لا مكان للنجوم الزاهرة في محيط معاد للإبداع!

الرئيس الفرنسي ماكرون لم يجد في زيارته الثانية للبنان خلال أقل من شهر واحد، سوى فيروز يلجأ إليها في زمن الكارثة والكآبة
الرئيس الفرنسي ماكرون لم يجد في زيارته الثانية للبنان خلال أقل من شهر واحد، سوى فيروز يلجأ إليها في زمن الكارثة والكآبة

تساءل الكثيرون بعد انتشار صورة فيروز مع الرئيس الفرنسي: هل لدى العرب اليوم نجوم في وزن فيروز؟ وتساءل آخرون نفس السؤال بعد انتشار فيديو في الأيام الأخيرة على وسائط التواصل الاجتماعي يقوم فيه الرئيس جمال عبد الناصر بمنح أوسمة لعميد الأدب العربي طه حسين، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. خالد الخميسي يجيب على هذه الأسئلة في مقاله التالي لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : Khaled al-Khamissi

لماذا لم تبزغ نجوم في قامة عمالقة العرب على غرار فيروز وطه حسين وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب؟ هل لدينا اليوم في مجال القصة القصيرة من في قامة يوسف إدريس؟ وفي مجال الرواية من في قامة نجيب محفوظ؟ وفي مجال المسرح من في قامة توفيق الحكيم؟ وفي مجال الصحافة من في قامة محمد حسنين هيكل.

وفي السينما من في قامة صلاح أبوسيف؟ وفي مجال النحت من في قامة مختار؟ وفي الفن التشكيلي عبد الهادي الجزار؟ وفي مجال الفكر لويس عوض؟ وفي الشعر أمل دنقل؟ وفي العلوم د. على مصطفى مشرفة؟ وفي مجال الاقتصاد طلعت حرب.

الإجابة بالنفي في كل هذه المجالات.

هل تعد هذه الأسئلة جلد غبي للذات؟ وهل هذا النفي مجرد حالة عدم ابصار للموجودين على الساحة؟

لا أظن.

لم يلق كتاب في الخمسين عاماً الماضية الأثر، الذي أحدثه "في الشعر الجاهلي" لطه حسين حين صدوره عام 1927؟

إذن ما السبب؟ هذا أمر غير منطقي. فهناك بالتأكيد أصوات شابة يمكن أن توازي أصوات فيروز وأم كلثوم وليلى مراد وأسمهان. فلماذا لا تظهر تلك الأصوات؟ أين الملحنين في قامة السنباطي وبليغ والموجي والقصبجي؟

 

أم كلثوم امام تمثال أبو الهزل المصدر يوتيوب
أم كلثوم أسطورة عربية بلغت شهرتها العالمية: بعد 45 سنة على رحيل كوكب الشرق أم كلثوم، لا تزال حياة تلك الأيقونة، التي وحدت العرب بصوتها الرخيم تثير اهتمام أجيال عربية وأجنبية ناشئة ولا تزال مسيرتها الغنية فنياً وسياسياً واجتماعياً تدهش المبدعين والمؤرخين والمحللين السياسيين وصناع السينما.

 

هناك أسباب عديدة، دعوني أحاول إلقاء الضوء على بعضها:

أولا: المدينة - الحيز المكاني:

تلعب أي مدينة دورا بارزا في عمليتي الإبداع والابتكار. تشكل البيئة المكانية، والعلاقات التي يتم خلقها داخل الحيز المكاني الحافز في خلق الأفكار الجديدة. كما يمكن أن تلعب المدينة الدور العكسي في قمع ظهور أفكار تحمل الجديد. لا تتعلق المسألة فقط بوجود نظام سياسي داعم للإبداع أم العكس.

دعونا نتتبع كيف أن مدينة مثل بودابست في الربع الأول من القرن العشرين شكلت مجالا حيويا لظهور العديد من المبدعين العمالقة الذي أثروا تأثيرا كبيرا على مجريات القرن العشرين، يمكن أن أذكر منهم الفيزيائي "ليو زيلارد"، الذي كان من أوائل من طور تطبيقات للطاقة النووية منذ عام ١٩٣٣، و"جون فون نيومان" الرياضي والفيزيائي الذي كانت له إسهامات كبيرة في ميكانيكا الكم.

كما يمكن النظر في حالة الإسكندرية في نفس الحقبة الزمنية وكيف أنها كانت أيضاً مكانا لظهور الأفكار الجديدة، يمكن أن نكتفي بذكر "سيد درويش" و"بيرم التونسي" و"توفيق الحكيم" و"محمود سعيد" وبزوغ نجمهم خلال هذه الفترة الثرية في تاريخ مدينة الإسكندرية.

وفرت الإسكندرية كمدينة جاذبة لجميع التخصصات من مختلف الجنسيات بيئة ثقافية ومادية مناسبة تسمح بأن يطور الإنسان أفكاره. فالإبداع لا يسقط من السماء، كتفاحة تقع فتظهر الفكرة. يحتاج الإبداع إلى توفر شبكة من البشر تمثل الحافز لتطوير الملكات. فسيد درويش قد احتاج إلى بديع خيري، كلاهما احتاج إلى نجيب الريحاني. والثلاثة احتاجوا إلى عشرات غيرهم ليظهر إبداعهم للنور.

كانت مصر في النصف الأول من القرن العشرين مكانا جاذبا للأرمن والشوام والايطاليين واليونانيين وغيرهم. وإذا تتبعنا عالم السينما أو الموسيقى أو المسرح أو العالم الأكاديمي فسوف نجد عشرات من جنسيات مختلفة ساهموا جميعهم في دفع هذه الفنون إلى الأمام. هكذا كان حال باريس ونيويورك في الربع الأول من القرن العشرين، مدن جاذبة للفنانين.

هل توفر أي مدينة مصرية أو عربية هذا المناخ العام لخلق الأفكار؟

بالتأكيد لا توجد مثل هذه المدينة. لا توجد مساحات جادة للحوار وللتبادل. الكيانات العلمية والثقافية مريضة وعجوزة ودون ميزانيات كافية. والنشاط التعليمي والفني يفتقد للكثير من الآليات الحديثة الداعمة للإبداع. والتعليم المدرسي كما تعرفون قائم على التلقين. لا توجد لدينا في البيئة المكانية حاضنات لتحفيز الإبداع.

 

 

ثانيا: فتح المجال للأسئلة الكبرى

في النصف الأول من القرن العشرين كانت مصر في حالة فوران فكري وثقافي. أسئلة حول الهوية، والسعي لاكتشاف أسرار الحضارة المصرية. أسئلة عن الانتماء لحضارة البحر المتوسط، أو الانتماء للدولة الإسلامية، أو الانتماء للحيز المكاني المتحدث باللغة العربية. طرح أسئلة جديدة، وظهور تيارات فكرية ماركسية وإسلامية وفاشية وغيرها. وبزغت الحركة النسوية، والحركة العمالية. كان هناك قبول عام في محاولات النبش في جسد التاريخ والفكر. داخل هذا المجال الداعم بشكل عام للحقوق المدنية، كان النقاش المجتمعي ممكنا، الأمر الذي أدى إلى تحفيز الطاقات الإبداعية. وحتى في حالات الاقصاء والترهيب وهو ما تم للشيخ علي عبد الرازق بعد صدور كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، إلا أن الكتاب حقق ما صبا إليه مؤلفه، وأثرى حالة الحوار المجتمعي في شأن الخلافة الإسلامية.

خلال نصف القرن الماضي، هناك توجه سياسي عام مؤداه أن الأسئلة الكبرى قد أغلق مجال البحث حولها. فالقائمين على السلطة التنفيذية يمتلكون سلطة طرح علامات الاستفهام ويقبضون في أيديهم على مفاتيح جميع الإجابات. أما من يسعى لطرح ما لا ترتاح له القيادات السياسية فمصيره مظلم.

ثالثا: حالة انفتاح وتسامح أمام حالة انغلاق وتطرف:

قرأت منذ أيام خبر اصدار الرئيس الجزائري قرارا يمنح فيه الجنسية الجزائرية لبيار أودان، نجل موريس أودان، وهو متخصص فرنسي في الرياضيات وعضو الحزب الشيوعي الجزائري الذي كافح من أجل استقلال الجزائر حتى قتلته قوات الاحتلال الفرنسي وهو عمره خمسة وعشرين عاما.

وقد أبدى العديد من الجزائريين اعتراضهم على منح الجنسية الجزائرية لفرنسي غير مسلم. وهو موقف يعبر بوضوح عن حالة الانغلاق والتطرف التي توصم نسبة كبيرة من الشعب العربي. نفس حالة الانغلاق التي تجلت بوضوح فيما حدث لصحفية مصرية كانت تتحدث إلى الصحفي الفرنسي "آلان جريش" وهما جالسان في مقهى شعبي في وسط القاهرة. وما حدث غريب ومؤلم. فقد قامت امرأة كانت قد استمعت إلى حوارهما واتجهت إلى شرطي لتقديم تحذير من احتمال وجود جاسوسة مصرية تفشي أسرار البلاد لأجنبي دسيس. المؤسف أن الشرطي توجه بالفعل إلى آلان جريش والصحفية المصرية وطلب من المصرية التوجه معه إلى قسم الشرطة. حالة من الخوف من الآخر مرعبة. كيف يمكن أن تنمو أفكار في ظل هذا الخوف. انخفض سقف العالم حتى حطم عظام ترقوة كل إنسان.

في حين لو أننا قرأنا أغنية بوخمار خنفشار التي كتبها بديع خيري ولحنها سيد درويش فسوف نجد الشامي والتركي والمصري واليوناني حاضرة أصواتهم في النص.

خالد الخميسي روائي مصري، وكاتب، ومحاضر، وناشط ثقافي. تمحورت أعماله الروائية: "تاكسي"، و"سفينة نوح"، و"الشمندر" حول المجتمع المصري وتشريحه في نصف القرن الماضي
خالد الخميسي روائي مصري، وكاتب، ومحاضر، وناشط ثقافي. تمحورت أعماله الروائية: "تاكسي"، و"سفينة نوح"، و"الشمندر" حول المجتمع المصري وتشريحه في نصف القرن الماضي

 

رابعا: دعم الطاقات الشابة

اختارت وزارة المعارف العمومية د. علي مصطفى مشرفة لبعثة علمية إلى بريطانيا على نفقتها بعد أن أنهى دراسته في دار المعلمين العليا. تفجرت ثورة 1919بعد أن حصل على شهادة في الرياضيات. وعندما أبدى رغبته في العودة إلى مصر قال له أحد قادة الثورة: "نحن نحتاج إليك عالما أكثر مما نحتاج إليك ثائرا". عاد د. مشرفة إلى مصر بعد أن حصل على الدكتوراه في العلوم عام 1924 ليعمل أستاذ مشارك في الرياضيات التطبيقية في كلية العلوم، ثم منح درجة أستاذ عام 1926 وقبل أن يتم الثلاثين عاما من عمره، وكان هذا ضد قانون الجامعة المصرية. ما نفهمه من حكاية د. مشرفة أن الرجل تم دعمه بشكل كامل منذ تفوقه في المدرسة إلى أن أصبح أول عميد مصري لكلية العلوم.

نعم ما زلنا نرسل طلبتنا للحصول على الدكتوراه في الخارج، ولكن ليس هذا فقط هو نوع الدعم الذي تحتاجه طليعة العلماء والمفكرين. فطريق التقدم يحتاج إلى دعم متصل لمن يمتلك القدرة على السير الصعب نحو القمم. وهذا ما لا يتحقق منذ أن وعيت على الدنيا. فمن يتم دفعهم هم أبناء المسئولين أو خدم السلطة ومن يلعق أحذية القادة في خنوع.

تصوروا معي عازف ماهر للقانون يعزف الروائع، فتحيطه فرقة حسب الله وتصدر عبر أبواق هائلة الحجم أصواتا عالية مزعجة، أو كيمائي يعمل على تركيبة جديدة ويدلق أحدهم لتر مياه على هذا الترياق. أو يكتب شاعر قصيدة فتنهمر فوقه ملايين الحروف التي لا معنى لها سوى كل رخيص.

هذا ما عايشته فكيف بالله يمكن أن تبزغ فكرة لامعة في هذه البيئة المعادية للتفكير والإبداع؟  

 

خالد الخميسي

حقوق النشر: قنطرة 2020

خالد الخميسي روائي مصري، وكاتب، ومحاضر، وناشط ثقافي. تمحورت أعماله الروائية: "تاكسي"، و"سفينة نوح"، و"الشمندر" حول المجتمع المصري وتشريحه في نصف القرن الماضي. ترجمت أعماله الروائية إلى العديد من اللغات. نشر في عام 2014 كتابه الأول خارج فن الرواية: "2011 نقطة ومن أول السطر". تعرض مقالات الخميسي في مصر والخارج مزيجًا من خلفيته كمحلل سياسي وكاتب روائي.

 

..........

طالع أيضا:

خالد الخميسي يكتب: وطننا العربي يعاني من نظام غير متسامح مع الآخر 

"على الإنسان أن يكون إنساناً قبل أن يكون متديناً" ـ

لماذا فشل العالم الإسلامي وتقدم الآخرون؟

انفصام النخب العربية عن واقع الشعوب

.........