأخرى- من شأنه أن يودي في أحيان كثيرة إلى الاعتقاد بأن ألمانيا وأوروبا لم تلعبا أي دور في مسرح الاستفادة من العمالة الدولية. لكن كم ألفَ خياط وخياطة ماتوا أثناء العمل وهم يصنعون ملابس للطبقات الوسطى الغربية العريضة؟

وكم عدد عمال المناجم الذين أصيبوا بالمرض وعانوا حتى الموت وهم يعملون من أجل استخراج معادن ثمينة من مناجم جنوب أفريقيا -وغيرها من المناجم- لصناعة السيارات الألمانية؟

وكم عدد مزارعي الغابات الإندونيسيين الذين اضطروا إلى إفساح المجال لمزارع زيت النخيل حتى يتمكن سائقو السيارات في أوروبا من إضافة القليل من الديزل الحيوي إلى وقودهم من أجل أن يتمتع الأوروبيون بضمير بيئي مستريح؟

ولنا توقع عدم تغير أي شيء جوهري بشأن الاستفادة من العمالة الدولية وتوقع عدم فعالية قانون سلسلة إمداد ألمانيا الجديد في تغيير ذلك، وهذا نظرا لأن الاستعانة بالخارج جاريةٌ على قدم وساق من أجل سداد فاتورة الرفاهية الغربية. فهل صار من الواضح -لمَن تطالب أصواتهم الصادحة قطر باحترام حقوق الإنسان- أن الاستفادة من العمالة الدولية في الخارج تتطلب تكلفة بشرية ملموسة في كثير من الأحيان؟ أَمْ لا يزال من الصعب الشاقّ عليهم تهجئة عبارة "الاستفادة من العمالة الدولية في الخارج"؟

 

عمال بناء آسيويون في موقع بناء في قطر. Asiatische Bauarbeiter in Katar; Foto: DW/A.Vohra
عمال بناء آسيويون في موقع بناء في قطر: يكتب الصحفي الألماني شتيفان بوخِن لموقع قنطرة: "ماذا أيضا عن حقوق العمال؟ فالتركيز على الاستغلال المميت للعمال -الذين بنوا في قطر ملاعب كأس العالم وأنشأوا البنية التحتية القطرية الأخرى- من شأنه أن يودي في أحيان كثيرة إلى الاعتقاد بأن ألمانيا وأوروبا لم تلعبا أي دور في مسرح الاستفادة من العمالة الدولية. لكن كم ألفَ خياط وخياطة ماتوا أثناء العمل وهم يصنعون ملابس للطبقات الوسطى الغربية العريضة؟ وكم عدد عمال المناجم الذين أصيبوا بالمرض وعانوا حتى الموت وهم يعملون من أجل استخراج معادن ثمينة من مناجم جنوب أفريقيا -وغيرها من المناجم- لصناعة السيارات الألمانية؟" … .

 

قبل ستين عامًا أثار أحد الفلاسفة الشك في الداعمين للتعددية المجتمعية والمطالبين بها، وذلك من خلال وسمهم بأنهم يريدون في المقام الأول تهدئة التناقضات المجتمعية الأكثر أهمية وإخفاءها تحت الأبسطة، وها هي الريبة قد ازدادت بعد أن نَصَبَ منتقدو قطر هدفا لهم وكأنه حائط مرمى مصنوع من الورق المُقوَّى فيه ثقوب بحجم كُرَة قدم وحول الثقوب رسموا صور أشخاص مُرتَدِين الدشداشة العربية، ونظرا لأن تسديدات كرات هؤلاء المنتقدين تواصلت بعيدا عن ثقوب حائط المرمى باستمرار فقد أصابت صور الأشخاص على الورق المقوى بدلاً من اختراق ثقوب الهدف، وبالمثل يدور الجدل الألماني -بشأن بطولة كأس العالم الصحراوية في قطر- حول تناقضات جانبية بعيدا عن الهدف الذي ينبغي أن يكون.

"الجدل الألماني حول بطولة كأس العالم -الصحراوية في قطر- يدور حول تناقضات جانبية"

ومن أجل تسليح أنفسهم ضد عبارات الأمر بصيغة الإثبات اللغوية لا يحتاج منتقدو قطر إلى التوجه لبحثٍ عن صُحُف دينية قد يكون شاقًا في جبل سيناء الصحراوي الذي تكتنفه الغيوم بل يكفيهم إلقاء نظرة على الدستور الألماني أو القانون الأساسي الألماني ليلاحظوا أن النسخة الألمانية الحديثة لحقوق الإنسان هي أيضا -كما في ألواح موسى- مكتوبة بصيغة النهي مثلما تنص المادة الأولى من الدستور الألماني ناهيةً بقولها: كرامة الإنسان لا يجوز المساس بها.

ويواصل القانون الأساسي الألماني الدستوري نصوصه ناهياً بقوله: لا يجوز الإضرار بسلامة الجسد ولا يجوز انتهاك حرية الفرد ولا يجوز أن يُميَّز أحد أو أن يُضارّ بسبب جنسه أو وطنه أو معتقداته الدينية والسياسية. إنها حقوق دستورية دفاعية ضد الهجمات والاعتداءات تحت شعار "لا للتمييز". ومما يؤسَف له أن المجلس البرلماني النيابي الألماني -الذي وضع هذا الدستور عام 1949- لم يحذر من السعي الرخيص إلى تأكيد الذات في المناطق الصحراوية والأراضي الأخرى البعيدة القصوى.

ويبدو أن منتقدي قطر قد فاتتهم ملاحظة أن حُكام قطر آل ثاني قد أعادوا الكرة بمهارة فائقة إلى الملعب الدولي -تماما بعكس منتخبهم القطري الوطني- مُتبنِّين بهذا المونديال النظام الذي بموجبه يتشكل العالم ومستفيدين منه ولاعبين وفقًا لقواعد اللعبة، وكانت البداية بالاستفادة من مزايا العمالة الدولية الخارجية.

لكن الأمر تجاوز ذلك بكثير، فنظرًا لأن مثل هذا الحدث المبهر يجب أن يكون غير مُسيَّس فقد أبقت عائلة قَطَر الحاكمة إستادات المونديال بعيداً عن التسييس وأبقت الاحتجاجات ضد النظام الإيراني المجاور بعيدًا عن ملاعب كأس العالم. وبالمناسبة المنتخب الإيراني لا يتضامن مع الاحتجاجات المناهضة للنظام في وطنه، على عكس ما تناقلته كثير من وسائل الإعلام الألمانية، بل واحتفل محتجون إيرانيون في إيران بهزيمة منتخبهم الوطني أمام المنتخب الأمريكي وبالتالي فإن هذا يُعتَبر احتفاءً بإقصاء بلادهم عن المونديال، التي يحكمها نظام الملالي ومن شأنه استغلال نصر المنتخب الإيراني سياسيا.

"القطريون يحمِلون مرآةً أمام العالم ليرى كلٌ نفسه"

فغير مسموح لأي شيء بإزعاج المصالح التجارية والاقتصادية وبالتالي فإن المشكلات -التي لا يمكن إقصاؤها عن النقاش- يجب دمجها رأسياً عامودياً شاقولياً في التجارة وهذا ينطبق على ألمانيا، والقطريون -كَمُلّاك أسهم في شركتي دايملر (مجموعة مرسيدس بنز) وفولكسفاغن الألمانيتين- يعرفون كيف بإمكان الألمان إرسال ملايين مركبات الديزل والبنزين لتسير في شوارع العالم المترامي الأطراف في حين أن الألمان في الوقت ذاته يسوقون أنفسهم على أنهم رفقاء بالبيئة، والقطريون يعلمون أنه حين يكون بإمكان الألمان إعلان تحولهم إلى الغاز الطبيعي المسال -الذي تشتريه ألمانيا جزئياً من قطر- على أنه جزء من التحول إلى الطاقات المتجددة فلن تكون هناك أي حدود لعملية "الغسل الأخضر" أو تلميع السمعة البيئية وتبييضها عبر ادعاء تبني مصادر الطاقة النظيفة.

لن ينزعج أحد من أنه حتى قبل كأس العالم وقبل بناء ثمانية ملاعب جديدة في الصحراء، كانت قطر بطلة العالم في نصيب الفرد من انبعاثات الغازات الضارة بالمناخ. ويدرك حكام قطر آل ثاني أن بإمكانهم -من أجل تخفيف الانتقادات- بث إعلانات تجارية على قناة الجزيرة وغيرها من القنوات تعلن فيها ببساطة أن كأس العالم بطولة مستدامة وتتفاخر بزرع 5000 شجرة، وفي نهاية المطاف سافر جميع المشاركين إلى مؤتمر المناخ -الذي انعقد في مصر- باستخدام الطائرات الملوثة بأدخنتها للبيئة.

 

Zum Thema Frauen bei der #wm2022 in #Katar, Berichterstattung, Bevormundung und Orientalismus. Entschuldigt das wir jetzt etwas länger, aber bitte lest es bis zum Ende. Auf meine letzten Tweets wurde z.T. entgegnet, dass unsere Medien viel über .... pic.twitter.com/1vbgAts0TQ

— Karim El-Gawhary (@Gawhary) November 27, 2022

 

حكام قطر يعرفون أن طبقات العالم الوسطى المسافرة من قارة إلى أخرى لحضور بطولة كأس العالم تريد أيضا حدائق تنزه معولمة وموحَّدة ومتشابهة وأنهم يريدون مثلها أيضا في قطر، وها هم القطريون يحملون مرآةً أمام العالم ليرى كلٌ نفسه فيها وحين يرى العالم وجهه القبيح في المرآة يصرخ العالم ذاته ملقياً بالذنب على كاهل حامل المرآة.

بعض من يوجهون الانتقادات المبدئية يرون أن الأحداث الكبرى -مثل كأس العالم أو معارض إكسبو أو الألعاب الأولمبية- لم تعد مناسبة لعصرنا ورغم أن هذا النقد حسن النية بالتأكيد فإنه بَنَّاءٌ على نحو مبالغ فيه ويقع بالتالي ضحية لنواياه الحسنة، فبطولة كأس العالم في قطر متناسبة مع عصرنا على نحو مثالي، وكأنه رقص تقديسي حول تمثال العجل الوثني الذهبي الذي أنسى أصحابه تعاليم النبي موسى وورد ذكره وانتقاده في الكتب المقدسة. وما كان لأحد ابتكار عرض رياضي أشد إبهارا وملاءمة ودقة من مونديال قطر الذي أقيم بنجاح مؤكد حتى قبل أيام كثيرة من مباراته النهائية.

 

شتيفان بوخن

ترجمة: صلاح شرارة / ع.م

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de