جولة في العاصمة الأرمينية يريفان...غافية منسية تحت ظل جبل أرارات

من ألمانيا حيث يسكن إلى القرم ثم إلى أرمينيا وما بعدها امتدت رحلة عباس الخشالي المنحدر من العراق، والذي قضى 25 يوما في رحلة لأهم المدن والعواصم حول البحر الأسود. وفي العاصمة الأرمينية يريفان بحث عن آثار أقدام عرب وفرس وعثمانيين وسوفييت مروا من هناك، ويجول بموقع قنطرة في يريفان.

الكاتبة ، الكاتب: عباس الخشالي

استقللتُ الطائرة المتوجهة إلى العاصمة الأرمينية يريفان، وبعد رحلة مدتها ساعة ونصف وصلت المطار، ألاحظ قلة عدد الطائرات المتوقفة فيه. لحظة وصولي مدخل المطار، سألني ضابط الجوازات عن سبب الزيارة. أجبته أنني سائح، فرحب بي مبتسما وختم الجواز متمنياً لي حظاً سعيداً. شعرت من ردة فعله أن كل أجنبي مرحب به هنا. اشتريت شريحة هاتف من أحد المتاجر في المطار، ثم أخذت سيارة أجرة واتجهت إلى مركز المدينة.

كنت على موعد مع هوفانيس، شاب أرمني يعمل في ألمانيا عازفاً للكمان في أوركسترا موسيقية. لم أقابله يوما، إلا أن صديقة  يابانية، تعمل بنفس الأوركسترا، اقترحت أن أتعرف عليه ليساعدني، وقتها كان في زيارة إلى أهله، وعرض علي أن يجد لي مسكناً بسعر ملائم في وسط المدينة.

مجتمع أرثوذكسي محافظ

توقفت في تقاطع بمركز يريفان مثلما هو متفق مع هوفانيس. بعد عشر دقائق وصل الموسيقي وبصحبته شاب آخر اسمه  كورون، شعره يميل إلى الاصفرار، كما أن طريقة ترحيبه بي ونظراته غريبة إلى حد ما، عدت بذاكرتي إلى ما قالته لي صديقتي اليابانية، بأنه ربما لهوفانيس ميولا جنسية مثلية لكنه لا يفضح عنها في أرمينيا، فمجتمعه مجتمع أرثوذكسي محافظ لا يقبل بالعلاقات المثلية.

سألني كورون عن انطباعي الأولي عن المدينة. قلت له: تبدو جميلة هادئة. سألني عن الناس هنا؟ أجبته بحذر وبنوع من المجاملة، أنهم يبدون لي للوهلة الأولى ودودين.

ضحك، بغرابة. قال: "إنها مدينة ميتة. أهلها رحلوا عنها تاركين خلفهم بقايا جدرانهم". سألته عن أي جدران يتحدث؟ فقال: "منازلهم. وحتى هذه المنازل لم يبقَ الكثير منها لأن الأغنياء من الأرمن بنوا أسواقاً ومحال تجارية عوضاً عنها".

انتقلنا بعدها إلى الشقة التي سأحل بها، وعند وصولنا التقينا بالعمة مارا مالكة الشقة، وهي سيدة قصيرة القامة في نهاية الستين من العمر.

حمى في عز الصيف

بعد وصولنا إلى الشقة اتفقنا على السعر الذي لم يكن رخيصا بالنسبة لمدينة خالية من أهلها ومن السياح، لكن العمة مارا تعلم أنني أعيش في ألمانيا، أي إنني لن أناقش كثيراً في السعر. خرجت مباشرة مع هوفانيس طلبت منه أن يأخذني إلى أي صيدلية قريبة. كنت بحاجة ماسة لعلاج، فقد أصبت بعدوى نقلته إلي من سيدة روسية كانت لا تكف عن السعال خلفي في الباص خلال رحلة زيارة قصور يالطا المطلة على البحر.

يريفان عاصمة أرمينيا
ساحة الجمهورية في وسط العاصمة. هنا تتقاطع كل الجادات والشوارع العريضة.

سألتني الصيدلانية إن كنت أريد علاجا خفيفا أم مضادا حيويا. كان هوفانيس يترجم لي ويضحك. فالمضاد الحيوي في ألمانيا لا يمنح إلا بورقة طبيب، فيما يباع هنا حسب الطلب. اخترت المضاد الحيوي القوي جدا؛ فطريقي مازال طويلا ولا أريد أن أقضي الطريق المتبقي مريضاً.

بعدها وصلنا إلى أكبر ساحة في المدينة، كانت مباني الشارع غريبة الطراز. جدرانها مسطحة لا تملك شيئا من الجمالية. النوافذ حديثة مظللة والجدران من الرخام البني والأبيض، كما أن ارتفاع المباني لم يتجاوزا الأربعة طوابق. لم يبق من الطراز القديم سوى بناية صغيرة في منتصف الشارع، جدرانها داكنة تميل للسواد بسبب الدخان والغبار، وكانت الشيء الوحيد القديم في هذه الجادة.

تساءلت وقتها؛ أين المباني القديمة إذن؟

قالا لي لم يبق منها شيئاً. في العهد السوفيتي دمرت كل أجزاء المدينة القديمة التي كانت مهترئة أصلا. وبنيت هذه الأبنية عوضاً عنها، وكانت خلاصة الزحف الرأسمالي إلى المدينة؛ حيث استبدل أغنياء أرمينيا الطراز الاشتراكي بطراز حديث، إن كان بإمكاننا أن نطلق عليه حديث. فالخارج لا يشبه الداخل، وواجهات المباني حجرية تشبه النمط القديم، أما الداخل فهو غالباً ما يحتوي على أسواق أو محال تجارية، أو ربما شقق فارغة.

 لم يبق من العهد السوفيتي، سوى بقايا دولة،  كبار السن يجلسون على الأرائك يتذكرون الماضي ويفخرون بما تم صنعه فلم يبق هنا إلا الأساطير والذكريات.

انتهى بناء الشارع إلى ساحة كبيرة مدورة تحيطها مبانٍ اشتراكية الطراز بواجهات حجرية. قال كورون هذه ساحة الجمهورية، مركز المدينة، حيث تقع مبان حكومية، هذه هي يريفان، كل شوارع المدينة الرئيسية تصب في النهاية بهذه الساحة.

سألني. إن كنت أستطيع العودة وحدي إلى شقة العمة مارا. أجبته بالإيجاب، فالأمر هين ولن أضيع في شارع مثل هذا. شعرت أنه يريد الهروب من أسئلتي، فالإعلام هنا مسيطر عليه من قبل الأغنياء والحكومة، والأرمن يخشون من الحديث بالسياسة، شكرته على مساعدته لي، سلمت عليهما وعدت إلى الشقة.

قهوة العمة مارا

قضيت ليلتي في غرفة العمة مارا، بينما احتلت هي غرفة في أقصى الشقة قرب المطبخ، الفراش هو فراشها، يبدو أنه فراش الزوجية، الذي أصبح فارغا منذ وفاة زوجها قبل أعوام. شعرت أنها لا تريد النوم فيه، وتجعل عابري السبيل مثلي يقضون لياليهم هناك، لم أحبذ قضاء الليلة في هذه الغرفة، شعرت بخصوصية الأشياء التي تشغلها. لكني لم أستطع الرفض ولم أحاول حتى جعلها تلاحظ ذلك، فالناس في سنها ورغم خبرتهم الطويلة في الحياة إلا أنهم يصبحون أكثر حساسية لكثير من الأشياء.

صنعت لي العمة مارا قهوة الصباح وساندويتش الجبنة، بعدها قررت أن أتجول في المدينة، حملت كاميرتي وحقيبتي وخرجت. كان في بالي البحث عن آثار المدينة القديمة. فهنا مر الفرس والعرب والعثمانيون وأخيرا السوفيت. كان لي زملاء وأصدقاء أرمن في المدرسة أيام الثانوية، يحدثوني بفخر عن تاريخهم، وأنهم أول الأمم التي تحولت من الوثنية إلى المسيحية.

يريفان عاصمة أرمينيا
طريق باسم "الرابع والعشرين من نيسان/ أبريل 2015، الإبادة الجماعية الأرمنية": ذكرى المآسي التي راح ضحيتها مئات آلاف الأرمن. يقدر عدد الأرمن خارج أرضهم بتسعة ملايين، بينما يقدر عدد سكان أرمينيا بحوالي أربعة ملايين.

كان أجدادهم من الذين تركوا أرمينيا واتجهوا نحو الجنوب. ضاع كثير منهم في الصحراء، فيما قتل بعضهم على أيدي جنود الدولة العثمانية. هذا ما كان يقوله لي أصدقائي. كانوا حذرين جدا في الحديث عن الماضي، وعن مأساة الأرمن مع بدايات القرن العشرين، لكن تاريخ إقصائهم يمتد لأطول من ذلك، فقد مرت عليهم أيام سوداء أيضا.

 يذكر التاريخ أن الصفويين والعثمانيين تبادلوا السيطرة على يريفان 14 مرة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. وقبلهم مر العرب من هنا. مر الأمويون والعباسيون. ومر التجار العرب الأغنياء. ويقال إن التجار الأرمن كانوا يمرون عبر نهر الفرات للوصول إلى بابل لأغراض تجارية آنذاك.

لكن أين هي آثار المدينة القديمة. هناك قرب جبل أرارات، حيث تقول الأسطورة إن سفينة نوح رست عليه، تقع بقايا آثار ممالك وأديرة ومعابد. قررت التجول في المدينة. لعلي ألحظُ شيئاً.

 حدثتني سابقاً العمة مارا عن المسجد الأزرق، فأخذت خارطة للمدينة واتجهت نحوه. لم يكن المسجد الأزرق بعيداً عن سكن العمة مارا، وصلت إليه، دخلت إلى باحته الرئيسية التي تتوسطها حديقة وتحيط بها إيوانات مبنية من الحجر الآجر، فيما يقع منبر  وحرم الصلاة في الجهة الأخرى المقابلة للبوابة.

 في أحد الإيوانات شاهدتُ تمثالا لقائد الثورة الإسلامية في إيران الخميني. والمسجد الأزرق بني في عصر نادر شاه في القرن الثامن عشر. أغلقت أبوابه خلال فترة السوفيت وأعيد ترميمه بدعم من الحكومة الإيرانية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

لقاء الأجيال

أمام حرم الصلاة في الباحة يجلس رجلان، شاب ملتح ورجل قد جاوز الستين. عندما اقتربت منهما محاولا الوصول إلى حرم الصلاة، ابتسم الشاب وسلم علي، سألني حينها من أي البلاد أنا؟ وعندما علم أنني عراقي، ابتسم وبدأ يتحدث معي بعربية فصيحة، لكن بلكنة فارسية، كان الشاب طالب دكتوراه يدرس الأرمينية، أما الآخر فهو رجل ستيني وأستاذ جامعة متقاعد، إيراني من أصول أرمينية.

يريفان عاصمة أرمينيا
"الأستاذ والتلميذ في باحة المسجد الأزرق في وسط يريفان. خطوات وأتجه إليهما ويبدءان معي الحديث حول الماضي واللغة والحاضر".

فهمت من الأستاذ أنه غادر إيران منذ ستينات القرن الماضي عودة إلى بلاده الأصلية، لكنه تفاجأ بالحياة في الدولة السوفيتية. سألته عن حال الناس هنا. قال : البلاد فارغة من أهلها. الروس يتآمرون علينا، ويأخذون شبابنا ومن يحمل خبرة إلى روسيا. يفتحون لهم أبواب الرزق، فيما يضيق أغنياء أرمينيا الخناق على الناس هنا. ولا مفر لهؤلاء الشباب سوى الهروب إلى روسيا. هذه مؤامرة روسية لتفريغ البلاد من أهلها والاستيلاء عليها بعد ذلك.

الروس مرة أخرى؟ طرحت السؤال على نفسي وأنا أستمع إلى الأستاذ. لكني سرعان ما طرحت السؤال التالي: أليست أرمينيا خالية من أهلها منذ حكم العثمانيين. لماذا تلقون باللوم على الروس دائما؟ أليس هؤلاء الأغنياء أرمن أصلا وليسوا روسا؟ قال: نعم، لكنهم يعملون لصالح روسيا. وعندما سألته عن حرية التعبير والإعلام في أرمينيا. لزم الأستاذ الشيخ الصمت، بعد أن علم أنني صحفي. فعلمت أن ما قاله كورون صحيح. سلمت عليهما واعتذرت أنني قد قطعت عنهما خلوة التلميذ بأستاذه في باحة المسجد.

الجواب جاء سريعاً

لم أكد أخرج من بوابة المسجد حتى وقعت عيناي على تجمع للناس في الجهة المقابلة للشارع، فعلمت أنها تظاهرة. اخترت إحدى الحسناوات لأسألها عما يجري. أجابتني بإنكليزية لا بأس بها، أن التظاهرة ضد هدم المبنى المقابل. "إنه أقدم مركز ثقافي في يريفان. اشتراه أحد أغنياء أرمينيا وينوي تحويله إلى "سوبر ماركت".

تجولت من دون وجهة محددة في شوارع المدينة النظيفة. قررت أن تأخذني قدماي إلى حيث تريدان وتقدران. أصابني الجوع، خاصة بعد أن وقفت أمام مطعم إيراني. دخلت إلى مطعم "شاه بيتزا" دون أن أفكر. أخذت وجبة "جلو كباب" وهي الكباب فوق الرز. أثارت انتباهي نظافة المطعم.

جلس في الطاولة أمامي إيرانيان بدءا الحديث معي، بعد أن لمحا شكلي العربي، وكاميرتي الكبيرة. وعرفت بعدها أنهما طالبا دكتوراه في الأدب الأرميني، كان أحدهما يتحدث الانكليزية بشكل صعب ويترجم بالفارسية لزميله، رحبا بي، كانا مهذبين، وعلمت من أحدهما أنه كان جنديا في جبهة القتال أيام الحرب بين العراق وإيران. من كان يتصور أنني سألقى جنديا إيرانيا في يريفان بعد أكثر من عقد ونصف على نهاية الحرب؟

يريفان عاصمة أرمينيا
مطعم شاه بيتزا، حيث تناولت طعام الغداء بعد أن أدركني تعب الظهيرة. مطعم إيراني في منتصف يريفان. الحضور الإيراني قوي جدا في أرمينيا، بسبب العلاقات الطيبة بين الشعبين.

 لم أبق طويلا في المطعم، خرجت متوجها نحو ساحة الجمهورية. أصور ما أجده من مبان أو بشر في ظهيرة يوم جميل. جلست عند أحد المقاعد تحت الظل أمام فندق فخم في الساحة أراقب المارة. لا خطة في هذه الظهيرة. أفكر في الأيام التي مضت منذ أن تركت مدينتي. تذكرت أصدقاء المدرسة الأرمن سركيس ونوفاك. أعلم أن سركيس في كندا لكن لا علم لي أين هو نوفاك. إذ كان والده شماساً في كنيسة الأرمن بالبصرة.

 وكان نوفاك محافظاً وحذراً، ربما بسبب وظيفة والده. قال لي مرة وفي صوته شيء من خيبة الأمل، بعد أن سألته إن كان يرغب بالعودة إلى موطن الأجداد: "لقد تغير الناس في أرمينيا. من بقى من الأرمن في بلادنا يختلف عمن رحل عنها. هم يحبون المال أكثر. إنها بقايا الحياة في زمن السوفييت. الاشتراكية غيرتهم".

قطعت علي قيلولة الظهيرة فتاة جلست بجانبي، تحدثت إلي وعلمت أنها من عاصمة جمهورية التشيك براغ، ميشائيلا كانت في دورة تدريبية على حساب الاتحاد الأوروبي لشباب من دول أوروبية مختلفة. دورة في يريفان على حدود الشرق الأوسط. أين هي حدود أوروبا من آسيا؟ ربما حيث أجلس، في هذه الجادة حيث الطراز الأوروبي والوجوه الشرق أوسطية وقربي فتاة من وسط أوروبا. علمت أنها سترحل غدا مثلي إلى تبليسي في جورجيا. اتفقنا على اللقاء صباحاً والرحيل معا نحو عاصمة جمهورية جورجيا. جسر آخر بين الشرق والغرب.

 

 

عباس الخشالي

حقوق النشر: موقع قنطرة  

ar.Qantara.de 2016