جبران خليل جبران: أديب المهجر وهالة الغرابة المستحبّة

أديب المهجر جبران
أديب المهجر جبران

"خليل جبران: مؤلف النبي" كتاب جديد وضعه بالفرنسية ألكسندر النجار يمثل مدخلا ناجحا إلى حياة وآثار جبران الإبداعية التي لا تزال تثير مخيلة الكثير من القراء في العالم حول الشاب القادم من الشرق.

الكاتبة ، الكاتب: أندرياس بفليتش

قد لا يفلح الفنانون أحيانا في تجاوز الصورة التي تتكون لهم لدى جمهورهم، و بذلك يفقدون مع مرور الزمن السيطرة على عملهم الخاص. مثل هذا المصير هو ما كان من نصيب الكاتب والرسام اللبناني جبران خليل جبران (1883-1931) الذي تعرض، وهو بعد على قيد الحياة، إلى الخلط بينه وبين الشخصية الرئيسية لكتابه "النبي" الصادر سنة 1923، والذي ما يزال يمثل أكثر المؤلفات مبيعا لكاتب عربي.

ولعل ذلك هو ما يفسر أن المرء لا يعثر اليوم على كتبه في المكتبات داخل قسم الأعمال الأدبية بل في قسم الباطنية والروحانيّات. ولم يكن هو نفسه دون مسؤولية في هذا المصير الذي آل إليه. لقد حل جبران مع عائلته بالولايات المتحدة سنة 1895، وسرعان ما وجد نفسه مختلطا بالأوساط الفنية لمدينة بوسطن حيث غدا الجميع مفتونين بذلك "الفتى السوري ذي الشعر الأسود الطويل والعينين الحزينتين"، كما يصفه أحد معاصريه. وبسرعة ما أدرك جبران الرصيد الإيجابي الذي يكمن في أصله المشرقي، وعرف كيف يستغله من أجل الفرار من ضيق الأحياء الفقيرة، ولم يتردد في تقمص دور الحكيم القادم من المشرق الذي أُنيط به.

 

أديب المهجر جبران - همزة وصل بين الشرق والغرب

 

وبعد وفاته اتسع مدى إشعاع شخصيته أكثر. وقد ألفت باربارا يونغ - سكريترته ومستودع أسراره خلال سنوات حياته الأخيرة - كتاب "هذا الرجل القادم من لبنان"، واضعة بذلك كتابا ذا طابع بيوغرافي زاد في ترسيخ الصورة الأسطورية عن الرجل. كما أن كلا من خليل حاوي، الذي تطرق بعمق وبطريقة نقدية وجدية إلى أعماله الأدبية، وكذلك بيار دحدح الذي وضع سيرة عن جبران قائمة على بحث دقيق، ولئن تميزا بخروجهما المستحبّ عن المعزوفة المدائحية الجماعية المنبهرة، إلا أنهما لم يفلحا في التقليص بصفة دائمة من الهالة السحرية التي تحيط بجبران.

والآن ها هو ذا ألكسندر النجار يقدم سيرة جديدة عن جبران. إلا أن من ينتظر من هذا الكاتب ذي المؤلفات الغزيرة من الروايات التاريخية المسلية نبرة معتدلة ورصينة تتناسب ومواصفات الكتابة العصرية فإنه سرعان ماسيرى آماله تخيب. وكأغلب من سبقه من كتاب السيرة، يبدأ النجار بمحاولة تقديم صورة عن المحيط الطبيعي المذهل حقا لموطن جبران الأصلي، ليمنى في محاولته هذه بفشل ذريع: "على الضفة الشرقية للمتوسط، هناك حيث تلتقي في شمال لبنان ثلاث قارات وثلاث ديانات تقع بشارة. ضباب كثيف يتصاعد من الوادي مثل دخان يطلع من محرقة بخور. ممتزجا بألحان ناي لراع وحيد وسط المراعي يمضي ذلك الضباب مندفعا فوق الأجراف الصخرية."

علاقة جبران بالمرأة

إن القارئ الذي سيضع هذا الكتاب جانبا مللا من هذا الأسلوب اللفظي الرنان سيكون قد تصرف بطريقة مبررة، إلا أنه سيكون قد فوت على نفسه أيضا قراءة تعد في مجملها مسلية مع ذلك ومليئة بالمعلومات. أما إذا ما عود المرء نفسه على أسلوب النجار المعروف في رواياته أيضا بنبرته المزعجة التي تحاكي بطريقة متأرجحة بين الفتور والتقليدية المتقادمة أسلوب الكتابات النثرية للقرن التاسع عشر،

واستطاع علاوة على ذلك أن يقر له بأنه يتوصل بنمطه السردي الساذج إلى وصف أشياء ما كان له هو الباحث السيري أن يعرفها البتة، فإنه سيجد نفسه مكافأ بما يقدم له من صورة عن مسار تراجيدي لحياة فنان بين أميركا وباريس ولبنان. غير ممل سيكون على أية حال من كان لديه ما يرويه: أجواء بوسطن وباريس لفترة ما بين القرنين (التاسع عشر والعشرين) والظروف العائلية الصعبة لجبران تعبر عن نفسها هنا، مثل عمله المشترك مع كتاب عرب آخرين في نيويورك، وكذلك الكيفية التي تُقبّلت بها أعماله داخل العالم العربي، أو موقفه السياسي بعد انهيار الامبراطورية العثمانية. وإن ما يجدر بالتنويه بصفة خاصة علاوة على هذا كله أن النجار لم يكتف بالوقوف عند الأعمال الأدبية لجبران وتقديم تأويلات لمذهبه الديني التوفيقي ولتأثره بكتاب أوروبيين مثل بلاك ورينان أو نيتشة، بل فسح المجال أيضا لأعماله الفنية في مجال الرسم كي تستعيد مكانتها المستحقة.

كما أن الكاتب قد أولى العلاقات الإنسانية لجبران مكانة أهم من ملابسات المحيط الفكري التاريخي. وقد تطرق النجار إلى موضوع علاقة جبران بالمرأة، الذي غالبا ما يتم التعتيم عليه من باب الحياء، بصراحة خالية من الكلفة ودون هوس البحث عن الإثارة أو الإشراق. لهذا السبب وبسبب ما ساقه من الشواهد الغزيرة من مراسلات جبران، وما لم يحجبه من مظاهر الضعف الإنساني كعدم قدرته على النقد فإن جبران، وبالرغم من عملية التفخيم التي لم ينج منها النجار أيضا، يتراءى هنا أكثر قربا إلينا مما هو عليه في بقية كتب السيرة التي ألفت عنه.

ستبدو الحوصلة بشأن هذا الكتاب ذات طابع مزدوج إذن: إن كتاب ألكسندر النجار لا يفي بالمتطلبات الأدبية للمقاربة ولا بالمتطلبات العلمية لعمل بيوغرافي. إلا أنه جاء يمثل مدخلا ناجحا إلى حياة وآثار جبران الإبداعية، ويكوّن بذلك بديلا عن السيرة المطولة لدحدح التي غالبا ما تتيه عبر560 صفحة داخل جزئيات وتفاصيل مضجرة ومتعِبة.

 

 أندرياس بفليتش

ترجمة علي مصباح

حقوق الطبع قنطرة 2006

 

ألكسندر النجار: "خليل جبران مؤلف النبيّ".

نقله عن الفرنسية هريبرت بيكر. شيلر للنشر.

برلين 2006