قائد أوروبي استقبله الشرق كفاتح منقذ

الإسكندر المقدوني الأكبر شعر على ما يبدو أنه مُرسَل برسالة إلهية من أجل توحيد الشرق والغرب على مبادئ إنسانية بحملة عسكرية تحقق السلام الدائم. الكاتب فرج العشة.

الكاتبة ، الكاتب: فرج العشة

بعدما اعتلى الإسكندر المقدوني عرش بلاد اليونان وهو في العشرين، ثم أكد تأمين أركان حكمه خلال بضع سنوات،  تفرغ لحملته التاريخية الكبرى في سبيل تدمير الإمبراطورية الفارسية.

فكان بذلك أول غازٍ أوروبي للشرق، على رأس جيش يوناني، قليل التعداد نسبياً، لكنه مُشكَّل من محاربين محترفين أكفاء وجنرالات من الأمراء والنبلاء، عززه لاحقا بمقاتلين مجنّدين من الشعوب والأقوام التي حررها من استعباد الفرس.

وإلى جانب هدفه العسكري في تدمير الإمبراطورية الفارسية (الأخمينية) كان مأخوذا بحضارات الشرق (البابلية والفرعونية والفينيقية) عبر مؤثراتها الدينية والفلسفية والعلمية (الابتدائية) التي لاحقت الحضارة الإغريقية في جذورها.

وهنا يحضر الفيلسوف آرسطو الذي اتخذه والد فيليب الثاني ملك مقدونيا معلماً خاصاً لابنه الإسكندر ولي العرش عندما كان في الثالثة عشرة من العمر.

تعلم الإسكندر على فكر آرسطو لمدة ثلاث سنوات، وكان معه نخبة من أبناء الأمراء والنبلاء، الذين غدا عدد منهم رفاقاً مقربين وقادة بارزين في جيشه.

الإسكندر الأكبر - الملك الغازي الشاب المتمتع برؤية كونية

وبما نعرفه عن فكر آرسطو الفلسفي والعلمي وعلى ما تذكره مرويات المؤرخين القدامى، فإن الإسكندر تلقى من آرسطو دروساً في فلسفة السياسة والحكم والأخلاق والمنطق والشعر والبلاغة وعلوم الطبيعية والطب والحيوان، حتى أنه، بتأثير معلمه اصطحب بمعية حملته العسكرية بعثة علمية من علماء الحيوان والنبات والطب لاستكشاف معارف جديدة عن علم الحياة والزراعة والأدوية. 

ولكن المعلم لم يكن له (على ما جاء في كتاب "موراليا" للفيلسوف والمؤرخ اليوناني بلوتارخ 46 م - 120م) تأثير جوهري في تشكيل تفكير الإسكندر ورؤيته الحضارية تجاه آسيا وشعوبها.

 

 الإسكندر المقدوني الأكبر  ُ Alexander der Grosse Alexander and Bucephalus Battle of Issus mosaic  Museo Archeologico Nazionale   Naples Foto Wikipedia
أول غازٍ أوروبي للشرق: ا الإسكندر المقدوني ُستقبل استقبال الفاتحين المنقذين من لدن الشعوب المُستعمَرة (المصريون في بلاد الفراعنة وقبلهم استقبله الفينيقيون في أراضي فينيقيا: سوريا لبنان فلسطين الحالية) الذين ذاقوا تحت طغيان حكم الفرس الويلات بسبب الضرائب المُفقِّرة وإنزالهم منزلة المستعبَدين وإهانة عقائدهم وشعائرهم المقدسة. وها جاءهم الفاتح الرسولي المفاجئ قائلا: ينبغي ألا يميّز اليوناني عن الآخرين باللباس ولا بالسيف ولا بالدرع، بل: بالفضيلة. وإن الأجنبي عن "الحاضرة العالمية الجديدة" ليس هو الفارسي ولا هو الفينيقي ولا هو المصري ولا هو الهندوسي، إنما هو الإنسان الجائر فاقد فضائل الإنسانية. الإسكندر الأكبر شعر على ما يبدو أنه مُرسَل برسالة إلهية لأجل توحيد الإنسانية. كان أشبه بالفاتح الرسولي، وما حملته العسكرية الكبرى سوى وسيلة ضرورية لإقامة عالم واحد، يتوحد فيه الشرق والغرب في ثقافة مشتركة، ويتحقق فيه السلام الدائم. فكان يدعو المهزومين أمامه في معاركه المتوالية بالنصر أن يعتنقوا رؤيته ليكونوا من رعايا مملكة "الحاضرة العالمية" الآمنة المزدهرة.

 

إذ من المعروف أن آرسطو كان يرى، من منظور إغريقي ثقافي سائد ومتجذر ، أن الإغريق يمثلون أصالة الجنس البشري وأن أثينا هي مركز العالم وأن حضارتها هي أم الحضارات، حيث كل ما هو غير إغريقي هو بربري.

وبالتالي فإن الشعوب الأخرى "البربرية" الخاضعة لسيطرة اليونانيين لا تستحق حقوق المواطنة الإغريقية.

بعكس ذلك كان الإسكندر الملك الغازي الشاب يتمتع بقدرات معرفية ذاتية استثنائية، متأثرة بالرؤية الكونية لمبادئ «الرواقية» المستمدة من أفكار الفيلسوف الإغريقي زينون، والدائرة حول "أخوة البشر" كما لو كانوا قطيع خراف يشترك في المرعى الواحد. كما جاء في كتابه "الجمهورية".

بمعنى يجب ألا يتفرقوا مدناً وشعوباً، واعتبار أن لكل الشعوب والأقوام قوانينهم الخاصة وأن كل الناس هم مواطنون أخوة، ولهم حياة واحدة ونظام واحد للأشياء كما لو كانوا قطيعاً موحداً في ظل القانون المشترك.

كما أنه تأثر في سنه المبكرة بتجربة الملك الفارسي كورش الأكبر وأفكاره، من خلال اطلاعه على موسوعة "السيروبيديا" Cyropaedia للفيلسوف والمؤرخ الإغريقي الشهير زينوفون (430 م.ق ـ 354 ق.م) الذي وصف الملك كورش قائلاً: "لا يوجد رجل آخر فى العالم غير كورش، استطاع أن يطيح بإمبراطورية، وعلى الرغم من ذلك يتوفى ملقبًا بالأب من قبل الشعوب التى أخضعها لسلطته. فمن الواضح أن مثل هذا اللقب يُمنح لشخص يعطى ولا يأخذ.".

وذلك لأنه حكم إمبراطوريته الواسعة على وصايا أخلاقية إنسانية، تُعتبر اليوم كأول وثيقة لحقوق الإنسان في التاريخ. تتضمن الوثيقة مبادئ أساسية في إشاعة التسامح وحرية الاعتقاد والمساواة بين رعايا الإمبراطورية على مختلف أقوامهم وأعراقهم ولغاتهم.

وهكذا فإن الإسكندر الأكبر شعر على ما يبدو أنه مُرسَل برسالة إلهية لأجل توحيد الإنسانية. كان أشبه بالفاتح الرسولي، وما حملته العسكرية الكبرى سوى وسيلة ضرورية لإقامة عالم واحد، يتوحد فيه الشرق والغرب في ثقافة مشتركة، ويتحقق فيه السلام الدائم. فكان يدعو المهزومين أمامه في معاركه المتوالية بالنصر أن يعتنقوا رؤيته ليكونوا من رعايا مملكة "الحاضرة العالمية" الآمنة المزدهرة.

وبذلك اُستقبل استقبال الفاتحين المنقذين من لدن الشعوب المُستعمَرة (المصريون في بلاد الفراعنة وقبلهم استقبله الفينيقيون في أراضي فينيقيا: سوريا لبنان فلسطين الحالية) الذين ذاقوا تحت طغيان حكم الفرس الويلات بسبب الضرائب المُفقِّرة وإنزالهم منزلة المستعبَدين وإهانة عقائدهم وشعائرهم المقدسة.

وها جاءهم الفاتح الرسولي المفاجئ قائلا: ينبغي ألا يميّز اليوناني عن الآخرين باللباس ولا بالسيف ولا بالدرع، بل: بالفضيلة. وإن الأجنبي عن "الحاضرة العالمية الجديدة" ليس هو الفارسي ولا هو الفينيقي ولا هو المصري ولا هو الهندوسي، إنما هو الإنسان الجائر فاقد فضائل الإنسانية.

لقد كانت حملته لعسكرية الكبرى محمولة على دعوة كونية تُريد أن تجعل من كل الناس الذين غزا ممالكهم وإمبراطورياتهم يؤمنون بأن الأرض كلها وطنهم ويعتبرون جيشه الخصوصي "قلعتهم الحصينة". وبالتالي نجده، بحسب المؤرخين، يُغيب التمييز العرقي / الثقافي بين البشر ويحل تقسيم أخلاقي يميز بين أهل الخير وأهل الشر، حيث أهل الخير هم المواطنون الصالحون في صفه، وأهل الشر هم الأشرار المنبوذون خارج "الحاضرة العالمية".

بدأ الإسكندر حملته العسكرية الكاسحة بالقضاء على قوات الفرس في المستوطنات الواقعة في الشمال الشرقي آسيا الصغرى (تركيا اليوم). ثم هاجم بأسطوله البحري المتفوق قواعد الأسطول الفارسي المسيطر على بحر إيجة في مدن الموانئ الفينيقية على الساحل السوري (سوريا ولبنان اليوم) مثل طرطوس وطرابلس وصيدا وصور. بعدها عبر من غزة الفلسطينية لغزو مصر والقضاء على حكم الفرس فيها.

وقبل أن يتحرك بجيشه لغزو إمبراطورية الفرس في عقر دارها ببلاد ما بين النهرين، ذهب من الإسكندرية المؤسسة باسمه لتوها، في مهمة خاصة مع قوات مختارة، في رحلة حج روحية إلى معبد آمون الرئيس بواحة سيوة الواقعة (اليوم) عند الحدود المصرية مع ليبيا، والتي كانت جزءاً من ليبيا القديمة جغرافية ولغة وثقافة، حتى أن سكانها لا يزالون حتى اليوم يتكلمون اللغة الليبية القديمة، ويرتدون الملابس الليبية الشعبية.

كانت واحة "سيوة" تُسمى في تلك العصور "واحة آمون". وآمون، في الأصل، إله ليبي محلي، موصوف برب الأرباب الخفي. خالق نفسه القادر على إعادة خلق نفسه. آيته الأفعى تطرح جلدها لتتجدد بجلد جديد. وعلامته الفارقة ريشتان طويلتان مرشوقتان فوق رأسه. فهو ليبي بعلامة الريشتين أو فيما بعد بعلامة قرني الكبش الليبي البريّ (أوداد) كما يُسمى في اللغة الليبية القديمة (يُسمى الآن: الودان).

الغلاف العربي لكتاب "مصر في قيصرية الإسكندر المقدوني" - إسماعيل مظهر. Foto hindawi.org/books
الإسكندر المقدوني الأكبر لقد كانت حملته لعسكرية الكبرى محمولة على دعوة كونية تُريد أن تجعل من كل الناس الذين غزا ممالكهم وإمبراطورياتهم يؤمنون بأن الأرض كلها وطنهم ويعتبرون جيشه الخصوصي "قلعتهم الحصينة": وبالتالي نجده، بحسب المؤرخين، يُغيب التمييز العرقي / الثقافي بين البشر ويحل تقسيم أخلاقي يميز بين أهل الخير وأهل الشر، حيث أهل الخير هم المواطنون الصالحون في صفه، وأهل الشر هم الأشرار المنبوذون خارج "الحاضرة العالمية" .... وإمعانا في تأثر الإسكندر الأكبر المعروف بذي القرنين بقدوته كورش الأكبر المعروف أيضاً بذي القرنين، نجد الأول يعكس المبدأ الخلدوني القائل بأن المغلوب يقلد الغالب بمبدأ تقليد الغالب للمغلوب. وذلك غالبا بغرض كسب القلوب والعقول كمنهج تكتيكي مُجرّب لضمان تبعية المهزومين.

رحلة حج الإسكندر المقدوني الروحية

وقد أدمج الفراعنة الإله آمون في إلههم رع فتوحدا في إله مشترك سموه (آمنرع) في حقبة حكم الأسرة الليبية الفرعونية لمصر (متى !!!!). ثم قارنه إغريق مملكة المستوطنات التي أقاموها على سواحل شرق ليبيا (متى!!!) بزيوس فبنوا له معبداً مهيباً في عاصمتهم قورينا. وعن طريقهم طبَّق صيتُه آفاق بلاد اليونان.

قطع الإسكندر المقدوني، في رحلة حجه الروحية، من الإسكندرية ( التي غدت مكتبتها العظمى بمثابة معارف الحضارات) إلى واحة سيوة، حوالي 500 كيلومتر. وغايته أن يُعمِّد نفسه ابنا للإله آمون: "رب الأرباب الخفي خالق نفسه القادر على إعادة خلق نفسه".

أدخله الكاهن العراف إلى حجرة قدس الأقداس المحرمة على العامة. وعند خروجه ظهر معتمراً قرني الكبش "أوداد" علامة على أنه أصبح ابناً لآمون في هيئة نصف إله. تسابق إليه رفاقه المقربون مستفسرين عما حدث معه في الخلوة المقدسة. أجابهم: "سمعتُ ما أتمنى." ترى ما الذي سمعه؟!.. يقال أنه كتب إلى أمه أنه تلقى توجيهات سرّية. وأنه سيخبرها بها وحدها عند عودته إلى مقدونيا. لكنه  مات دون أن يعود إليها. ليشاع بعد موته أنه سأل أباه الرب آمون من طريق عراف الوحي: "هل سأصبح سيد العالم؟". فردّ عليه بالإيجاب.

من مصر غزا بلاد فارس. خاض معارك عديدة ضد جيوش الفرس استمرت لمدة عدة سنوات، انتصر فيها جميعاً حتى فاز بالحرب بعدما أطاح بالإمبراطورية الفارسية (الأخمينية) العام عام 328 ق م بمقتل ملكها داريوس الثالث، حيث وقف على جثته وقد اخترقت جسده الرماح. فخلع رداءه الملكي وغطى به جثة الملك القتيل وأمر بترتيب جنازة ملكية له ودفنه في عاصمة مملكته في برسبوليس.

توجه بعدها زائراً ضريح "ملك الملوك/ ملك الجهات الأربع" كورش الأكبر ، الذي كُتب على ضريحه، وفقا لبلوتارخ: "أيها الرجل. مهما كنت وأينما أتيت: لأني أعلم أنك ستأتي. أنا كورش الذي ربّح الفرس إمبراطوريتهم. لذلك لا تحسدني على هذه القطعة من الأرض التي تغطي عظامي".

وإمعانا في تأثر الإسكندر الأكبر المعروف بذي القرنين بقدوته كورش الأكبر المعروف أيضاً بذي القرنين، نجد الأول يعكس المبدأ الخلدوني القائل بأن المغلوب يقلد الغالب بمبدأ تقليد الغالب للمغلوب. وذلك غالبا بغرض كسب القلوب والعقول كمنهج تكتيكي مُجرّب لضمان تبعية المهزومين.

فتذكر المرويات التاريخية أنه ارتدى الثياب الفارسية واعتمر الأكليل الملكي الفارسي، وأقام زفافاً ضخماً وأجبر فيه 92 من القادة المقدونيين على الزواج بنساء فارسيات، كما أنه تزوج من امرأتين فارسييتين ستاتيرا و باريساتيس. وأنه اختار قادة من المفكرين في المقاطعات "المُحرَّرة".

وبالنتيجة اُنشئت 70 مدينة تحمل اسمه حول العالم، بما في ذلك أمريكا الحالية، حتى أنه أطلق بنفسه اسم فرسه الأثير بوسيفالوس بعد موتها في غزوة الهند على بلدة بمنطقة بهاء الدين مندي في مقاطعة البنجاب الباكستانية اليوم.

أما المفسرون المسلمون فقد حاروا (حتى اليوم) في تحديد من هو ذو القرنين، أهو كورش الأكبر أم الإسكندر الأكبر، المقصود من وراء القول القرآني: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (..و..) قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.} وذلك "بوصفه" في التفسير الفقهي إنساناً: "على صلاح وإيمان واعتقاد باللّه العظيم، وأنّه كان على بصيرة من أَمره ومَوضع عنايته تعالى فيما انتهجه من الحياة السياسيّة الاجتماعيّة، وفي سبيل إحياء كلمة اللّه في الأرض، بما آتاه اللّه من القدرة والحِكمة وحُسن التدبير." وإذا توقفنا عند سيرة ابن هشام النبوية فإن تسمية الإسكندر بـ "ذي القرنين" هي إشارة إلى فتحه للعالم من الغرب إلى الشرق. أي من أوروبا إلى آسيا.

 

 

 

فرج العشة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de