تركيا: كيف تحولت اسطنبول إلى وجهة العرب الأولى

اسطنبول أصبحت اليوم ملاذاً لعدد كبير من الجاليات العربية وتخطت الدور الذي أدّته القاهرة في خمسينيات القرن العشرين، وبيروت في الستينيات والسبعينيات. لكن الأساليب الكوزموبوليتانية في المدينة تُحدث أيضاً تغييراً لدى هذه الجاليات.

الكاتبة ، الكاتب: Mohanad Hage Ali

"إسطنبول تجمع نساء الجاليات العربية احتفاء بيوم المرأة العالمي"، هذا ماورد في العنوان الرئيس لـمقال نشرته مؤخراً وكالة الأناضول عن لقاءٍ عُقِد في الآونة الأخيرة في المدينة التركية وضمّ عشرات النساء السوريات والفلسطينيات والمصريات.

يختزل العنوان الدور المتنامي الذي تؤدّيه اسطنبول في المشهد السياسي والثقافي العربي. فمنذ الانتفاضات العربية في العام 2011، استقطبت المدينة جاليات كبيرة من بلدان عربية كبرى، وقد غادر هؤلاء أوطانهم بسبب الأنظمة القمعية أو الأجواء السياسية والاقتصادية غير المستقرة.

تُقدّم اسطنبول مساحة مدنية لأشكال مختلفة من الحراك السياسي وأمثلة عدّة عن التفاعل العربي. وبات مئات آلاف السوريين والعراقيين واليمنيين والليبيين والمصريين واللبنانيين يشكّلون جزءاً من النسيج الاجتماعي للمدينة. تستضيف اسطنبول حضوراً عربياً جامعاً له حياته الخاصة.

تُشير أحد التقديرات إلى أن نحو 700000 عراقي يعيشون في تركيا، ووجهتهم المفضّلة هي اسطنبول. وتضم المدينة خمس مدارس عراقية من أصل 27 مدرسة في مختلف أنحاء البلاد. ويُقيم عشرات آلاف المصريين واليمنيين والليبيين في اسطنبول حيث أنشأوا مدارس ووسائل إعلام ودور نشر. اسطنبول هي اليوم الوجهة الأساسية لأبناء العالم العربي، متخطّيةً بكثير الدور الذي أدّته القاهرة في خمسينيات القرن العشرين، وبيروت في الستينيات والسبعينيات.

الحياة في إسطنبول تغير الهويات العربية

تعتبر الدول العربية المتخوّفة من التأثير التركي، ومنها مصر، أن اسطنبول تشكّل اليوم مقرّاً للفروع العربية المتعددة لجماعة الإخوان المسلمين، وأنها تسعى إلى زعزعة استقرار الدول المعارِضة للجماعة، وكذلك استقرار المنطقة بكاملها. لكن هذه النظرة إلى العرب في اسطنبول وإلى دورهم في الميدانَين السياسي والثقافي في المنطقة صحيحة في جزء منها فقط، وهي غير مكتملة. هذا فضلاً عن أن هوية المدينة الكوزموبوليتانية وتجاربها الحضرية المتنوّعة تطبع أيضاً سلوكيات الجاليات العربية المقيمة هناك.

صبي سوري يجر عربة أطفال أمام مسجد الفاتح في اسطنبول، تركيا، الصورة التقطت في 20 أغسطس 2019 (AP Photo/Lefteris Pitarakis) | picture alliance/AP Photo
اسطنبول في قلب المشهد السياسي والثقافي العربي: منذ الانتفاضات العربية في العام 2011، استقطبت المدينة جاليات كبيرة من بلدان عربية كبرى، وقد غادر هؤلاء أوطانهم بسبب الأنظمة القمعية أو الأجواء السياسية والاقتصادية غير المستقرة.

اسطنبول اليوم هي فعلاً معقل للإخوان المسلمين. تستثمر الدولة التركية في فروع الجماعة وتُقدّم لها الدعم، والأهم من ذلك، تسهّل الجهود الآيلة إلى تنظيم هذه الفروع وتمثيلها. وتشهد عشرات المحطات التلفزيونية، ومعظمها على صلة بفروع الإخوان المسلمين، على التشجيع التركي لهذه المجموعات. حتى القرارات المهمة داخل فروع الجماعة تؤخَذ في المدينة التركية. قبل فترة وجيزة مثلاً، نشر موقع "الأمناء" الإلكتروني أن حزب الإصلاح، أي فرع الإخوان المسلمين في اليمن، قام بالتصويت في اسطنبول للقيادي صالح باتيس أميناً عاماً جديداً للحزب. وقد تعرّض باتيس المقيم في اسطنبول للانتقادات من معارضي النفوذ التركي في المنطقة بسبب روابطه مع تركيا.

خوف الأنظمة العربية السلطوية من تصاعد النفوذ التركي

تجسّد اسطنبول الدور الناشئ الذي تضطلع به تركيا في المنطقة. وقد ظهر ذلك في التدخلات العسكرية التركية في ليبيا وسورية، وكذلك من خلال النفوذ السياسي الذي تمارسه تركيا في مختلف أنحاء المنطقة. ومن هذا المنظار، تسعى الحكومة التركية إلى التأثير في المواقف والسلوكيات في العالم العربي عن طريق الجاليات التي تستضيفها على أراضيها.

العام الفائت، أنشأ العرب في تركيا اتحاد الجاليات العربية الذي يدعم حزب العدالة والتنمية الحاكم في البلاد. ويرأسه إسلاميٌّ ليبي وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه "قائد الأمة الإسلامية". ويسعى الاتحاد إلى تنظيم العلاقات بين العرب والمجتمعات المضيفة، وإلى التنسيق مع الحكومة التركية.

واشتمل الدور التركي المتوسّع في المنطقة أيضاً على سياسات ثقافية أعادت ربط جزء كبير من الأقليات التركمانية في المنطقة بجذورها التركية. ويقع في صلب هذا المجهود تحوُّل اسطنبول إلى مركز تعليمي. قدّمت الدولة التركية آلاف المنح الدراسية إلى طلاب تركمان من العالم العربي، وكذلك إلى طلاب عرب بصورة عامة، لتشجيعهم على الدراسة في تركيا.

وكانت لهذه الجهود تداعيات سياسية في المنطقة. ففي لبنان مثلاً، يُثير إحياء الهوية التركمانية (والبعد القومي فيها) حساسية مع الجالية الأرمنية في البلاد. واليوم، كلما عبّر الأرمن عن احتجاجهم على الدور التركي في الإبادة التي تعرضوا لها، مثلاً، يبادر التركمان إلى الرد عليهم علنا.

المدينة الكوزموبوليتية بين الشرق والغرب تغير ملامح الهويات. في كتاب "الخروج من جماعة الإخوان المسلمين: الفرد والمجتمع والدولة" يرصد مصطفى المنشاوي روايات عن أعضاء هجروا التنظيم ومجتمعه بعدما اختبروا الحريات الاجتماعية في اسطنبول.
المدينة الكوزموبوليتية بين الشرق والغرب تغير ملامح الهويات. في كتاب "الخروج من جماعة الإخوان المسلمين: الفرد والمجتمع والدولة" يرصد مصطفى المنشاوي روايات عن أعضاء هجروا تنظيم الاخوان المسلمين ومجتمعه بعدما اختبروا الحريات الاجتماعية في اسطنبول.

لكن، في حين حاولت الحكومة تسهيل حراك الإخوان المسلمين، ضغطت ضد الجهود الهادفة إلى تعزيز وجود الإسلاميين العرب. لقد أحدثت المدينة أحياناً تغييراً لدى المنفيين العرب، ولاسيما الإسلاميين منهم. تتخطّى أعداد العرب مليون نسمة، لكنهم لا يقتصرون فقط على الإسلاميين. فهم يضمّون أيضاً تروتسكيين وليبراليين وأشخاصاً من اقتناعات سياسية أخرى، أو أشخاصاً ليست لديهم أي انتماءات سياسية على الإطلاق. وقد كان لهذا الطيف من التجارب تأثيره على مجموعات الإخوان المسلمين التي تعمل في أجواء محافظة ومضبوطة، ويقضَّ مضجعها في بعض الأحيان.

ينقل مصطفى المنشاوي، في كتاب جديد بعنوان "الخروج من جماعة الإخوان المسلمين: الفرد والمجتمع والدولة" (Leaving the Muslim Brotherhood: Self, Society, and the State)، روايات عن أعضاء هجروا التنظيم ومجتمعه بعدما اختبروا الحريات الاجتماعية في اسطنبول. أسامة السيد، وهو باحث مصري مقيم في اسطنبول، ينظر أيضاً في تأثير المدينة على الإخوان المسلمين. ففي حين أن هناك أشخاصاً تركوا جماعة الإخوان المسلمين وأصبحوا أكثر علمانية، يدرس السيد مجموعة كبيرة مترددة لاتزال في منطقة رمادية في ما يتعلق بموقفها من الإخوان. وقد دفع تأثير اسطنبول بالأعضاء الأكثر التزاماً إلى عزل أنفسهم. بعبارة أخرى، وضعت المدينة المتديّنين المحافظين في موقف دفاعي، فيما يحاولون تجنّب التجارب المدينية التي غالباً ما تتعارض مع تفضيلاتهم.

وفي موازاة الجهود الثقافية الإسلامية والمدعومة من الحكومة، يعمد المفكّرون العرب إلى ترجمة الآداب التركية. ومن الأعمال التي ينكبّون على ترجمتها مؤلّفات الروائي أورهان باموك التي تتخذ من اسطنبول مسرحاً لأحداثها، وتلقى رواجاً باللغة العربية. في هذه الكتب، المدينة هي مكانٌ للتسامح واكتشاف الذات، وهما سمتان مهمتان في نظر مجتمعٍ عربي يجد نفسه في فترة تأمّل وإعادة تقييم بعد الانتكاسات التي واجهها في أوطانه.

في البداية، كان عامل الاستقطاب الذي جذب العرب إلى اسطنبول ناجماً بصورة أساسية عن الثقافة الشعبية، ولاسيما المسلسلات التلفزيونية التركية الناجحة التي جرت دبلجتها إلى اللغة العربية. ففي نظر عدد كبير من المشاهدين، سرعان ما أصبحت معالم اسطنبول وقصورها مرادفاً لقصص الحب.

 

 

وفي العقدَين الأخيرين، توافد العرب بأعداد كبيرة إلى المواقع التي صُوِّرت فيها هذه المسلسلات. وقد جاء هذا التأثير على حساب السينما المصرية التي عانت في الأعوام الأخيرة من قمعٍ غير مسبوق في مصر، ومن إغلاق عدد كبير من المساحات الثقافية في البلاد.

في تموز/يوليو الماضي، وصل الممثل التركي بوراك أوزجفيت إلى بيروت بدعوةٍ من أحد المتاجر في مركز تجاري لبناني، وقد دفع المتجر مبلغاً كبيراً من المال لاستقدامه. أحاط به مئات المعجبين. وبدأ بعضهم بالصراخ، في حين أُغمي على آخرين، وسرعان ماحطّمت الحشود واجهة المتجر الأمامية والموجودات في الداخل. وتمكّن عناصر قوى الأمن من مساعدة الممثل على الخروج من المكان.

في المقابل، يمكن أن يدخل حسين فهمي، وهو أيقونة من أيقونات السينما وبمثابة آلان دولون المصري في الثمانينيات والتسعينيات، إلى مركز تجاري لبناني اليوم من دون أن يثير اهتماماً كبيراً. لم تعد القاهرة المنارة الثقافية للعالم العربي. حلّت اسطنبول مكانها.

ليست حادثة أوزجفيت عارِضاً من عوارض النفوذ الثقافي المتنامي لتركيا وحسب، بل تنمّ أيضاً عن المحدوديات، التي تعترض قدرة الحكومة التركية على السيطرة على تأثير اسطنبول. والحال أن أوزجفيت العلماني لا يعكس المثل العليا المحافظة التي ينادي بها الإخوان المسلمون أو أردوغان.

صحيح أن التأثير الثقافي لإسطنبول يعود بالفائدة على تركيا عمومًا، لكنه يترك أيضاً بصمته الفارقة على العرب المقيمين فيها.

 

مهنّد الحاج علي

حقوق النشر: كارنيغي 2020