نزهة بوعزة تكتب: أسلمة المفاهيم الحداثية - عملية استهلاكية أم إنتاج معرفي؟

 نحاول أن نتبنّى مقومات الحداثة بكثير من التعسف التراثي، فكل ما استجد يجب أن نجد له تأصيلاً ماضوياً لنقبل به، كأنّ قبولنا أو رفضنا بات أمراً مطروحاً أصلاً، كما لو أنّنا مازلنا نشعر بالتعالي على كل الشعوب؛ فلا نسعى من وراء الحضارات الأخرى للتعلم والاستفادة والدمج، بقدر ما نحاول أن نستعير العدة لقراءة التراث.

الأمر أشبه بالتواجد داخل دائرة، حيث لا نسعى لتسطير مسارنا المستقبلي؛ بجعله مفتوح الأفق، بقدر ما نحاول أن نستمتع بالدوران حول المركز الأصلي أكبر مدة ممكنة، فهو الغاية والمنتهى. في الحقيقة نحن نعمل على تجميل الخطاب الحداثي بالعدة التأصيلية؛ حتى يصير مقبولاً وقابلاً للابتلاع والهضم، نخاف أن نواجه ما هو كائن؛ فعن أيّ إسلام نتحدث اليوم؟ لمَ نقفز على تجربة الإسلام الراهن، لنسقط في براثن إسلام الأصول؟ ألا نجعل بذلك من تجربة إسلام الأصول تجربة لا زمنية متعالية، قادرة على الاستدعاء والتواجد على مر التاريخ؟ أليس إهمال إسلام الراهن نوعاً من التحجر الزمني؟

 

لقد وصلنا إلى تجربة زمنية يحكمها التسارع الزمني، ممّا يستوجب ابتكار وإنتاج آليات تناسب هذا الواقع، عوض البحث داخل جرة الماضي عن معول سراب التمنّي

 

ما نعيشه اليوم هو تجربة إسلامية حديثة عن إسلام الأصول، إنّها تعكس إسلاماً صورياً، هو إسلام أشبه بالنظام البروتستانتي المسيحي؛ يرتبط بالأفراد أو بعض الفئات، لا بالإطار العام المؤسّس للدولة؛ لأنّ هذا الإطار يعمل وفق مؤسّسات ونظم تسير وفق التحديث العالمي، ممّا يجعلنا نسقط في خطاب نخبوي، يتبنّى محاولات تأصيلية ترتفع عن حقيقة هذا الواقع، نوع من أسلمة المفاهيم، نمط تأملي يوحي بأنّنا لا نقبل خطاباً إلا إن كان ينتمي لموروثنا، في حين أنّ عملية المقارنة لا تستقيم، إذ تنطلق من حقبتين زمنيتين مختلفتين، حيث يستوي الماضي بالحاضر، ممّا يسقطنا في اللّامعقولية التاريخية، إنّه نوع من الاستغراق في سراب الثبات والتمسك بالفكر الماضوي، أفق مستقبلنا ينفتح نحو الوراء وليس العكس، واقع تجربتنا يدين لنا بالاعتراف بأنّ عملية الأسلمة التي نقوم بها تضر بالثراث أكثر ممّا تنفع عملية التحديث، إنّه نوع من الوهم السرابي بامتلاك الحل قبل تشخيص الإشكال.

راهننا يعكس بالمقام الأول حضارة عالمية مغايرة، لا تسير وفق تراثنا، لقد وصلنا إلى تجربة زمنية يحكمها التسارع الزمني، ممّا يستوجب ابتكار وإنتاج آليات تناسب هذا الواقع، عوض البحث داخل جرة الماضي عن معول سراب التمنّي، التراث تجربة حققت ذاتها في ظل سياقها الزمني، وإخراجها من ذلك السياق تعسف وتدنيس لها.

إنّ العملية برمّتها تعكس مجموعة من التجارب التاريخية المتعالية عن التقييمات التحجيمية، التي قد تربط خصوصيات هذا الراهن بدلالة موروثها؛ عملية تستوجب:

  - الاعتراف بماهية وطبيعة إسلام اليوم، بدلاً من المزيد من عمليات التمطيط في قراءات تحاول إحياء الماضي بآليات معاصرة؛ تجعل من نموذج إسلام الأصول النموذج الأوحد، دون إمكانية ابتكار غيره من الأشكال.

 - العمل على تشخيص مفاهيم وآليات عمل إسلام اليوم، وليس القفز عليه، وتصدير خطابات فوقية،  ما دام الرجوع إلى التراث هو في الغالب رجوع استهلاكي، يعيد بناء هذا الماضي وفق ما نحن عليه، كأنّنا بمسار خطي ثابت ومتصل، لا فرق فيه بين تجربة ماضية وأخرى طور التشكّل.

- الاستعانة بالنموذج الغربي استعانة استهلاكية محضة، استلهام بغاية الاجترار وليس الإنتاج، على غرار الاستهلاك الماضوي، في كلتا الحالتين نعجز عن إنتاج معرفة خاصّة بنا، تعكس هويتنا وفاعليتنا الذاتية، هذه الفاعلية التي ليست بالضرورة على مقاس حداثي أو تراثي، بل فاعلة في احتكاكها بحضارات أخرى، تصير قادرة على توليد أنماط معرفية أخرى.

- تجاوز مخاوف الانصهار في ثقافة مغايرة؛ لأنّ الانصهار السلبي غير مطروح، ما دمنا ننطلق من هوية مختلفة وسياق آخر، إذاً المطروح هو انصهار منتج يرتبط بما نحن عليه اليوم، وما نطمح إليه مستقبلاً.

ما علينا سوى مواجهة حقل تجاربنا الحاضرة، والتسليم بأنّ  الحاضر لا يقرأ الماضي، والماضي بدوره لا يقرأ الحاضر، فكلاهما متحرك

- الاعتراف بضرورة التجاوز الحامل لنمط التغير، وعدم القفز عمّا نعيشه والتماهي مع طوباويتنا الماضوية؛ لأنّ حقول التجارب التاريخية ليست محايدة ولا متعالية عن مجريات العالم، بل إنّها تعكس البنية الزمنية لهذا السياق المعاصر.

- تحديد السياق التاريخي الذي نعيشه اليوم، والعمل على تحفيز القيم الإنسانية التي ننطلق منها سواءً كانت دخيلة أو تتأصل في ثقافتنا؛ لأنّ التغيير يأتي من وعي البنية التحتية بمقومات التجربة التي نعيشها اليوم.

- تجاوز مخاوف هدم الطوباوية الماضوية، لأنّ الهدم بشكل تام أمر محال، هو أقرب ما يكون نوعاً من التحدي الاستعاري الظرفي، المرتبط بالسياق الراهن؛ قصد التمهيد للبناء من جديد.

   إذن، ما علينا سوى مواجهة حقل تجاربنا الحاضرة، والتسليم بأنّ الحاضر لا يقرأ الماضي، والماضي بدوره لا يقرأ الحاضر، فكلاهما متحرك، والحركة هنا ترتبط بحقل تجربة كل واحد منهما، لأنّها مسيّجة بسقف سياقها التاريخي، فلكل عتبة تاريخية مقوماتها المفهومية والدلالية، ولا يفهم التحرك على أنّه انسلاخ عن الماضي، هو نوع من "السلب مع الإبقاء"، على غرار جدلية هيجل، كما أنّ الانسلاخ في حدّ ذاته لا يحمل تبخيساً للماضي، فقيمة التراث ترتبط بسياق تجربته الزمنية الخاصة به، وإخراجه من هذا السياق إعدام له، وكلّ تجربة تخضع لنمط تحولي ذاتي، كما تخضع أيضاً لتدمير ذاتي، فتدمير الذات هو تمهيد لإعادة بنائها، وليس لاندثارها.

الكاتبة: نزهة بوعزة

مصدر المقال: موقع حفريات