
أفارقة فلسطينيون ومواليد زواج أفريقي فلسطينيأفارقة القدس - مشاعر الاغتراب والغربة "الزمكانية"
في منتصف السبعينيات ولدْتُ في مدينة القدس لعائلة من سبعة أفراد كنت ثامنهم. أبي "أفريقي" قدم من مدينة ماسينا في تشاد، وأمي "بيضاء" فلسطينية من مدينة أريحا في غور الأردن. كبرت وترعرعت في الحي الأفريقي كطفل "مُولَّد"، هذا المُصطلح الذي تعارف أفراد الجيل الأول للمهاجرين الأفارقة المَقْدِسِيِّين على إطلاقه علينا: نحنُ الأطفال المولودين نتاج زواج مختلط "أفريقي- فلسطيني".
الأفارقة المقدسيون أو التكارنة، كما يُعرّفهم المؤرخ الفلسطيني عارف العارف [١٨٩٢-١٩٧٣]، في كتابه المفصل في تاريخ القدس (١٩٦١)، عبارة عن "أسرة كبيرة من أسر بيت المقدس، وفدوا إليها من دارفور وملحقاتها، وذُكر بطنٌ أصله من تكريت، يلتحق بـ"زوبع" إحدى بطون "شمر"، وكانت الحكومة تستخدمهم في شؤون الشرطة، وعهدت إليهم بحراسة المدارس التي كانت تقوم في الدور والمنازل والأروقة حول الحرم [...]، أنهم سود اللون، طوال القامة، أقوياء البنية".
في هذا المقال، أحاول أن ألقي الضوء على إشكالية فهم وقياس المكانة الثقافية للأفريقي الأسود، وارتباطها بالاختلاف القائم على لون البشرة، والربط بينه وبين الوظيفة، والحيز السكني، وعلاقة كل ذلك بالغربة والغربة المضادة "الزمكانية" لدى الأفارقة المقدسيين.

{تسمية ذوي البشرة السوداء بـ "العبيد" هي تسمية تمييزية عنصرية.}
دعونا في البداية نطّلع على تعريف و معنى كلمة أسْوَد في معجم المعاني الجامع؛ وهي تشير من جانب إلى لون البشرة، ومن جانب آخر إلى المكان الذي ينحدر منه "رجال أفريقيا سود البشرة". التعريف الثاني يتقاطع نوعًا ما مع التعريف الذي قدمه عارف العارف، أي أنهم من "دارفور وملحقاتها"، من إطار جغرافي له سمات ثقافية ودينية محددة، وهو ما سينقلنا إلى الحديث عن تأثير وعلاقة ذاك التحديد الجغرافي- الثقافي في تكوين الفصل -في الذهنية الثقافية الفلسطينية- بين صورة الأفريقي الأسود الحُر والمختطف "العبد". وأيضًا، تأثيره ومقياس استدخاله من قبل الأفريقي "التكروري"، على قاعدة الفصل بين مكانته الثقافية ومكانة "الآخر" الأفريقي.
مقاييس حيز المكانة الاجتماعية للأفريقي الأسود
قد لا يعلم البعض ربما أن هناك أفارقة سود يعيشون في عدة تجمعات بمختلف المدن والمخيمات داخل فلسطين. والعديد من الباحثين والمؤرخين الفلسطينيين، على سبيل المثال المؤرخة هدى لطفي وعارف العارف والباحث علي قليبو، يعتبرون بأن بداية الاتصال الأفريقي بفلسطين تعود إلى العهدين المملوكي والعثماني.
في دراسة هدى لطفي لسجلات ووثائق الحرم الشريف في القدس المملوكية، يُلاحظ الفصل بين مكانة الأفريقي الأسود "التكروري" الذي هو جزء من الأمة الإسلامية، وبين الأفريقي الأسود غير المسلم والذي يُعتبر بمثابة "العبد". في حين أن المؤرخ عارف العارف والباحث علي قليبو، يعتبران بأن الأفريقي الأسود "التكروري"، قد استخدِم في أعمال الحراسة والخدمة في الأماكن المقدسة في القدس ومكة في العهدين المملوكي والعثماني.
ولنتوقف عند مفهوم "خدمة" هنا، كونه ذا طابع إشكالي، حيث يفسرها القلقشندي على أنها لقب من الألقاب السلطانية، في حين يفسرها لسان العرب وفقًا للدور والوظيفة بأنها "كل من يقوم على خدمة غيره من ذكر أو أنثى، غلامًا أو جارية". وهنا يتبادر السؤال، إلى أي درجة أثّر هذا الفصل بين الأفارقة السود على إعادة تشكيل الهوية الثقافية عند الأفريقي الأسود "التكروري"؟
إشكالية العلاقة بين لون البشرة، الوظيفة، والحيز السكني
في محاولة ربط لون البشرة بالأصل الأفريقي وتأثير ذلك على الهوية الثقافية لدى الأفارقة المقدسيين، أسترجع من ذاكرتي الكلمات التي دأب عمي الحاج جبريل ولد شينه -رحمه الله- ترديدها على مسمعي "إحنا مش عبيد، إحنا أحرار". كلمات عمي كانت بمثابة مؤشر أوليّ لقياس مقدار عملية استدخال المفهوم القائم على الفصل الثقافي، وبالتالي استحداث هوية مغتربة عن بعدها الأفريقي، مع التأكيد على ربط النسب أو الأنساب بأصول لها في الجزيرة العربية "إحنا أصلنا من جده"، كما يقترح ذلك المختار محمد جده في مقابلة أجريت معه سنة ١٩٩٧.