عن الشخصيات في الرواية. الشخصيات الرئيسية والثانوية في الرواية، بالمحصلة هم بشر يصيبون ويخطئون، ابتعد الكاتب عن تقديم الشخصيات كأبطال أسطوريين، خارقين في القوة والاقناع، بل هي شخصيات منا، وبيننا:
سارة، أول الكلمات.. فيها اختزلت كل السيدات.. في صبرهن وسمرتهن. في محياها صباحات أم يبلل وجهها ماء الوضوء، وعلى التنور تشدو بترانيمٍ وصلوات.. وهي الثكلى إذا ما ودعت فلذة كبدها وهي تواري عليه التراب..
أو ربما فيها تضاريس وطن ولون الحقول.. أو ربما عبق السهل إذا ما استباح عشبه المطر.
«هِيَ بِالكَادِ تَلتَمِسُ طَريقَهَا فَوقَ الحِجارَةِ النَّخِرَةِ، وَتارَةً تَقَعُ أَرْضَاً وهي تَشُقُّ هذا الطَّريق حَافيَةَ القَدَمَيْنِ، حَيْثُ لَمْ يَتَسَنَّ لَها البَحثُ عَنْ نَعلِها الَّذي قَد عَلِقَ بَينَ حَجَرَيْنِ، بَيْنَمَا زوجها يَبْدو مِثلَ جُندِيٍّ مَحشُورٍ في خَندَقِهِ يَتَنَفَّسُ البَارودَ الرَّطِبَ، وصَدَى اِنهِزامَاتِهِ تَعبَثُ في رَأسِهِ»
في الرواية، سارة هي الزوجة المحبة الصابرة على تقلبات مزاج زوجها كمال الذي شوهت إدراكه الزنزانة العفنة التي قد زج في ظلماتها لما يزيد عن عام.. تحت الركام قد فارقها والديها وابنتها الغضة الرضيعة.
هي الأم التي يتنفس من طيبتها ابنها إلياس الذي تمضي به السنون وهو مازال متشبثاً بطرف إزارها في رحلتهم نحو تلال بلاد الشمال. سارة هي قنديل مساءٍ يتوهج مهجٍ في كوخ الجد برنارد المحارب القديم الذي لم يبقَ لديه سوى حفيده ألكسي الذي يرى فيها طيفاً ساحراً من وجه أمه التي قد فارقته طفلاً صغيراً.
"ـــ بُنَيَّ ألكسي! هَلُمَّ نَسكُبُ بعضاً منَ الشَّاي السَّاخنِ لِضُيوفِنا؛ لا بُدَّ أنَّ رياحَ الخَريفِ البارِدَةَ قد اِستَنزَفَتْ كُلَّ ما هو دافِئٌ في هذهِ الأجسادِ النَّحيلَةِ، فلا شيءَ يَبقى دافئاً في ليالي أيلول سِوَى الحُزنِ المُقيمِ في الذَّاكِرَةِ ومِصباحِ نافذَةِ اِنتِظارِنا العَجوزِ".
ماتزال سارة تجر محراثها في حقول الشمال، ويمثل أمامها وجه الواشي الأعرج خائن الجنوب القاتل، ولا يفارق مسامعها صوت النائحات والمعذبات في أقبية الجنوب.
وآن الأوان أن تغادر سارة كوخ الجد برنارد لتمضي وابنها إلياس نحو مدن الشمال.. بينما الفتى ألكسي تصيبه لوعة على فراقها وهو الذي اعتاد أن يشدو معها إذا ما عادوا من حراثة الحقل والتفوا حول قناديل المساء.
"ماذا لَو كانَ اللِّقاءُ طويلاً؟ فنحنُ نُجيدُ الإصغاءَ إلى بعضِنَا البعضِ في هذا الرُّكنِ البعيدِ.
ما السِّحرُ الّذي تختالُ بِهِ تِلالُ الشَّمالِ النّائيةُ؟ وأيُّ فِتْنَةٍ للسُّهوبِ وأغاني الحَصادِ بِلا حضورٍ لِسَيِّدةِ المساءِ!؟ فَلْتذهَبِ المدينةُ ونِفاقُهَا إلى الجحيمِ. كانَ بإمكانِكِ أنْ تكونِي مثلَ جميعِ العابرِينَ، يقضُونَ ليلَتَهُمْ فِي كوخِنَا العتيقِ، وصباحاً بِلا صَخَبٍ يرحلُونَ. لا يوقدُونَ فِي ليلِنَا سِراجَ مُهَجٍ، لا يتركُونَ أسماءَهُمْ بينَنَا، لا صدىً يتركُونَ".
آدم والشقاوة
آدم .. فيه الكثير من شقاوة ومغامرات فتية حقول القرية النهرية، عنفوان مواسم الحصاد وصخب زوارق المساء مع الرفاق.. ودائماً ما كان يجلس إلى أشجار الصفصاف يحمل فرشاته ويرسم النهر وأحلام عن أسفار سندباد. أو ربما يرسم وجه ناديا التي يعمل في مزرعة عائلتها في المدينة الرمادية. لم يكونوا عاشقين كما يجب أن تكون عليه حكايات المحبين، بل دائماً ما كانوا يتعاركون ويقذفون بعضهم البعض بحزم القش، أو يتصارعون فوق طين الحقول. ولكن لا بأس من استراحةٍ لهم على أرجوحة معلقة في سقف الإسطبل:
"يُقبِلُ الفَتى آدَمُ منْ البَعيدِ يَحمِلُ على كَتِفِهِ كيساً قُماشيَّاً فيهِ بَعضٌ منْ خُضارٍ وعَدَسٍ يَلتَقِطُ أنفاسَهُ بعدَ معرَكةٍ يَخوضُها كُلَّ مَساءٍ معَ كِلابِ القَريَةِ، صَدَىً لأَزيزِ رَشَقاتٍ منْ الرَّصاصِ يَتَهادى منْ بينِ الحُقولِ الجدباءِ، يُفَضِّلُ آدمُ أنْ يَتَوغَّلَ بينَ أشجارِ الصُّفصافِ المُحاذيةِ لِضِفَّةِ النَّهرِ، هيَ لم تَعُدْ أَكمَةٌ كثيفَةً كَسابِقِ عَهدِها، حيثُ يُداوِمُ فِتيَةُ القَريَةِ على تَقطيعِ أغصانِها اليابِسةِ لِتَنتَهيَ حَطباً في مَواقِدِ الشِّتاءِ".
العمل في مشغل الخال
هو اعتاد العمل في مشغل خاله النجار، وأصبح يجيد صناعة التوابيت.. لقد اخشوشنت يداه قبل الأوان منذ رحيل أبيه الذي قضى على أيدي جند الجنوب والواشي الأعرج خائن الجنوب.. وأمسى صريع هواجسه المتلاطمة ما بين غاية الانتقام لمقتل أبيه، وما بين لقاء من أحب ليمضي معها رحلتهم نحو الشمال. يغادر آدم نحو بلاد الشمال برفقة صاحبيه عمر، وبلال الذي فقد ذراعه تحت وابل النيران.. يقع الفتية في أيدي جنود المعبد الجنوبي، ليزج بهم في الزنازين، وليشهدوا ما يكون عليه السجان، وما صار إليه السجين.. يقوم آدم في رسم آمر المعبد، ويدور بينهم حوار طويل عن القوة والجمال، عن الفضيلة أو الهلاك دون القطيع:
"عنْ أيِّ جَمالٍ تَتحدَّثُ أيُّها الفَتى الأحمَقُ؟ ما مِنْ جَمالٍ يُنازعُ عَرشَ القوَّةِ أيُّها الأحمَقُ، نحنُ الآلهةُ! فَلتَنظُرْ إليهم مَليَّاً! اُنظر إلى هؤلاء السجناء! تَمعَّنْ في هذهِ الأجسادِ أيُّها الفَتَى وأخبِرني أينَ الجَمالُ الَّذي تَدَّعي؟! ما الجَمالُ الَّذي بِحوزَتِهِم الآنَ؟! هيَّا أخبِرني، أينَ قَطراتُ المَطَرِ السَّخيفَةِ الَّتي تَتحدَّثُ عنها؟! أينَ هُم مِنْ اِبتِسامَةِ فَتاةٍ حَسناءَ؟! أينَ هُم مِنْ جَمالِ السَّلامِ والطَّمأنينَةِ الغَبيَّةِ الَّتي تُثَرثِرُ بها؟! أيُّها الأبلَهُ؛ لقد كانوا يُجبِرونَكُم على الجُلوسِ والاِستِماعِ كالخِرافِ لِتَصْغوا إلى ذلكَ المُعلِّمِ الأبْلَهِ الَّذي يُحدِّثُكُم عنِ الخَيرِ والجَمالِ والفَضيلَةِ. تُردِّدُونَ كَلماتِ الشِّعرِ وحِكاياتِ الجَدَّاتِ السَّخيفَةِ صَباحَ مساءَ. بينَما نحنُ كُنَّا مُنهَمِكينَ في حَشْوِ بَنادِقِنا بالذَّخيرَةِ، هم كانوا يَحشونَ رُؤوسَكُم بالهُراءِ أيُّها النَّكرَةُ، خَيرُ فَضيلَةٍ تُقدِّمُها في الحياةِ إلى نَفسِكَ هو أنْ يكونَ في جَيبَتِكَ دِرهَماً لَمَّاعاً ورَصاصَةً، وإِلَّا سَوفَ تُسحَقُ بِالأقدامِ كَدودَةِ الأرضِ أيُّها المُغفَّلُ الباحِثُ عنِ الجَمالِ".
مضمون الرواية والواقعية السردية
بين كل ما تحتويه الرواية من مباشرة وواقعية، من شخصيات وأحداث، آثرت أن يكون لشخصية الفتية مارتان وناتانأن يقومان بأدوارٍ تميل للسريالية الخيالية، حيث من يحيا تحت ركام الجنوب، كان يمني النفس ليسمع أحد صدى آلامه، ولو كان خيالاً.
لم أكن أتخيل يوماً بأن تضل طريقها فوهة المدفعية لتستدير نحوي، نحو الجنوب! أي حربٍ تلك! فأنت لديك رصاصة، وأنا لا أملك سوى خيبة وانكسار.. أي حرب تلك! أنا الأن ألهث عبر الأزقة المتهالكة فلا أرى من الفقراء من ينازعك عرشك أو يضاهيك نياشين من بارودٍ ورصاص!
تدوين الأحداث على تذاكر السفر
تمر السنون وأنا أدون بعض الكلمات على تذاكر السفر، أو أبحث عن سطرٍ شاغرٍ في جريدة رخيصة، منسية وهي محشورة بين مقعدين في حافلة مساء.. حتى أرمي على السطر بضع كلماتٍ ضجرت من صحبتها الذاكرة. كانت الشخصيات ماثلة أمامي، والأماكن هي مني وأنا منها، ونعرف مزاج بعضنا البعض منذ صخب الطفولة. بدأ الأمر منذ خمس سنواتٍ خلت تقريباً، لأقوم بدراسة مهارات الكتابة في المسرح والقصة والرواية، ثم لأقوم بتجميع الشخصيات والأماكن على أوراقي. لتبدأ رحلتي مع استحضار "سيدة الخنادق" التي استوحيتها من أحداث وشخصيات واقعية. وأضفت إليها رحلتي مع الأماكن والشخصيات في بلاد الشمال التي عرفتها.
خريطة الرحلة السردية
خريطة الرحلة كانت ماثلة على جدار مكتبي لسنوات، والشخصيات قد اتخذت طابعها ومسارها، حتى أمسى الجدار وكأن حياة قد دبت به، ولم يكن ليهدأ حيث تعتريه الأحداث ويعلوه صخب الأحداث تارة، وأخرى الحوار الذي لا ينتهي بين الشخصيات، ولم يكن لذلك الاضطراب أن ينتهي إلا عندما ينخفض الإيقاع للحديث عن الربيع، والفرات ومواسم الحصاد.
وغالباً إذا ماكنت بين رفقتي، أراني أبتغي العودة باكراً منزلي خشية أن تتصرف الشخصيات على هواها، أو تتصارع على أسبابٍ ليست بذات الاهمية أثناء فترة غيابي عنها.
أدب الحرب - مفردة معجمية
من الواضح بأن صيغة أدب الحرب، هي من تفرض نفسها على نمط كتابتي، حيث أن التجربة وقيمة هذا المحتوى الذي عشت أحداثه، يتطلب مني كواجبٍ أخلاقي إنساني، وأعيش فيه واحتي الغنَّاء بالحزن وآمال النخيل.
ختام مع سارة
سارة سيدة الخنادق، هي لمن لم يحظَ برائحة الدخان الرطب تحت الركام، أو لمن لم يأتِ إلى مسامعه ذلك الأنين اليائس الخجول الذي لم يترك صدىً في كل هذا الصخب من الأنانية المتزلفة في هذا العالم.
هي عن رصاصة مضت باردةً خلسةً في خيال فتىً غض المهج، ومضى نحو الضفة الأخرى أنيقاً، بلا طقوس وداع.
حقوق النشر: محمد بدوي مصطفى 2022