فلسفة عربية سياسية من شأنها تهذيب الشعبوية الغربية؟

في زمن الشعبوية الأوروبية هل آن أوان أن يستفيد القارئ الأوروبي -الناطق مثلاً بالألمانية- من فلسفة سياسية عربية معاصرة ناضجة حول نموذج المجتمع الليبرالي؟ الفيلسوف اللبناني ناصيف نصّار رأى في الانحلال الطائفي وتجارب الظلم ببلاده مناسبةً لإعادة التفكير الجذري في مسألة السياسة برمتها، مكرساً حياته في البحث عن نظام عادل داخل لبنان وخارجه. الباحث ميشائيل فراي كتب بالألمانية كتابًا مشوّقًا يتيح مدخلًا لأعمال ناصيف نصّار لأول مرة بلغةٍ أوروبية. سونيا حجازي لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Sonja Hegasy

يتوجّب على كلّ من يقدّم "أطباقّا غذائية" من الفلسفة غير الأوروبيّة أن يُحضِّر "ملاعق أكل الطعام" المناسبة، وإلّا فإنّه سيتعذّر على الجميع باستثناء قلّةٍ قليلةٍ من الخبراء فهم ما يحدث ومعرفة الأفكار السائدة هنالك، وذلك لغياب الأدوات الضروريّة.

ولهذا يطرح ميشائيل فراي في الصفحات الأولى لكتابه "ليبراليّة المصلحة العامة" سؤالًا عامّا: كيف على المرء أن يقرأ الفلسفة العربيّة المعاصرة؟

ويعرّف فراي في كتابه بفيلسوفٍ مجهولٍ لدينا في ألمانيا، وذلك على الرغم من تأليفه لأعمالٍ ضخمة شهدت تفاعلًا واسعًا في المنطقة العربيّة:

إنّه ناصيف نصّار، المولود سنة 1940، والذي شغل منصب أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة حتى خروجه للتقاعد سنة 2005. وقد عاد نصّار بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون إلى بلده الأم لبنان سنة 1967، ومنذ ذلك الحين صار يكتب مؤلّفاته باللغة العربيّة عِوَضًا عن الفرنسيّة.  

الغلاف الألماني لكتاب ميشائيل فراي: "ليبراليّة تراعي المصلحة العامّة. الفلسفة السياسيّة لناصيف نصّار في السياق اللبناني".  Verlag Velbrück
"لقد صدر كتاب فراي في وقتٍ يخوض فيه لبنان معركةً من أجل توزيعٍ عادلٍ للسلطة وهو يشهد كذلك تشكيكًا مبدئيًّا في نظام التمثيل الطائفي (المحاصصة الطائفية). والوقت مناسبٌ الآن ليتعرّف القارئ الناطق بالألمانيّة على مفكّر لبناني قد أنتج أعمالًا ناضجةً تتناول مسائل الديمقراطيّة والليبراليّة والعدل، وهي أعمالٌ يجري تقديمها للمرّة الأولى بإحدى اللغات الأوروبيّة"، كما تكتب سونيا حجازي حول كتاب الباحث ميشائيل فراي الصادر باللغة الألمانية: "ليبراليّة تراعي المصلحة العامّة. الفلسفة السياسيّة لناصيف نصّار في السياق اللبناني".

ولقد كان لأجواء التفاؤل السياسي السائدة في الستينيّات تأثيرٌ -على ذلك الكاتب الشاب- أشد جاذبيّةٌ من البحث عن مستقبلٍ وظيفيٍ في الغرب. وقد زاول في بيروت مهمّة التدريس الأكاديمي في الجامعة، وفي الوقت ذاته مهمّة تكوين وتأهيل مدرّسي مادة الفلسفة، حيث كان للجدل القائم حول تمكين تلامذة المدارس من التفكير الذاتي في دول الشرق الأوسط الخارجة لتوّها من الاستعمار، ارتباطٌ شديدٌ بإرساء البرامج التعليميّة داخل أسوار الجامعات.

وقد أصبح نصّار ناقدًا نشيطًا مناوئًا لكل الرؤى المنغلقة للعالم وفيلسوفًا سياسيًّا لا تزال مؤلّفاته تُنشر إلى يومنا هذا لدى كبريات دور النشر العربيّة.

الفلسفة واختبار الخطوط الحمراء

يستشهد فراي بمقولةٍ لزميله المغربي الفيلسوف محمّد المصباحي والتي يصف فيها هذا الأخير الفلسفةَ بأنّها مثل "المشاغِبة" التي دائمًا ما تتلمّس الخطوط الحمراء، مثلها في ذلك مثل جماهير المتظاهرين في المنطقة العربية. ولقد استطاع ميشائيل فراي توثيق حيويّة ومباشرة الجدل الفلسفي في المنطقة عبر عديد الإحالات المشوّقة لوسائل إعلامٍ عربيّةٍ، سواء أكانت رقميّةً أم مطبوعة.

وهو ينوّه كذلك بالأصوات المتنوّعة من بيروت إلى الدار البيضاء والتي أصبحت اليومَ تعطي لنفسها قدرًا أكبر من الثقة والاحترام، وذلك على خلاف ما تلاقيه تلك الأصوات خارج المنطقة العربيّة في أحيانٍ كثيرة. ففي عام 2018 قام معهد العالم العربي بباريس بالاشتراك مع الجامعة الأنطونيّة ببيروت بتكريم ناصيف نصّار على مجموع أعماله التي أنجزها طيلة حياته.

ويستعرض فراي بدايةً في كتابه بشكلٍ مفصّل اثني عشر مؤلَّفًا بالإضافة لستّ مجموعات مقالاتٍ للكاتب اللبناني. وهذا في حدّ ذاته عملٌ مبهرٌ يستحقّ أن يُقرأ الكتاب من أجله لا غير. وقد وُفِّق ميشائيل فراي في رسم خطوطٍ عريضةٍ تسهّل على القارئ الغوص في رحاب هذا العمل وفهمه.

ويَخلُص فراي لنقطتين جوهريتين في أعمال نصّار: الأولى وهي تجاوز الفكر الأيديولوجي والذي يؤدّي مرّة بعد أخرى بالمجتمعات للحضيض السياسي، والثانية مسألة البحث عن نظامٍ عادل. وقد برزت المسألة الأخيرة خاصّة بعد صدور كتاب نصّار "منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر" سنة 1995.

التحلّل الطائفي للمجتمعات في دائرة الضوء

ويبيّن فراي النقاط التي يتواصل فيها فكر نصّار مع الفلسفة المعاصرة وكيف أنّ إنتاجه الفكري يطرح في ذات الوقت أسئلةً وجوديّةً تشغل الجميع: "رأى كلٌّ من نصّار وهوبز الانحلال الطائفي لمجتمعيهما وتجارب الظلم الحاصل فيهما مناسبةً لإعادة التفكير الجذري في المسألة السياسيّة برمّتها".

وهو يقارن كذلك منطلقات نصّار مع مفهوم سلعنة المجتمع لهلموت بلسنر مقابل التوجّه الفكري الطائفي للجماعة (بلسنر).

 

 

ولا يسع المرء إلّا أن يتمنّى لكِتاب فراي أن يطّلع عليه الفلاسفة وكذا علماء الاجتماع الألمان. أم أنّه كتابٌ مفرطٌ في تخصّصه؟ وبماذا يستطيع مؤلِّفٌ عربيٌّ أن يدلي بدلوه في مسألة الجدل الحاصل بين المملكة المتّحدة وأوروبا؟

ويرى ميشائيل فراي بأنّ هذا التفاعل ليس مجرد أمنيةٍ علميّةٍ فحسب، بل هو أمرٌ ضروريٌّ من أجل التفاهم "حول الطبيعة الملزِمة للمصطلحات العابرة للثقافات مثل العدل والتسامح والحريّة وبعض الحقوق المعيّنة"، وذلك في عصرٍ يشهد انتشارًا متسارعًا للعولمة.

فكيف تبدو اليوم على سبيل المثال مقوّمات المجتمع الأوروبي من أجل الليبراليّة والروح الجماعيّة؟ وهل يمكن أن يوجد هنا انعكاسٌ للمصالح المشتركة؟ وما بوسع النموذج المجتمعي الليبرالي أن يقدّم في خضّم زمن الشعبويّة؟ والأهم من ذلك: لمَن؟ وكيف سيكون الحال إن ارتأت أغلبيةٌ من الناس في أوروبا أو أمريكا ألّا رغبة لها بممارسة الديمقراطيّة بعد اليوم؟

إذن فإنّ كل تلك التساؤلات تتطلّب حلولًا عاجلةً تتخطّى حدود المألوف والمعتاد.

الفلسفة كممارسة تضامنٍ نابعٍ من روح العقلانيّة

ولكن ولحدّ اللحظة فإنّ الانفتاح المنطقي على الآخر فيما يخصّ المفاهيم الفلسفية لا يسير سوى في اتجاهٍ أحاديٍّ لا غير. إذ أنّ المقصود بتلك الأسئلة هو تبيان أنّ الفلسفة كأحد صور التضامن المُعاش والنابع من روح العقلانيّة.

وهكذا وجب تصوير لبّ كتابات نصّار، والتي يتصدّى فيها هذا الأخير لكلّ شكل من أشكال إسقاط النسبويّة على الديمقراطيّة (والتهوين من شأنها)، وهو ما يشهد تصاعدًا مطردًّا في القرن الحادي والعشرين.  

ويصدر كتاب فراي للأسواق في فترةٍ يشهد فيه لبنان معركةً من أجل توزيعٍ عادلٍ للسلطة، ويجابه فيها نظام التمثيل الطائفي (المحاصصة الطائفية) تشكيكًا مبدئيّا. فكثير من المواطنين يرمون في هذه الأيّام بالتحديد إلى أن ينزعوا عنهم ديمقراطية المحاصصة السخيفة تلك، وهي التي فُرضت على العراقيين بدورهم فرضًا سنة 2003.

 

 

إذن فالآن هو الوقت المناسب لكي يتعرّف القارئ الناطق بالألمانيّة على مفكّر لبناني أنتج أعمالًا ناضجةً تتناول الديمقراطيّة والليبراليّة والعدل، أعمالًا تقدَّم للمرّة الأولى بإحدى اللغات الأوروبيّة.

إضافةً إلى ذلك وجب التنويه هنا بأن لفراي الجرأة اللازمة للتنبّؤ بمستقبلٍ زاهرٍ للعالم العربي! فقد بيّنت الاحتجاجات المنظّمة في المنطقة العربيّة والمتكرّرة الحدوث بأنّه ليس من السهل إزاحة الأفكار التحرّرية والنقديّة من الوجود، وهي التي "أضحى تأثيرها يمتدّ بشكلٍ متسارعٍ ليشمل حتّى عالم الأفكار اليوميّة".

إنّ عدم تقديم مفكّرين من أمثال ناصيف نصّار (وغيره من المفكرين من خارج أوروبا) ينتج عنه في كثيرٍ من الأحيان مغالطةٌ مفادها بأنّه لا وجود لمفكرين نقديّين أو قادرين على النقد الذاتي بل ولا وجود لنقاشاتٍ عموميّةٍ حول أولئك المفكّرين في بلدانهم.

 

سونيا حجازي

ترجمة: صهيب زمال

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

كتاب الباحث ميشائيل فراي باللغة الألمانية: "ليبراليّة تراعي المصلحة العامّة. الفلسفة السياسيّة لناصيف نصّار في السياق اللبناني". إصدار دار نشر فِلبروك للعلوم سنة 2019، 404 صفحات، رقم الإيداع الدولي:

ISBN 9783958322011