إيران: الموت والشعر والموسيقى في ظل دكتاتورية الملالي

حكايات مدهشة تفيض ألماً وحباً للحياة، سجناء ينتظرون الإعدام، فيملأون فراغات الموت بالموسيقى الكلاسيكية والشعر والأحلام.يتحدّث الكتاب عن المرحلة التي تلت الثورة الإيرانية عام 1979، فينسج قصّة من حكايات الشخصيات التي تتشارك حجرة المحكومين بالإعدام المزدحمة في سجن إيفين السيئ السمعة في طهران. قصّة مؤثرة للغاية عن الصداقة الحميمة، والطرافة المؤلمة، والذاكرة المفعمة بالعاطفة.

الكاتبة ، الكاتب: إلياس خوري

في شتاء 2011 التقيت بهروز قمري، عالم الاجتماع الإيراني والأستاذ في جامعة الينوي في الولايات المتحدة.

كنت أقضي عامي الدراسي في معهد الدراسات المتقدمة في برلين، وأعمل على إنجاز رواية «سينالكول». كان بهروز زميلاً في المعهد، وكنا نشكّل مع مجموعة من الصديقات والأصدقاء الآتين من العالم الثالث حلقة عملت على تجاوز مناخ الرصانة الأكاديمية في المعهد، بحثاً عن شيء غامض اسمه التضامن وتقييم تجاربنا السياسية في عالم يتحوّل.



عشنا معاً التحولات الكبرى التي أطلقتها الثورة التونسية التي فتحت أفقاً جديداً ما لبث أن تحوّل إلى وعود الربيع العربي في ميدان التحرير في مصر وفي سوريا واليمن وليبيا.



كان هذا الرجل النحيل يعمل على أبحاثه السوسيولوجية، وكانت عناوين نقاشاتنا تمتد من استشراق إدوارد سعيد إلى فوكو والثورة الإسلامية الإيرانية.



في إحدى ليالي برلين المثلجة، وكنا نجلس في مطعم المعهد نشرب النبيذ الفرنسي ونتدفأ بالحكايات، روى لي بهروز حكايته عن أيام سجنه في طهران، حين قررت السلطة الخمينية تصفية اليسار الإيراني بشكل وحشي، عبر قوافل الإعدام التي ذهب ضحيتها آلاف المناضلات والمناضلين الثوريين. وأشار إلى إقامته في القواويش المخصصة للمحكومين بالإعدام في السجن.

 

معتقل ايفين في طهران
في العالم الصاخب الذي يلي الأحداث الكبيرة، يطلق الراوي «أكبر» سراح ذاكرته، فتروي الحياة التي اختبأت تحت عباءة المنتصر وتوارت خلف جدران الانكسار، الحياة التي تتكشّف على عتبة الموت. يتحدّث الكتاب عن المرحلة التي تلت الثورة الإيرانية عام 1979، فينسج قصّة من حكايات الشخصيات التي تتشارك حجرة المحكومين بالإعدام المزدحمة في سجن إيفين السيئ السمعة في طهران. يحكي «أكبر»، بصراحته المذهلة وطرافته اللاذعة، القصة التي تأخذ القارئ إلى ما وراء الصراعات السياسية المجرّدة، إلى تاريخ بديل مفعم بالحياة كتبه الخاسرون.

 



قال إنه عاش ثلاث سنوات في قافلة الإعدام، وروى كيف قاوم الموتى الموت باحتمالات الحياة، في انتظار أن يُفتح باب القاووش ليصرخ السجّان بأحد الأسماء، وكان هذا يعني المغادرة إلى النهاية.



«لكنك هنا»، قلت.



«هذه حكاية أخرى»، قال.



استمعت إلى حكايته وأنا مصاب بالذهول. لم يتحدث عن أرقام وأعداد، بل روى أسماء وحكايات رجال انبثقت فجأة من عتمة القبر لتروي. وقبل أن ينتهي من حكايته قلت له إن هذه الحكايات يجب أن تُكتب.

«لكنني لست كاتباً»، قال، وهو يخفي ابتسامته خلف شاربيه.



وفي صباح اليوم التالي جاءني حاملاً مخطوطة باللغة الإنكليزية بعنوان «نتذكّر أكبر». قال إنه حاول أن يتذكر الشاب الذي كانه، والذي تركه ميتاً في السجن، بسبب إصابته بالسرطان.



«أنت تكتب الأدب»، قلت. «سمه ما تشاء، هذا أنا، أتذكّر نفسي».



«هل أنت مصاب بالسرطان»؟ سألته.



قال إن السرطان أنقذ حياته، «تخيّل المفارقة، أخرجوني من السجن باعتباري ميتاً، وعبر مصادفة غريبة وصلت إلى الولايات المتحدة، حيث خضعت لعلاج كيميائي تجريبي شرس في هيوستن، انتشلني من الموت».

«وهذه حكاية يجب أن تُكتب أيضاً»، قلت.



قال إنه قرر أن يكتب مرة في السنة، فيوم 31 كانون الأول/ديسمبر، مخصص بنهاره وليله للعزلة والكتابة، فيه يستعيد إحدى حكايات تلك الأيام.

حكايات مدهشة تفيض ألماً وحباً للحياة، سجناء ينتظرون الإعدام، فيملأون فراغات الموت بالموسيقى الكلاسيكية والشعر والأحلام.

"في العالم الصاخب الذي يلي الأحداث الكبيرة، يطلق الراوي «أكبر» سراح ذاكرته، فتروي الحياة التي اختبأت تحت عباءة المنتصر وتوارت خلف جدران الانكسار، الحياة التي تتكشّف على عتبة الموت".

وكان على هذا الكتاب أن ينتظر خمس سنوات قبل أن يصدر بالإنكليزية، وأربع سنوات أخرى قبل أن يصدر بالعربية.



أعلم أن الرأي العام مشغول في هذه الأيام بحكاية إيرانية تملأ الشاشات والصحف هي اغتيال قاسم سليماني، لكنني مشغول بمسألة أخرى، هي مصير الانتفاضة الشعبية العراقية، التي تحاول قوى الإمبريالية والتسلط وضعها في زاوية الحروب والخيار بين المغول والبرابرة. كما أن قلبي ينبض على إيقاع الانتفاضة اللبنانية التي تعيد صوغ لبنان من ركام الانحطاط.



وكان كتاب بهروز قمري «قافلة الإعدام» رفيقي، عبر كلماته دخلت إلى طهران الأخرى التي لا يراها أحد، وفي نبضات الشعر وإيقاعات الموسيقى المرتجلة وأنين التعذيب وانتظارات الموت، اكتشفت أن الحياة تستطيع أن تنسج تفاصيلها في عتمة الخوف، وأن الكتابة ليست سوى صدى للموت الذي صار اسماً آخر لحياة صنعها أبطالها في لحظات ما بعد اليأس.



إنه كتاب لا يُنسى، مُلئ ببطولة لا أبطال فيها، وبحكايات صغيرة عن رجال قادهم العسف إلى موتهم وسط أحلامهم بالثورة، فجاء من سرق الحلم وحوّلهم إلى موتى ينتظرون الموت.



إنه كتاب عن الظلال، كيف يتحوّل الإنسان إلى ظلّ نفسه، يختفي الأصل ويبقى الظلّ الذي يعيش كابوس الانتظار.

وفي الانتظار تأتي الحكايات الصغيرة عن صانع أحذية هنا، وشاعر ينهمر شعره على الموت هناك. عن عامل ريفي فقير قاده الفقر إلى طهران، وعن موسيقي شاب يحلم بأن ترافق الموسيقى أحلام الموتى. عشت مع الكلمات صحبة علي وشاهين وغُلام وداوود ومنصور وإبراهيم وأصغر، وأسماء أخرى اكتظ بها الموت.

وأكلتُ الثوم المخلل وثملتُ من أشعار حافظ وانتشيت بالسيمفونية الخامسة لبيتهوفن، وقرأت «ما العمل» تحت مكبر مضاء استطاع أن يفك طلاسم حروفه الصغيرة، وذهبت مع طلاب جامعة طهران إلى المصانع حيث ثار العمال، ومشيت في الشوارع المكتظة «بفدائيي خلق» واليساريين والإسلاميين. ورآني الموت ظلاً مع السجناء، وعانيت مع الراوي السرطان والعلاج وحنو الأمهات الغائبات.



اختار بهروز قمري، عنوان «نتذكر أكبر» لكتابه، كما اختارت دار الساقي عنواناً فرعياً هو «مذكرات سجين في طهران». وعلى الرغم من أن الكتاب منسوج بالذاكرة، لكنه يأخذنا إلى مكان خفي لا يدخله سوى الأدب.



فالأدب وحده يستطيع أن يكتب ذاكرة الموت الذي لا ذاكرة له.

 

إلياس خوري 

حقوق النشر: إلياس خوري 2020

 

بهروز قمري: «قافلة الإعدام، مذكرات سجين في طهران»، دار الساقي، بيروت، 2020.



Behrooz Ghamari: “Remembering Akbar”, Or Books, New York. London. 2016

 

المزيد من مقالات موقع قنطرة

التخويف من الخطر الخارجي ذريعة نظام الملالي لإخضاع الشعب الإيراني

'البلطجة''.....أجندة نظام الملالي

تداعيات مقتل سليماني والمهندس- إيران تتوعد وعراقيون يرقصون فرحاً

الاحتجاجات العربية - انتهاء تاريخ صلاحية أنظمة سلطوية طائفية فاسدة؟

القدس بين الحكومات والشعوب - شعرة لم تقصم ظهر البعير

ندم الناخبين على التصويت لروحاني

مرحلة "اللا عودة" في إيران: عنف الأمن مرآة لذعر نظام الملالي