توارد في الخواطر بين الشاعر شيلر والموسيقار فيردي

مشهد من أوبرا "دون كارلو" في مدينة بون الألمانية.
مشهد من أوبرا "دون كارلو" في مدينة بون الألمانية.

عرض مستحدث في ألمانيا لأوبرا "دون كارلو" التي أعدها الموسيقار الإيطالي فيردي مستندا على مسرحية للشاعر الألماني شيلر. عارف حجاج يستكشف علاقتها بالعالم الإسلامي.

الكاتبة ، الكاتب: عارف حجاج

عامودا البؤس: الحكم المطلق والتعنت الديني نقل عن أحد حكماء عصر التنوير قوله إن التطرف الديني في شتى الأديان السماوية وسواها يعود الى عدم فهم المتطرفين لمحتوى دينهم ومدلوله الأخلاقي.

لا شك أن الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريش شيلر كان من عظماء عصره الذين آمنوا بهذه الحكمة (ولد 1759 في جنوب ألمانيا وتُوفيَ عام 1805 في مدينة فايمار الواقعة في شرق البلاد حيث أسس مع رفيقه الشاعر المشهور غوته أسس ما يسمى بالعصر الكلاسيكي الأدبي).

تناولت ملحمة شيلر دون كارلو أو دون كارلوس باللغة الإسبانية أوجهاً متعددة للمفاهيم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كالصراع على السلطة والرغبة في إنهاء القمع السياسي سواء من قبل حكام العصر الملكي المطلق أو لدى الإكليروس المتعنت الذي رفض مطالب الحرية والمساواة وفرض على السكان معايير دينية وأخلاقية متزمتة كثيرا ما حاد عنها عدد غير قليل من أفراده.

وتضمنت ملحمة شيلر جوانب أخرى كالحب والغيرة والكراهية ونزعة الانتقام والرغبة في تعزيز أسس المصداقية في العلاقات الإنسانية حتى لو تضاربت مع المعطيات والموازين الاجتماعية السائدة.

تيارات في الداخل تتصدى للطغيان والتعدي على أمم أجنبية

تعود وقائع الملحمة إلى نهاية القرن السادس عشر حيث حكم الملك فيليب الثاني إسبانيا بقبضته الحديدية وتعاون مع الإكليروس في قمع مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية من خلال أحكام قضائية دينية صدرت عن محاكم التفتيش الديني التي كثيرا ما أدانت مطالبي الحرية والعدالة بالإعدام بتهمة التحريض الديني والاجتماعي.

لم يقتصر الطغيان على المملكة الإسبانية وحدها بل شمل مناطق أوروبية أخرى كانت تابعة لسيطرة الملك مثل إقليم فلندرن الذي كان في الماضي جزءا من هولندا وأصبح فيما بعد تابعا لمملكة بلجيكا.

 

 مشهد من أوبرا "دون كارلو" في مدينة بون الألمانية.  Oper Oper Don Carlo in Bonn - FOTO Theater Bonn Thilo Beu
التقت الأفكار الإصلاحية في عمل كاد يكون "مشتركا" بين قطبي الأوبرا والشعر الكلاسيكي: في الصورة مشهد من أوبرا "دون كارلو" في مدينة بون الألمانية. شهدت دار الأوبرا لمدينة بون عرضا مستحدثا لأوبرا "دون كارلو" التي أعدها الموسيقار الإيطالي فيردي استنادا على ملحمة مسرحية للشاعر الألماني شيلر. تضمنت ملحمة مسرحية الشاعر الألماني شيلر وكذلك الأوبرا التي أعدها الموسيقار الإيطالي جوزيبه فيردي بعض الإشارات الإيجابية أحيانا والسلبية أحيانا أخرى للعصر الإسلامي العربي في إسبانيا، وفق ما يكتب عارف حجاج الذي شاهد الأوبرا ويروي هنا خفاياها وخلفياتها.

 

الجدير بالذكر أن علاقة ابن الملك وولي عهده دون كارلوس بوالده الحاكم المطلق فيليب اتسمت بالتوتر بل حتى بالعداء لسببين، أولهما: رغبة الأمير الشاب بمنح هذا الإقليم الحرية والاستقلال السياسي، وثانيهما: أن دون كارلوس عشق النبيلة الفرنسية إليزابيث وعقد الخطبة معها.

لكن والده أجبره على فسخ الخطبة وتزوج إليزابيث بدافع تهدئة الأوضاع المتوترة بين البلدين.

وولع الملك بزوجته لكنها ظلت تعشق ولي العهد "المتمرد" مما دفع الملك في النهاية إلى إصدار حكم بقتلهما سويةً بمباركة محاكم التفتيش.

فيما شكل فيليب الثاني بصحبة حاشيته الدينية وأنصاره داخل البلاط الملكي الوجه البشع لحكمه المطلق جاء ابنه دون كارلو وصديقه الحميم الماركيز بوزا بمثابة تعبير حي عن التطلعات الإصلاحية التحررية المؤيدة للتعددية والتسامح في المجالات الاجتماعية والدينية والفكرية.

لكنّ كليهما لقيا حتفهما في آخر المطاف بسبب هذه الأفكار التي آمنا بها دون أن ينجحا في ترجمتها الى الواقع الحي.

الجذور تعود للملكة إزابيل التي أنهت الحكم الإسلامي للأندلس

ينحدر الملك فيليب الثاني وابنه دون كارلو من سلالة الملكة إزابيل (ولدت عام 1451 ونشأت في مملكة قشتالة) التي كان لها دور كبير في إنهاء العهد الإسلامي للأندلس. وقد تضمنت ملحمة شيلر وكذلك الأوبرا التي أعدها الموسيقي الإيطالي جوزيبه فيردي بعض الإشارات الإيجابية أحيانا والسلبية أحيانا أخرى للعصر الإسلامي العربي في إسبانيا.

يتألف العرض الأوبرالي لفيردي من خمسة فصول ويستغرق قرابة أربع ساعات وهي مدة تزيد عن متوسط الحيز الزمني للأعمال الأوبرالية التي أعدها الموسيقيون الإيطاليون المشهورون في مجال الأوبرا وتقترب من المعدل الزمني لأعمال الفنان الألماني فاغنر التي تراوحت بين أربع وست ساعات.

الملاحظ أن هذه الملحمة جسدت رغبة النخب الفكرية والدينية لعصر التنوير في تحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي وتكريس درجات أعلى من العدالة الاجتماعية.

لكن تلك البوادر الإصلاحية لم تأخذ طريقها إلى الأمام إلا بعض عقود طويلة شاقة وكان لفرنسا دور ريادي في هذا الصدد.

حاربت الأديان في الماضي الموسيقى والفنون بضراوة

رقت الموسيقى وغيرها من الأعمال الفنية في عصرنا إلى درجة عالية من القبول والاعجاب.

لكن ذلك لم يتحقق بين ليلة وضحاها فقد نظرت الأديان السماوية الثلاثة في البداية نظرية سلبية للموسيقى والغناء لا سيما أن العديد من الفنانين المغمورين سواء عند المسلمين أو اليهود أو المسيحيين استخدموا هذه الإطارات الفنية للتعبير عن سخطهم حيال تدهور الأوضاع الحياتية والسياسية السائدة.

وقد أبدعت الأعمال الفنية لدى أتباع المذهب الصوفي في الوصل بين أعمدة الدين الاسلامي والحياة الشعبية البسيطة.

لكن هناك تيارات متشددة معاصرة داخل الإسلام ما زالت تعتبر فن الموسيقى وخاصة التمنع به نمطا من أنماط الإثم والضلال.

كذلك الحال في أوساط يهودية متشددة يرى بعضها في الأنماط الموسيقية المعاصرة كالهوب والبوب ابتعادا عن أصول الدين لا سيما أن بعض هذه الأنماط لا تبخل في توجيه النقد لأعمدة الدولة والمجتمع والدين.

 

مشهد من أوبرا "دون كارلو" في مدينة بون الألمانية.  Oper Oper Don Carlo in Bonn - https://www.theater-bonn.de/de/presse/don-carlo/138  FOTO Theater Bonn Thilo Beu
اِلتقت الأفكار الإصلاحية في عمل كاد يكون "مشتركا" بين قطبي الأوبرا والشعر الكلاسيكي: شهدت دار الأوبرا لمدينة بون عرضا مستحدثا لأوبرا "دون كارلو" التي أعدها الموسيقار الإيطالي فيردي استنادا على ملحمة مسرحية للشاعر الألماني شيلر. تضمنت ملحمة مسرحية الشاعر الألماني شيلر وكذلك الأوبرا التي أعدها الموسيقار الإيطالي جوزيبه فيردي بعض الإشارات الإيجابية أحيانا والسلبية أحيانا أخرى للعصر الإسلامي العربي في إسبانيا، وفق ما يكتب عارف حجاج الذي شاهد الأوبرا ويروي هنا خفاياها وخلفياتها.

 

كما أن المسيحية حاربت الموسيقي حتى ظهور حركة الإصلاح الديني التي تزعمها الألماني مارتين لوتر.

لكن الكنيسة البروتستانتية وبعدها بقليل الكنيسة الكاثوليكية نجحتا بعد ذلك في استخدام الموسيقى والأناشيد اللاهوتية لأغراضها الدينية والاجتماعية.

الجدير بالذكر أن فيردي واجه في العروض الأولى لملحمة دون كارلو في باريس وميلانو وغيرها من المدن الأوروبية الكبيرة مقاومة شديدة من قبل الأكليروس المحافظ والأوساط السياسية المهيمنة التي حاولت عبثا الحلول دون عرض ملحمته الأوبرالية هذه.

ويقال إن التيار المعتدل داخل الدولة والمجتمع والكنيسة وقف بضراوة في وجه المطالبين بمنع عرض الأوبرا.

 

 

عارف حجاج

حقوق النشر: عارف حجاج / موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de