أدب عربي
المهمّشات يُعِدن صناعة الماضي: قراءة في رواية "سيدات القمر" لجوخة الحارثي

هنّ سيّدات القمر، تعطيهنّ جوخة السيادة وتنسبهنّ للقمر. تعتبر الناقدة سارة الشمّري السيادة في رواية "سيدات القمر" لجوخة الحارثي انتصاراً للمخيّلة التي تعيد الروائية عبرها كتابة تاريخ المهمّشين من خلال أصوات النساء والعبيد، بل وبعض الرجال الذين لم تكن درجة أذاهم من الهيمنة الذكورية أقل ضررًا.

قبل أن تصبح رواية جوخة الحارثي بين يديّ ببضعة أيام، كنت أقرأ في كتاب الشاعرة والنسوية الأمريكية الكاريبيّة أودري لورد "صمتكِ لن يحميكِ"، فتوقّفت عند سطرين وأخذت أعيد قراءتهما بصوتٍ مسموع، وكأنني أؤكّد لنفسي ضرورة الامتثال لما تدعو إليه الشاعرة.

تقول لورد: "وأينما وُجدت كلماتُ النساء مُنتَحبةً رجاء أن تُسمع، وجب علينا إدراك مسؤوليتنا في الوصول إليها، وقراءتها، ومشاركتها مع غيرنا، وفحص علاقتها بحيواتنا الخاصّة».[1] 

إنّ ما تريد لورد قوله -كما أفهم- أن أي قضية تمسّ أي امرأة لا بدّ أن تعنيني بشكلٍ أو بآخر. إنه التضامن الذي تُدعى إليه النساء في سبيل تصدير أصواتهنّ. تُعطي لورد أمثلة بعد ذلك تؤكد على سياسة التضمين التي ترى أن من واجب النساء الالتفات لها وأخذها بجديّة، فتقول مثلًا: لا تقولي إنني لم أختبر الأمومة ولذا لستُ مهتّمة بقراءة تجربة فلانة مع ابنها، أو تقولي إن فلانة سوداء وتلك مثليّة… ولا تمثّل صراعاتهنّ شيئًا ذي بال عندي. تعتقد لورد أن هذا الفصل بين تجارب النساء قد فُرض علينا ليضعف مساندتنا لبعضنا البعض.

أعترف أنني رغم اهتمامي بالاطلاع على المنجزات الأدبية التي تنتجها أقلام النساء، -العربيات منهنّ خاصّة- لم أسمع برواية جوخة «سيّدات القمر»، إلا بعد فوزها شهر أيّار المنصرم بجائزة مان بوكر لأفضل عمل أدبي مترجم للإنجليزية، حيث تناصفت الجائزة مع مترجمة النص مارلين بوث، وأعتقد أن ما صعد بالرواية إلى الفوز العالمي هو خصوصية النص والتجربة الكتباية ذات الطابع الحميميّ، والفضاء الروائي العُماني جدًّا. في هذا المقال لن أخوض في استحقاق الرواية للتتويج من عدمه، فمواقع التواصل امتلأت بهذا الجدل الثانوي والذي أبعد ما يكون عن محاولة قراءة النصّ. لكنني هنا أؤمن أن جوخة قدّمت ما يستحق التفحّص والاحتفاء. وانطلاقًا من دعوة أودري لورد التي لم تضعها المصادفة نصب عينيّ -قبل التقائي بالرواية- عبثًا، أجد في نفسي رغبة حثيثة للحديث عن العمل.

السيّدات والقمر

تسمّي جوخة الحارثي روايتها «سيّدات القمر» وهو عنوان بارعٌ في تركيز تفاصيل الرواية من أحداثها الواضحة حتى المنمنمات التي تُدرك بالملاحظة المستبصرة. قد يبدو لنا العنوان غامضًا أو عاديًّا للوهلة الأولى، إلا أننا بعد الانتهاء من قراءة العمل، سندرك قدرته على حمل دلالات لافتة تجعلنا نسترجع حيوات هؤلاء النسوة لنسدّ فراغات ما لم يقله النص صراحة. وعلى كلّ فإن التأويل هو دائمًا لعبة ومهمة القارئ/ة لا الكاتب/ة.

غلاف رواية «سيدات القمر» بالنسختين العربية والإنجليزية.
"سيدات القمر" هي الرواية الثانية للروائية العمانية جوخة الحارثي، وتدور حول قرية «العوافي» العمانية وحياة النساء والرجال فيها، مع عرضٍ سريع لتاريخ عمان الاجتماعي والسياسي من أربعينيات القرن العشرين وحتى العصر الحاضر.

تسرد جوخة حيوات نساء عشن في فترة ما بعد الاستعمار البريطاني في إحدى القرى العُمانية، وترصد تطوّر شخصياتهن وفقًا لمعطيات سياقهنّ الثقافي والتاريخي والاقتصادي، ملقية الضوء على ظروف وطبيعة الحياة أثناء الاستعمار، وساردةً بانتقاء أجزاء من طبيعة الحياة الطبقيّة التي بلورت جيل آبائهنّ، وبالتالي ساهمت في تشكيل مسارات حياة كل واحدة من أولئك النسوة.

هنّ سيّدات القمر، تعطيهنّ جوخة السيادة وتنسبهنّ للقمر. ماذا يمكن أن تحمل هذه الإضافة بركنيها من معنى؟ تجرؤ جوخة أن تصف نساء يتعرّضن لهيمنة مركّبة في حقبة زمنية حرجة من تاريخ عمان بالسيادة. هذه الهيمنة تتأتّى من سلطتين تواجهان نساءنا في الرواية؛ سلطة داخلية وهي طبقيّة، جنسويّة، ذكورية، وأخرى خارجية متمثّلة بقوى الاستعمار. تكالب السلطتين يجعل منهنّ تابعات يصعب تصوّر أن تحقق إحداهنّ حياةً تشاؤها، إلا أن جوخة أرادت أن تتحدّث معهن، أن تجعل لهنّ حضورًا وتستعيد أصواتهنّ المسلوبة ليتحدّثن هن كذلك عن تجاربهنّ المتباينة من خلال صوتها هي، الذي تذيبه في السرد أحيانّا لتعلو أصواتهنّ.

إذن، لعلّ السيادة التي تعلنها جوخة هنا هي سيادة اللغة، والإمساك بتلاليب الخطاب الذي استُبعدت النساء من المشاركة في إنتاجه. إنّ ما تفعله جوخة هو الكتابة كمشروع إعادة خلق للخطاب،[2] وذلك لأن «الكلام هو الوسيلة الوحيدة لتأسيس معرفة متماسكة عن التابع[3] ووعيه ووجوده».[4] ولأن الكلام هنا يتمثّل في قالب الكتابة الإبداعية الأدبية لا التاريخية الواقعية، استثمرت جوخة هذا الامتياز لتنزع السيادة من السرد التاريخي الوطني الذي من عادته إسباغ صورة مثالية على الماضي حيث لا مجال للنقد، أو لتصدير أصوات غير مركزيّة. إن السيادة هنا انتصارٌ للمخيّلة التي تعيد جوخة عبرها كتابة تاريخ المهمّشين من خلال أصوات النساء والعبيد، بل وبعض الرجال الذين لم تكن درجة أذاهم من الهيمنة الذكورية أقل ضررًا، مثل عبدالله زوج ميا (إحدى النساء الفاعلات في السرد) الذي عاش زمنًا كان فيه خاضعًا لسطوة أبيه التاجر وجبروته.

إن وصف نساء الرواية بالسيّدات لا يعني الخضوع لنمطية الفاصل الحدّي بين صورتي المرأة القويّة والضعيفة. كما لا يشير إلى السيادة هنا بمعنى الحرية، التي هي ضد العبوديّة، فنساء جوخة يسُدن فوق هذه الثنائيات البسيطة مرتقيات إلى مستوى أكثر تعقيدّا في صناعة الهوية. الوصف بالسيادة هنا يعني –كما أفهمه- السيادة فوق الخطاب السائد الذي كُتب أو تنوقل لعقود مُحَجّمًا أصواتهنّ. إنها سيادة إعادة تشكيل ما شُوّه تاريخيّا أو غُيّب سرديّا.

 

رواية "سيدات القمر" من سلطنة عُمان تتناول تحوّلات الماضي والحاضر، وتَجْمع، بلغةٍ رشيقةٍ، بين مآسي بشر لا ينقصهم شيء ومآسي آخرين ينقصهم كلُّ شيء.
رواية "سيدات القمر" من سلطنة عُمان تتناول تحوّلات الماضي والحاضر، وتَجْمع، بلغةٍ رشيقةٍ، بين مآسي بشر لا ينقصهم شيء ومآسي آخرين ينقصهم كلُّ شيء.

ثم يأتي إسناد هذه السيادة للقمر. لكن لماذا القمر؟ لعلّ في الأمر أكثر من احتمال تقترحه قراءة الرواية. القمر قديمٌ قدم التاريخ، وهو شاهدٌ عليه في غيابه وحضوره، كذلك بطلات الرواية اللاتي تنتمين لأجيال ثلاثة؛ أولها جيل الاستعمار. تغيب امرأة ليحضر صوت أخرى إكمالًا لمشروع إعادة تكوين الخطاب. أيضًا، فإننا حين نتتبّع السرد نجد أن للخرافات الشعبية والسحر دورًا رئيسًا في تحريك الأحداث، والتعاطي مع المصائب، أو حتى تحقيق الأمنيات. وقد عُرفت قديمًا علاقة الأسطورة والسحر بالقمر، إذ يُقال حتى يكون السحر ناجعًا لا بدّ من تحيّن موضع القمر، وهكذا فإن الساحر يختار وقتًا لإمضاء عملٍ خيّر يختلف عن موعد سحرٍ أُريد به شرّا. كما يُقال أيضًا إن المصائب تتزامن عادةً مع اكتمال القمر بدرًا.

في الرواية لا نجد بين نساء جوخة من تمتهن السحر، لكننا نرصد تفاوتهنّ إزاء الإيمان بالخرافة وأخذها على محمل الجد، كما نجد تكريسًا لفكرة الاتصال بما هو غيبي وميتافيزيقي كجزء من تشكيل هويّاتهن. إن هذا الإيمان لا بدّ أن يؤخذ إلى مستوى تحليلي أعلى، يريد العنوان، والرواية من بعده قوله تلميحًا. إذ إن ما تفعله جوخة بإضافة السيدات للقمر هو مَشْكَلَة بل ومساءلة الحدّ الفاصل بين ما هو عقلانيّ وغير عقلانيّ. إن الإيمان بالماورائيات، ومحاولة استظهار ما خُفي ومن ثمّ التحكم وإخضاعه لمصالحنا ورغباتنا قد يبدو أمرًا يُقاد بالعاطفة، أما صفة السيادة، بأن نشير إلى فلانة بأنها سيّدة فذلك يشي بقدرة نفسية وواقعيّة على الإمساك بزمام الأمور وتوجيهها، وبالتالي، فهي ترتبط في أذهان الناس بالحكمة والقوة والتعقّل. ولذا، فلعلّ التركيب الإضافي للعنوان ما هو إلا محاولة تعقيد ودمج ما اعتيد على فصله؛ العاطفة والعقل.

في هذا الصدد، نجد سالمة، الأم القويّة المتماسكة تُلبس ابنها خرزًا أزرق لتمنع يد الموت من اختطافه كما فعلت بأخيه من قبله، كما نجدها تستعين بالشعوذة لتفرّق بين زوجها وعشيقته وتحافظ على تماسك أسرتها. ميا التي انتقلت للمدينة واعتادت حياتها، ترفض أن تزرع شجرة الريحان في حديقتها لأنها تجلب الأفاعي. ظريفة العبدة تذهب ببعضٍ من وليمة سيّدتها النفساء لجنيّة في البراري لتمنعها من أخذ روح المرأة الوالد.

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة