إتمام وضع الحد لـ "فتنة كبرى" ضربت الجزائر

ميثاق جزائري للسلم والمصالحة أعاد إدماج 15 ألف مقاتل جهادي سابق في الأوساط المجتمعية. تمكنت به الحكومة الجزائرية من تحقيق أمور كثيرة، لكنها حتى هذه اللحظة من عام 2018 فشلت في معالجة مصير مئات الأطفال الذين أبصروا النور في مخابئ جهادية سابقة من زمن الحرب الأهلية، رغم وعدها بتحديد هوياتهم باختبارات الأحماض النووية. فكيف أصبح هؤلاء محرومين من حقوقهم المدنية؟ دالية غانم-يزبك والإجابات.

الكاتبة ، الكاتب: Dalia Ghanem-Yazbeck

احتفلت الجزائر في سبتمبر / أيلول 2018 بذكرى إقرار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية. فقد وضعت هذه الوثيقة، التي أُقِرّت في 29 أيلول/سبتمبر 2005، حداً للحرب الأهلية في البلاد ("الفتنة الكبرى" التي ضربت الجزائر)، وسعت إلى "تجاوز نهائي لهذه المأساة الوطنية".

أفسح الميثاق المجال أمام تسريح 15 ألف مقاتل سابق وإعادة دمجهم في المجتمع، موفراً لهم إمكانية المضي قدماً بحياتهم بعد تخلّيهم عن النشاط الجهادي. لقد تمكّنت سياسات المصالحة التي وضعتها الحكومة، من تحقيق الكثير، لكنها فشلت في معالجة مصير الأطفال الذين أبصروا النور في مخابئ المتمردين الجهاديين في الجزائر.

المئات محرومون من الاعتراف القانوني ومن التعليم

وبعد ثلاثة عشر عاماً على إقرار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وعلى الرغم من أن هناك أولاداً حصلوا على الاعتراف القانوني، إلا أنه لا يزال مئات آخرون محرومين من الاعتراف القانوني بهم ومن التعليم، ولامستقبل لهم في مجتمع يبدو أنه ألقى بهم في غياهب النسيان.

واقع الحال هو أن الدولة والمجتمع في الجزائر يعتبران أن الموضوع المتعلق بأطفال الجهاديين يندرج في إطار المحرّمات. خلال النزاع، أبصر هؤلاء الأطفال النور على إثر زيجاتٍ تمت بالتراضي لكنها تُعتبَر باطلة – فقد أُبرِمت عقود الزواج عبر الاكتفاء بقراءة الفاتحة – أو ولدوا في ظروفٍ متأتّية عن زواج تمّ بالإكراه أو عن اغتصاب.

الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.  (source: Democratic and Popular Republic of Algeria website)
بمبادرة من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سعى ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في الجزائر إلى إخراج الجزائر من دوامة الحرب الأهلية. ميثاق جزائري للسلم والمصالحة أعاد إدماج 15 ألف مقاتل جهادي سابق في الأوساط المجتمعية. تمكنت به الحكومة الجزائرية من تحقيق أمور كثيرة، لكنها حتى لحظة كتابة هذا المقال (2018) فشلت في معالجة مصير مئات الأطفال الذين أبصروا النور في مخابئ جهادية سابقة من زمن الحرب الأهلية.

يصعب تحديد الأرقام الدقيقة، لكن مروان عزي، رئيس خلية المساعدة القضائية لتطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، يقول إن عدد الأطفال المولودين في الملاذات يبلغ نحو 500. غير أنه من شبه المؤكد أن يكون هذا الرقم أدنى من العدد الحقيقي، فعددٌ كبير من الأطفال لم يُسجّلهم أهلهم أو لم تتعرّف عليهم الدولة، وبعضهم فقدَ والده أو والدته أو الاثنَين معاً، في حين لم تتسنَّ لآخرين فرصة معرفة والدَيهم.

من الشاق أن يصبح زواج الوالدين قانونياً

غير أن قسماً آخر من الأولاد تبِع أهله الذين قبِلوا بسياسة التسريح التي وضعتها الحكومة وأُدمِجوا في المجتمع. ليس لهؤلاء الأولاد وجودٌ قانوني، فأسماؤهم غير واردة في السجلات المدنية الجزائرية. ولكي يحصلوا على الاعتراف من الجهات المدنية، يجب أن يصبح زواج أهلهم قانونياً، لكن في حالات كثيرة، تعتبر السلطات هذه الزيجات لاغية وباطلة.

آلية الاعتراف لا بد منها بغية الاعتراف بشرعية أبوّتهم، ولايمكن تقنين الزواج إلا بحضور الوالدَين على أن يقوم شاهدان بتأكيد حدوث عقد القران. ففي هذه الحالة فقط، يجوز للقاضي أن يُصدر أمراً بقبول زواج الطرفين، ويمنح إذناً بتسجيل الولد. وعند إتمام هذه الإجراءات، يمكن الاستحصال على مايُعرَف بالدفتر العائلي.

بيد أن هذه الإجراءات شاقّة، ولاسيما بالنسبة إلى النساء اللواتي تعرّضن إلى الاغتصاب، والأرامل اللواتي يعجزن عن تقديم الإثبات على أبوّة أولادهن. وفي هذا الإطار، لم يؤمّن القانون ولا الميثاق آلية عملية لإزاحة هذه المعضلة عن كاهل العائلات والأولاد.

في عام 2008، تعهّدت وزارة التضامن الوطني بتحديد هوية الأولاد عن طريق اختبارات الحمض النووي، وجرى إعداد مشروع قانون بهذا الخصوص. إنما انقضى عقدٌ من الزمن من دون أن يتحقق أي شيء على الإطلاق.

إهمال مؤسساتي عميق الجذور تجاه أطفال محرومين

العنف المؤسسي ضد هؤلاء الأولاد عميق الجذور، فهم محرومون من حق أساسي من حقوق الإنسان، ألا وهو الحق في التعليم. وفي عام 2006، قطع وزير التربية آنذاك أبو بكر بن بوزيد، تعهداً بتأمين خطة تعليمية وعلاج نفسي لنحو 600 طفل أبصروا النور في المخابئ.

وقد تم توقيع اتفاق مع وزارة التضامن الوطني لتسجيلهم جميعاً في المدرسة. لكن على الرغم من هذه الجهود، لايزال مئات الأولاد محرومين من مقاعد الدراسة بسبب عدم حصولهم على الوضع القانوني، الأمر الذي يُلقي بمزيد من التعقيدات على مسألة اندماجهم الاجتماعي.

يتحمّل الأولاد، إلى جانب التمييز المؤسسي أعباء نفسية أيضاً. فنظراً إلى البيئة الصعبة التي ولدوا ونشأوا فيها وإلى تجربتهم المباشرة مع العنف، يعاني كثرٌ بينهم من ميول انتحارية، واضطرابات سايكولوجية ونفسية- عضوية، ومن متلازمة الصدمة، والسلوك المعادي للمجتمع.

وتزداد الأمور سوءاً بسبب الوصمة الاجتماعية التي تُلصَق بهم على ضوء الخلفية التي يتحدّرون منها كونهم مولودين من جهاديين، ولذلك غالباً ما يتعرضون إلى الملامة بسبب ممارسات أهلهم. ونتيجةً لهذه المعاملة، يواجه الأولاد باستمرار مزيجاً من الرفض والعزل.

ثمة حاجة إلى احتضان هؤلاء الأولاد في بيئة اجتماعية وعلاجية تؤمّن لهم الحماية، حيث يمكنهم الحصول على المساعدة من مهنيين متخصصين على الصعيدَين الاجتماعي والطبي. من الأهمية بمكان الإقدام على هذه الخطوة بغية تجنُّب إعادة إنتاج العنف الشديد الذي وُلِدوا ونشأوا في وسطه.

وفي الوقت نفسه، يجب دمجهم في المجتمع، مايتطلب من السلطات الجزائرية الاعتراف قانونياً بوجودهم وحاجتهم إلى المساعدة. وحين نتذكّر في هذا الإطار أن آلاف الأولاد في العراق وسوريا انضووا تحت لواء تنظيم الدولة الإسلامية، يصبح من الضروري إفساح المجال أمام أولاد الجهاديين الجزائريين السابقين ليعيشوا حياة طبيعية.

 

 

دالية غانم-يزبك

حقوق النشر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط 2018

 

 

ar.Qantara.de