شيرين أبو عاقلة - وجه جيل كامل

صحفية لبنانية تحمل صورة صحفية الجزيرة شيرين أبو عاقلة.
صحفية لبنانية تحمل صورة صحفية الجزيرة شيرين أبو عاقلة.

داليا حاتوقة صحفية متمرسة كتبت عن النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني من رام الله وواشنطن وعمّان وهي كاتبة بمجلة تايم وفورين أفيرز وواشنطن بوست وسي إن إن وغيرها، قابلت شيرين أبو عاقلة أول مرة قبل عشر سنوات في واشنطن ومؤخرا أصبحتا زميلتين لدى قناة الجزيرة. حاورها رينيه فيلدأنغل لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: René Wildangel

أشاد الكثيرون بشيرين أبو عاقلة منذ مقتلها. فكيف تصفينها؟

داليا حاتوقة: فلنبدأ بالأساسيات: كانت شيرين فلسطينية مسيحية من القدس الشرقية. درست الهندسة المعمارية في الأردن، ومن ثم درست الصحافة والإعلام. وانضمت إلى قناة الجزيرة في عام 1997. كانت واحدة من أوائل المراسلات في القناة وحين بدأت الانتفاضة الثانية أصبحت مراسلة حربية. اكتسبت الكثير من الخبرة من خلال العمل في الميدان لما يقرب من ثلاثة عقود: كانت وجهاً مألوفاً بالنسبة للكثير من الأشخاص. نشأ جيل كامل من الفلسطينيين وهم يتابعونها على شاشات التلفاز. كانت واحدة من أشهر المراسلات اللواتي غطين النزاع. والآن تركت فراغاً كبيراً. لا يوجد أي أحد مثلها. العديد من الزملاء في قناة الجزيرة هم صحفيون بارعون للغاية، بيد أنها كانت مختلفة.

 

كيف كانت مختلفة؟

حاتوقة: كانت تتمتعُ بهدوء فريد، وشخصية خاصة؛ حتى عندما كانت تخاف، لم تهرب بتاتاً، كانت تبقى دائماً في مكان واحد. كان مجرد مشاهدتها في وسط المواقف الخطرة، بهدوئها ورباطة جأشها، مصدر إلهام. من الطبيعي أن تخاف في خضم هذا القدر من العنف، لذلك من الملهم للغاية أن تقابل شخصاً تعامل مع الموقف بشكل مختلف.

 

هل كنت جزءاً من هذا الجيل الذي نشأ معها؟

حاتوقة: لقد كنت في العشرينيات من عمري حين بدأت أشاهدها على التلفاز. كانت الوجه الذي شاهدناه خلال الفترة الصعبة من الانتفاضة الثانية، وحالات حظر التجول والتوغّل الإسرائيلي في عام 2002. في ذلك الوقت، لم أكن أفكر فيها بوصفها نموذجا يُحتذى به؛ فقد بدأت مسيرتي المهنية في الصحافة بالصدفة تقريباً. لكن على مرّ السنين تلقيت دعماً من العديد من النساء والرجال، وقد كانت شيرين واحدة منهم. دائماً ما كنا نناقش القصص. كانت رفيقة، وأكثر من ذلك بكثير. وبما أنها كانت الصحفية الأكثر خبرة، فغالباً ما كنت أطلب منها النصيحة.

 

ما هو أكثر شيء تتذكرينه عن شخصيتها؟

حاتوقة: كانت متواضعة للغاية، لم تكن متكبّرة، رغم أنها كانت تشغل منصباً رفيعاً للغاية. كان الناس يوقفونها في الشارع، فتلتقط صوراً مع الجميع بسعادة. أمام الكاميرا كانت عبارة عن شخص، وخلف الكاميرا كانت شخصاً ممتعاً للغاية. كانت تحب الاحتفال والمزاح والسفر. وكل المصاعب التي رأتها وواجهتها شخصياً (فقد توفي والداها وهي صغيرة) أو مهنياً، لم تحطم معنوياتها.

 

قوات الأمن الإسرائيلية تواجه مشيعين فلسطينيين يحملون نعش الصحفية القتيلة شيرين أبو عاقلة. Israeli security forces face off Palestinian mourners carrying the casket of slain journalist Shireen Abu Akleh (photo: AFP/Getty Images)
Unrest precedes burial: Shireen Abu Akleh was buried at the Christian Orthodox cemetery near Jerusalem's old town. When mourners emerged from the hospital carrying her coffin, clashes erupted between Israeli security forces and Palestinians. Both sides accused the other of having provoked the violence

 

تغطيتها لكل العنف، وانتهاكات حقوق الإنسان، كل المآسي الفردية لم تكسرها قَطُّ. وكانت الطريقة التي تتعامل بها مع الناس مميزة للغاية. وحيت انتُدِبت إلى مكتب الجزيرة في واشنطن لبضعة أشهر، كنت مقيمة فيها في ذلك الوقت. وحتى هناك كان الناس يتعرّفون عليها ويلتقطون صوراً معها. ما زلت أسمعها تقول: "داليا، اِصحبيني للتسوق!" كانت دائمة المزاح، وكانت تحب التنزه.

 

بعد مرور أسبوعين على مقتل شيرين: ما الذي نعرفه عن مقتلها؟

حاتوقة: حين قُتِلت في 11 أيار/مايو من عام 2022 كانت في مهمة في جنين وترتدي سترة زرقاء مكتوب عليها "صحافة Press" وخوذة. في واحد من مقاطع الفيديو التي صُوِّرت عن قرب، يمكن سماع أحدهم يقول "انظر إلى القناصين" ثم حاول علي السمودي، منتج قناة الجزيرة الذي كان مع شيرين، مغادرة موقعه وأصيب في ظهره، ونسمع شيرين تقول "علي مصاب". كما وصف زملاء آخرون إطلاق نيران القناصة على الصحفيين وعلى كل من اقترب من شيرين بعد إطلاق النار عليها.

وهذا على النقيض من رواية السلطات الإسرائيلية ورئيس الوزراء بينيت، الذين أشاروا إلى أنّ المقاتلين الفلسطينيين هم المسؤولون غالباً عن مقتلها، ناشرين مقطع فيديو لفلسطينيين يُطلقان النار عشوائياً في الأزقة. ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة، تمكن باحثون من منظمة بتسليم وآخرون من تحديد الموقع الذي صُوِّر فيه المقطع، على بعد 300 متر تقريباً من مكان سقوط أبو عاقلة. ويوجد الآن عدد كبير من الأدلة التي تشير إلى أنّ الجيش الإسرائيلي كان مسؤولاً عن القتل. غيّرت السلطات الإسرائيلية روايتها عدة مرات، بما في ذلك الروايات التي تتعلّق بإمكانية إجراء تحقيق. في البداية، أعلنوا عن فتح تحقيق، ومن ثم قالوا إنهم لا يستطيعون الاستمرار بالتحقيق لأنّ السلطة الفلسطينية ترفض تسليم الأدلة. هل يُعقل حقاً تسليم الأدلة إلى الطرف الذي يُرجَّحُ أنه المسؤول عن القتل؟ لا سيما وأنّ تحقيقات الجيش الإسرائيلي نادراً ما تُسفرُ عن نتائج ملموسة.

 

شاهدنا أيضاً بعد مقتلها صوراً مزعجة من جنازتها. إذ هاجم ضباط من الشرطة الإسرائيلية بوحشية بعض حاملي النعش وصادروا الأعلام الفلسطينية.

حاتوقة: هنا أيضاً، كان هناك رواية إسرائيلية رسمية: بدأ بعض الناس بحمل النعش ولم يكن هذا ما تريده الأسرة. بيد أنّ شقيقها كذّب هذه السردية. ووفقاً له، لم يكن هناك أي اتفاق مع الشرطة الإسرائيلية ولم يكن هناك أي مشكلة في أن يحمل الناس تابوتها. الأمر يتعلّق بشيء آخر. لا تقبل إسرائيل بأي وجود فلسطيني في القدس ويبدو أنّ هذا ينطبق على الموتى حتى. لم يعطوا شيرين السلام في حياتها ولا في موتها. لقد استاؤوا للغاية من مشهد الأعلام الفلسطينية لدرجة أنهم بدأوا بضرب المشيّعين. اعتُقل أحد الأشخاص الذين حاولوا رفع التابوت عالياً أثناء تعرضه للضرب ولا يزال رهن الاعتقال. لا نعرف أين هو.

 

CNN report suggests Al Jazeera journalist killed by deliberate Israeli gunfire https://t.co/stzuOobo8V

— Haaretz.com (@haaretzcom) May 24, 2022

 

أعرب الكثير من الناس عن استيائهم. هل يمكن أن تكون هذه نقطة تحول؟

حاتوقة: ربما شكّل هذا صدمة للبعض، لكن ليس بالنسبة لي. لا يُظهِرُ الجيش الإسرائيلي احتراماً للفلسطينيين، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً. في الماضي، صادرت إسرائيل الكثير من جثث الفلسطينيين، ورفضت منح أسرهم حتى كرامة دفن أحبائهم. ومن الأمثلة، القصة الأخيرة لاستشهاد عمر عبد المجيد أسعد البالغ من العمر 78 عاماً. لقد استُشهِد بعد اعتقاله من قبل الجيش الإسرائيلي. عصبوا عينيه، وقيّدوه ونقلوه إلى ساحة مبنى وتركوه ليموت. حين عُثِر عليه كان يعاني من سحجات واحمرار على معصمه؛ ولم تحصل عائلته بتاتاً على العدالة لوفاته. وقد قال الجيش الإسرائيلي مجدّداً إنه سيحقّق في الأمر. في أفضل الأحوال، يتّخذون إجراءات تأديبية بسيطة. لكن لا شيء يحدث حقاً. لماذا نتوقع أن تكون الأمور مختلفة هذه المرة؟

 

كان هناك العديد من الدعوات لإجراء تحقيق شامل. وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك: "من المهم أن يُجرى التحقيق في وفاتها بشفافية". هل هذا يعني أنّ الفرص أفضل هذه المرة؟

حاتوقة: لا أعتقد أنّ ذلك سيُحدِث أي فرق. ولن يحدث أي فرق حتى أنها كانت مواطنة أميركية. الحكومة الأميركية ضعيفة مثل الأوروبيين حين يتعلّق الأمر بإسرائيل. وكما قلت، قُتِل الكثير من الناس من قبل، ولم يُجرَ أي تحقيق. ولم تكن هذه أيضاً أول عملية قتل رفيعة المستوى. ليس لدي أي ثقة بأن أي شيء سيتغير هذه المرة. لسوء الحظ، مضى الناس قدماً بالفعل، وكذلك فعلت وسائل الإعلام ونشرات الأخبار. لا أتوقّع أي شيء.

من ناحية أخرى، بعد يومين فحسب من مقتلها، منعت ألمانيا مظاهرات في برلين تحيي ذكرى النكبة الفلسطينية في عام 1948. هل هناك افتقار إلى التعاطف مع معاناة الفلسطينيين؟

حاتوقة: من الواضح أنّ ألمانيا لديها مشكلة هنا. حين نزل الناس إلى الشوارع للاحتجاج بشكل سلمي بالرغم من الحظر، لم يُسمح لهم حتى بقول "فلسطين حرة". كما تُوصف مباشرة أي تصريحات من هذا القبيل بأنها معاداة للسامية. بصراحة، لا منطق في هذا. حين يطالب الناس بالحرية والعدالة في مكان ما، فهل يعني هذا أننا نريد أخذ العدالة والحرية من شعب آخر؟ بالطبع لا! فالأمر يتعلّقُ بتحقيق العدالة للفلسطينيين، لأنهم يستحقونها.

 

داليا حاتوقة صحفية كتبت عن النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني . Journalist Dalia Hatuqa (photo: private)
الالتزام بحقوق الإنسان وكرامته في كل مكان: تقول حاتوقة "ويجب لهذا الالتزام أن يشمل الفلسطينيين أيضاً. لا يزال السياسيون الألمان يقولون إنّهم يؤمنون بـ "حل الدولتين"، بيد أنّهم لا يقومون بأي شيء من أجل وقف الظلم. في نهاية المطاف الأمر كله مجرد كلمات، وعلى أقصى تقدير، إدانة. "ينبغي على الناس التوقف عن التصرّف بحذر شديد وإخبار الحكومة الإسرائيلية أنّ هذه قضية خطيرة وتتطلّب التحقيق".

 

إنني مدركة تماماً لتاريخ ألمانيا. لكن ينبغي أن يكون هناك التزام بحقوق الإنسان وكرامته في كل مكان. ويجب لهذا الالتزام أن يشمل الفلسطينيين أيضاً. لا يزال السياسيون الألمان يقولون إنّهم يؤمنون بـ "حل الدولتين"، بيد أنّهم لا يقومون بأي شيء من أجل وقف الظلم. في نهاية المطاف الأمر كله مجرد كلمات، وعلى أقصى تقدير، إدانة. ما الحافز الذي لدى الحكومة الإسرائيلية من أجل تغيير مسارها، أو من أجل فتح تحقيقات جادة، أو حتى من أجل إنهاء انتهاكات حقوق الإنسان والاحتلال؟ لا يوجد ضغط من أجل أن تقوم بذلك. فهي تتلقّى التعاون والمساعدات العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية ومن أوروبا. كما أنها تتمتع بعلاقات ممتازة مع الجميع. لا يوجد ضغط عليها على الإطلاق.

 

ما الذي ينبغي لوزيرة الخارجية الألمانية فعله، إن أرادت تشجيع فتح تحقيق مستقل؟

حاتوقة: بصراحة، لا أملك أدنى فكرة عما ينبغي أن تفعله؛ كل ما أعرفه أنّ هذه الطريقة لا تجدي نفعاً - من دون شكل ما من أشكال الضغط، لن يتغير أي شيء. ينبغي على الناس التوقف عن التصرّف بحذر شديد وإخبار الحكومة الإسرائيلية أنّ هذه قضية خطيرة وتتطلّب التحقيق. بيد أنّ هذا لن ينجح إلا إن ضغط الأوروبيون باستمرار.

وما الذي يمكن أن يفعله الفلسطينيون من أجل مواصلة المساءلة؟

حاتوقة: إنّ السلطة الفلسطينية بحاجة ماسة إلى إشراك هيئة مستقلة في فحص الأدلة، والمقذوفات وشظايا الرصاص. وينبغي عليهم التصرّف بسرعة كبيرة. لقد أعلنت السلطة الفلسطينية بالفعل أنّها أحالت القضية بوصفها جريمة حرب محتملة من أجل إضافتها إلى تحقيقات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. ويجب على المجتمع الدولي رفع صوته أيضاً، إضافة إلى الضغط من أجل المحاسبة فيما يتعلق بمقتل شيرين. للجميع دور يلعبه. كان قتلها ظلماً، مثل أي عمليات قتل، لكن مقتل شيرين ظلم فظيع، لا يمكننا أن نترك قصتها تُنسى.

 

 

 

رينيه فيلدأنغل

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de