
أيام الجماهيرية الليبية والكتاب الأخضررحلة كاتب جزائري إلى ليبيا قبل الثورة على القذافي
الساحة الخضراء والأنهج الواسعة المزينة بالنخيل والبنايات غير العالية التاريخية من السكنات إلى المقرات الحكومية إلى القلعة والقوس الرومانية والأضواء الكهربائية في الليل ورطوبة البحر المتوسط المنعشة وأسراب الحمام يتجمع ملتقطا فتات الخبز ويطير إذا ضايقه أحد.
وسيدات مع أطفالهن وأزواجهن في فسحة مسائية يكللها الخفر والحديث المعطر بالبسمات البريئة وصوت المؤذن ينبعث شاقا أجواز الفضاء من مسجد "أحمد باشا" العريق يدعو إلى صلاة المغرب أو العشاء وأفواج الأفارقة والمغاربيين العاملين أو المتسكعين.
هي أجمل ذكرى لي في طرابلس الغرب كما تسمى تمييزا لها عن طرابلس الشرق في لبنان، لم أكن أمل من التسكع على طول النهج المحاذي للبحر والساحة الخضراء وشارع عمر المختار رمز المقاومة الليبية.
كنت أحمل الحنين لكل مكان ولكل عطر ولكل ذكرى، أعانق بنظراتي طيور النوارس البيضاء وهي تلامس الماء وأتخيل أساطيل الفينيقيين والرومان والعرب وهي تجوب محتلة أو فاتحة هذا البحر العظيم الذي يتوسط قارات العالم القديم من فينيقيا إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلسي).
وأردد في أعماقي: لقد ولدت لأرحل في المكان والزمان فأنا تقاطعات تاريخية ومكانية وشعورية لا يغادرني شعور دائم بالاحتفاء والدهشة والفرح العابر الذي يوفره لي فنجان قهوة جزوة في طرابلس وكأس شاي في صبراتة ولعب بساقي وهما في الماء وأنا جالس على صخرة الشاطئ بمدينة سرت شبه الخالية حيث الحرارة تعدت الأربعين في أواخر شهر أغسطس والغريب أنني كنت على الشاطئ! حتى إذا جاء المساء انقلبت سرت مدينة أخرى تعج بالناس الرجال والأطفال والنساء يخرجون لقضاء حوائجهم وللسمر ففي النهار يجري العمل بنظام الدوام الواحد ثم تكاد تنقطع الحياة وقت اشتداد الحر لتجدد الحركة في السابعة مساء.

من الجزائر عبر تونس إلى ليبيا
بدأت رحلتي من الجزائر العاصمة برا صباح الأربعاء باتجاه طرابلس التي وصلتها زوال الجمعة ذات أغسطس قبل الثورة وأنا أستعين بالذاكرة وحدها وهي مثخنة بالشجن والسنين وبكثير من الأمل في غد واعد لهذا البلد العربي الحقيق بكل خير ومسرة.
الطريق إلى الشرق يمتد منبسطا رتيب كأنه الأبد، فمنذ أن تركنا تونس وولجنا إلى الجماهيرية عبر معبر "رأس جدير" بعد مماطلات جمركية في تونس ولبيبا من أجل الدفع ولو بمبلغ ببسط لتسريع وتيرة الدخول الجماعي إلى تونس أو ليبيا، فالشعار المضمر الذي لابد من قراءته في ملامح رجال الجمارك وشرطة الحدود هو "دعه يدفع اتركه يمر".
يمتد الطريق بلا منعرجات طريق واسع تتوسطه أشجار النخيل وشعارات تلاحقك حيثما نظرت من نوع "النهر العظيم للشعب العظيم" "القرآن شريعة المجتمع " "الليبيون كلهم معمر القذافي في الفكرة والسلوك" "من تحزب خان".
أغسطس شهر حار والسفر في الصيف مرهق بل مخاطرة حين تقترب الحرارة من معدلات كبيرة وقياسية لكن في طرابلس الجو مقبول لولا رطوبة خانقة أحيانا، بين طرابلس وسرت يبدو الطريق كأنه الجحيم فأنت تسير بالموازاة مع الساحل ثم تنعطف إلى الجنوب في خليج سرت، ولا عجب فنحن في الصحراء وهذا الخليج يبدو أنه شرفة تطل على الجحيم ربما تقارب الحرارة الخمسين في بعض المناطق وأذكر أننا نزلنا قريبا من سرت لنستريح ونحتسي قهوة في مقهى بجانب الطريق.
كل من نلقاه كان ملثما على شاكلة الطوارق من الحر والغبار الصحراوي، حين فتحنا الحنفية سال الماء حارا لا يطاق ولن تشعر بالأمان من هذا الجو العدواني الذي يخنق أنفاسك إلا في الحافلة المكيفة، لكن في طرابلس الحرارة معتدلة مع رطوبة.
طرابلس الغرب عروس البحر المتوسط
تذكرت للتو تلك الحكاية التي تقول إن حاكم دبي قال للملك إدريس السنوسي لما زار طرابلس في الخمسينيات بأنه يتمنى أن تصبح دبي مثل طرابلس، فطرابلس تسمى عروس البحر المتوسط غير أنها لم تكن في أسعد أيامها أيامئذٍ، فالحصار الجوي يشل مطار طرابلس العالمي والحركة السياحية شبه مشلولة فلم ألتقِ إلا ببضع سياح بلغار فالثروة النفطية زهَّدت السلطة في تنشيط السياحة والاعتماد عليها في إنشاء بنية تحتية سياحية وخدماتية مثلما جرى الحال في المغرب وتونس.
فالخدمات في ليبيا رديئة وبدائية أحيانا والنظافة قليلة والعملة المعدنية لا وجود لها إلا الورقية ولا باص في المدينة ماعدا سيارات التاكسي ولا ميترو ولا لسكة حديد فلا يمكن أن تصنف كبلد سياحي لافتقادها إلى البنية التحتية للسياحة.
وعلى الرغم من ارتفاع أبراج جهة البحر تشير إلى حركة عمرانية تحديثية على شاكلة دول الخليج العربي تُفاجَأ بكم النفايات في الشوارع والقاذورات في كل مكان إلى الحد أن الروائح في أمكنة من العاصمة تزكم الأنوف، حتى السفارة الألمانية بقربها كومة نفايات كبيرة وهذا راجع لحالة الجفاف وغياب الماء في طرابلس فهو مشكلة كبيرة حتى أزف الفرج بوصول مياه النهر العظيم إلى طرابلس وقد كُتب لي أن أشهد الاحتفالية.
الشعارات الهواء الذي يتنفسه البلد
تبدو الشعارات الهواء الذي يتنفسه البلد فهو بلد "اللجان الشعبية" ولامركزية الوزارات وهو بلد شعاراتي بامتياز والأغاني تنبعث من الأكشاك تمجد عمل الزعيم في كسر الحصار الجوي وامتطائه الطائرة في رحلة خارجية إلى القاهرة "سافر الصعيد وطار" ويعتمد البلد على العمالة المصرية خاصة في التعليم والبناء والخدمات وبعض العمالة من تونس والمغرب العربي.
ويمكنك أن تجد أفواج العمال المصريين بلباسهم الصعيدي في الساحات العامة ينتظرون مستخدما وكثيرا ما يغضب العقيد من حاكم مصر أو بلد عربي فيطرد العمال هكذا وبكل بساطة.
تمثل ليبيا حالة معقدة لإشكالية البداوة والحضارة وشح الماء، فالمجتمع القبلي والتنوع العرقي والثقافي وخصوصية المكان الأرياف في الجبال والواحات في الصحراء والبدو والتداخل بين العرق الإفريقي والأمازيغي والعربي وعدم قدرة السياسة التي حكمت البلد منذ انقلاب عام 1969 على تمثل هذه التنوعات وصهرها في قالب المواطنة الحقيقية وتجسيد ثقافة ديمقراطية قائمة على التعددية والحقوق والحريات الأساسية والاستفادة من الثروة النفطية في إحداث ثورة علمية وتربوية تراهن على العامل البشري ومسألة التعليم باعتباره المحرر من التعصب الإثني والجهوية والعصبية القبلية.
وليبيا بلد لا يعرف اكتظاظا ديمغرافيا في حين أن عائدات النفط كبيرة جدا مع نهضة عمرانية وصناعية وثقافية تجعل البلد طليعيا في إفريقيا برمتها ولكن تم إفقار البلد من كل هذه الأحلام والرؤى البناءة لصالح ديماغوجيا وضلالات انتهت بالبلد إلى حالة من التردي المزري لا يتناسب مع تاريخه وثرواته الكبيرة التي راحت جزافا وأخيرا الثورة على هذا النظام في عام 2011 وبروز الأطماع الخارجية - قبل الثورة وبعدها- من جهة والاختلافات الإثنية والإقليمية، حيث ظهر بعمق مشكل ليبيا الشرق وليبيا الغرب ولكل جهة محيطها الدولي المساند والطامع في ذات الوقت.

الملك محمد إدريس السنوسي والمجاهد عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي
ليبيا البلد الذي كان مملكة وحكمه الراحل محمد إدريس السنوسي 1983 - 1890 ابن السيد المهدي الذي نشر الدعوة السنوسية في ليبيا وهي اتجاه صوفي ساهم في مقاومة الاحتلال، فقد اتفق الملك السنوسي مع عمر المختار على أن يتولى المختار الجهاد بالسلاح في ليبيا بينما يتولى السنوسي الدعوة السياسية بعد نفيه إلى مصر.
ذلك أن الاحتلال الإيطالي جثم على أرض ليبيا منذ عام 1911 وأبلى المجاهد عمر المختار بلاء حسنا في جهاده مع إخوانه حتى سقط شهيدا في ساحة المحاكمة وهو شيخ طاعن في السن ورثاه أحمد شوقي أبلغ الرثاء وأخلده وصارت تلك الأبيات على كل لسان:
إِفريقيا مَهدُ الأُسودِ وَلَحدُها ** ضَجَّت عَلَيكَ أَراجِلاً وَنِساءَ
وَالمُسلِمونَ عَلى اِختِلافِ دِيارِهِم ** لا يَملُكونَ مَعَ المُصابِ عَزاءَ
شَيخٌ تَمالَكَ سِنَّهُ لَم يَنفَجِر ** كَالطِفلِ مِن خَوفِ العِقابِ بُكاءَ
دَفَعوا إِلى الجَلّادِ أَغلَبَ ماجِداً ** يَأسو الجِراحَ وَيُعَتِقُ الأُسَراءَ
إنجاز عربي غير مسبوق انقلب عليه القذافي
ولما تحرر الليبيون عاد ملكهم السنوسي وأنجز إنجازا عربيا غير مسبوق دستورا من 204 مادة أهم ما فيه أنه يكفل حرية الرأي والفكر والتعبير وحكومة قوامها مجلس نواب منتخب وكان هذا الدستور طفرة سياسية غير مسبوقة في العالم العربي الرازح تحت أثقال الملكيات الثيوقراطية والجمهوريات الاستبدادية.

لكن جماعة الثوار بزعامة معمر القذافي انقلبوا على السنوسي وألغوا الملكية وأعلنوا ميلاد الجماهيرية عام 1969 ومما يروى أن الملك كان في رحلة علاجية لما حدث الانقلاب عليه، وكان تحته عشرة آلاف دولار فسلمها لشخص كان معه لتعود إلى ملكية الدولة الليبية.
ولم يعرف أن الملك كان يمتلك حسابات مصرفية في بنوك الخارج ولا عقارات شأن غيره من الرؤساء والملوك والأمراء العرب، والغريب أن هذه الثورة التي ادعت بناء الوطن محت جزءا من ذاكرة الوطن بمحو شخصية السنوسي من الذاكرة الليبية وطمس تاريخه بكل وحشية وهكذا يفعل كل ديكتاتور يسحق معارضه ويمحي ذاكرته، ليعيش بعدها في المنفى بمصر حيث توفي ودفن بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة عام 1983.
كان الملك السنوسي شخصية عربية استثنائية يحفظ القرآن معتدل الفكر والسلوك نظيف اليد هادئ الطبع سليم الطوية عرف بدعمه للثورة الجزائرية وعلى أرض طرابلس عقدت القيادة السياسية والعسكرية للثورة الجزائرية مؤتمر طرابلس عام 1962 لرسم معالم جزائر ما بعد الاستقلال كما حظي الملك باحترام الرئيس أنور السادات له لما كان في منفاه بمصر وكان يسمي خصمه العقيد "الواد المجنون بتاع ليبيا".
"الواد المجنون بتاع ليبيا"
أدى ذلك الانقلاب إلى رمي البلد في حمأة الديماغوجيا والضلالات السياسية والكاريزما الكاذبة القائمة على التزييف وشراء الذمم نتيجة لإحساس زائد بغطرسة الأنا "جنون العظمة " فدفع البلد فاتورة ثقيلة تخلفا واستبدادا وضياعا لماله العام هذا البلد النفطي الذي يرقد على بحر من النفط في حين يعيش الشعب عيشة لا تليق بمدخراته لقد أدت عملية شراء الذمم بالمال الليبي التى بذلت للملوك والرؤساء مقابل تسميات من قبيل "ملك ملوك إفريقيا "ودعم الانقلابات في إفريقيا والعالم الثالث إلى ضياع المال العام الليبي.
ولقد التقيت في جنيف في عام 1997 برجل طيب من "بنغازي" كان يشتغل قنصلا لليبيا في أحد البلدان وجاء إلى سويسرا للعلاج فقد كان يعاني من ورم في الدماغ، لقد قال لي إن أهل بنغازي يكرهون العقيد وديماغوجيته إنهم يمارسون التقية ولو جاءت الفرصة لتخلصوا منه نحن نختلف عن سكان طرابلس لا نصدق الهراء نحن أقرب إلى مصر وإلى الشرق وثقافتنا مشرقية وطباعنا ألين وأهذب، وكان يقصد ما شاع عن المواطن الليبي من فظاظة وانغلاق ومحدودية فكر وهي في الواقع فرية لا أساس لها من الصحة وليست من طباع الإنسان الليبي فهو ودود وشهم وما يبدو من فظاظة نتيجة لغسيل المخ السياسي والخطاب الديماغوجي الذي ضخم أنا الشعب ولم يثمن العمل معتمدا على الثروة النفطية وهي ثروة مجانية وربما من تبعات عدم الاختلاط بالعالم وعد وجود التعليم الاحترافي المبني على أسس علمية صحيحة ومناهج قويمة.
تدشين النهر العظيم ووصول الماء العذب إلى طرابلس
حضرت احتفالات الفاتح العظيم كما يسمى والذي تزامنت مع تدشين النهر العظيم كما يسمى أيضا ولقد كان من الشعارات التي ملأت طرابلس أيامئذ "النهر العظيم للشعب العظيم" خففت سريعا إلى الساحة الخضراء مقر الاستعراض العسكري حيث نصبت منصة شرفية للضيوف وهم حكام أفارقة ومن الضيوف، وحضر كذلك لويس فرخان زعيم "أمة الإسلام" في أمريكا وكان العرض الضخم وسط حشد شعبي كبيرا جدا عسكريا تقليديا للجنود بأسلحتهم ومدرعات عسكرية ودبابات وطائرات ميج 29 وكله سلاح روسي مع دعايات كبيرة وحماسة سياسية للعقيد وللزعيم كما يسمى هناك، وما لفت نظري تمثيلية في الشارع حيث تقود مجموعة من الجنود شخصا ذليلا مكبلا سألت من هذا ؟ فرد أحد الحاضرين: عميل الإمبريالية! وكان مجرد تمثيل.
ثم جرى تدشين وصول الماء العذب إلى طرابلس رمزيا من حنفية عمومية وسط أجواء فرح حقيقية ولقد عانينا أيام وجودنا في طرابلس من مكابدة شرب الماء المالح الأجاج وكنا نعرف أن مشكلة الماء العذب في طرابلس وفي ليبيا مشكلة كبيرة وقد احتفى الناس بوصول الماء العذب إلى طرابلس بعد أن أنجزت المشروع الذي كلف مليارات الدولارات شركة كورية جنوبية فرحنا مع الناس ولفرح الناس فالماء سر الحياة وأقنومها والله جعل من الماء كل شيء حي.