حرب "عفرين"... حرب تركية من صناعة أميركية؟

سكان عفرين يتألفون من 98 في المائة من الأكراد والإيزيديين الأكراد غير المسلمين. عسكريا تبقى تركيا التي لا يمثل جيشها ثاني أحدث ولكن ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو متفوقة كثيرا نظريا على الأكراد.
سكان عفرين يتألفون من 98 في المائة من الأكراد والإيزيديين الأكراد غير المسلمين. عسكريا تبقى تركيا التي لا يمثل جيشها ثاني أحدث ولكن ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف الناتو متفوقة كثيرا نظريا على الأكراد.

الباحث باراك بارفي: مع تكثيف تركيا حملتها العسكرية ضد المقاتلين الأكراد السوريين، يُصبِح من المغري أن نلقي اللوم عن كل هذا العنف على شوفينية الرئيس رجب طيب أردوغان الصارخة وكراهيته للأجانب.

الكاتبة ، الكاتب: Barak Barfi

حَذَّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لفترة طويلة من أن تركيا لن تتسامح أبدا مع أي وجود عسكري كردي على الحدود الجنوبية للبلاد؛ وقد يبدو الهجوم الأخير وكأنه يشير إلى أن كلمات أردوغان تتحول الآن إلى أفعال على الأرض.

ولكن في حين أَمَر أردوغان بشن "عملية غصن الزيتون"، فإن الجاني الحقيقي كان تركيز الولايات المتحدة الذي يتسم بقِصَر النظر على قهر النزعة الجهادية الإقليمية. فبسبب الافتقار إلى سياسة متماسكة في التعامل مع سورية، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة مصابة بهوس استهداف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بدون أن تضع في الحسبان العواقب والتبعات الكاملة المترتبة على تصرفاتها. ولم يكن توغل تركيا في شمال غرب سورية سوى واحدة من هذه العواقب.

وفي تموز (يوليو) من العام 2012، عندما استولى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني على سلسلة من البلدات الحدودية السورية، شعرت تركيا بالجزع الشديد. ذلك أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي يشن حرب عصابات ضد حكومة تركيا منذ العام 1984.

في مستهل الأمر، شاطرت الولايات المتحدة أردوغان مخاوفه. ففي آب / أغسطس 2012، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، هيلاري كلينتون، أن "سورية لا يجب أن تتحول إلى ملاذ آمن للإرهابيين من حزب العمال الكردستاني".

تنظر تركيا إلى حزب العمال الكردستاني بوصفه تهديداً لوجودها، وتعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني تابعاً مهلكاً له في سورية.
تنظر تركيا إلى حزب العمال الكردستاني بوصفه تهديداً لوجودها، وتعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني تابعاً مهلكاً له في سورية.

ولكن بعد استيلاء "داعش" على مساحات شاسعة من الأراضي في سورية والعراق، وجدت أميركا في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني حليفاً مفيداً. وسرعان ما قامت الولايات المتحدة بتزويد الجناح المسلح للحزب بالسلاح والتدريب.

وقد سعى أردوغان الذي أغضبته هذه التحركات إلى الحصول على تأكيدات أن الدعم الأميركي للأكراد مؤقت، وأن المقاتلين الأكراد لن يعبروا نهر الفرات. ولكن، بعد حصول الأتراك على الضمانات التي أرادوها، عبر الأكراد المدججون بالسلاح نهر الفرات على أي حال.

ثم في آب (أغسطس) 2016، وجه نائب الرئيس جوزيف بايدن توبيخاً علنياً إلى مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي، محذراً إياهم من خسارة دعم الولايات المتحدة إذا لم يتراجعوا. ولكن المقاتلين لم يعودوا أدراجهم قَط، وواصلت الولايات المتحدة تسليحهم وتدريبهم. وفي نيسان (إبريل) 2017، أعلن أردوغان الغاضب أن إدارة أوباما "خدعت" تركيا بشأن حزب العمال الكردستاني. وتنبأ قائلاً: "لا أعتقد أن إدارة ترامب ستفعل الشيء نفسه".

لكن أردوغان كان مضللاً مرة أخرى. فعلى الرغم من الوعود التي نقلتها التقارير بإيقاف نقل الأسلحة الأميركية، لم يغير الرئيس دونالد ترامب المسار، واستمرت الأسلحة الأميركية في التدفق إلى الأكراد.

لهذه الأسباب، فَقَد قادة تركيا الثقة في أي شيء تقوله حكومة الولايات المتحدة. والواقع أن البلدين لا يستطيعان حتى الاتفاق على مضمون مكالمة هاتفية بين الرئيسين، كما رأينا من الروايتين المتضاربتين لمحادثة جرت بينهما الشهر الماضي.

كيف وصلت العلاقات بين حليفين في منظمة حلف شمال الأطلسي إلى مثل هذه النقطة المتدنية؟

يمكن تعقب جزء كبير من الإجابة إلى رفض الرئيس باراك أوباما نشر قوات قتالية ضد "داعش"، وتوجهه بدلاً من ذلك إلى ترك بصمة خفيفة من خلال استخدام قوات محلية بمعاونة الغارات الجوية الأميركية والتدريب. وقد جربت الولايات المتحدة هذا النهج لأول مرة في العراق، ولكنه أفضى إلى نتيجة عكسية عندما نجحت قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران في الاستيلاء على الأرض.

وسوف تبلغ العواقب المترتبة على هذا القرار، والتي اختارت الولايات المتحدة تجاهلها إلى حد كبير، ذروتها في نيسان (إبريل)، عندما يخطط قادة قوات الحشد الشعبي لخوض الانتخابات البرلمانية في العراق.

لا توجد أية مساندة شعبية لعملية أنقرة في عفرين
لا توجد أية مساندة شعبية لعملية أنقرة في عفرين: حتى ولو نجحت تركيا بتفوقها المادي والتكنولوجي والرقمي في الاستيلاء قريبا على عفرين، فإن آفاق النجاح السياسي بعيدة المدى لعملية "غصن الزيتون" تبقى في أحسن الأحوال غير منظورة. سيصعب على الأتراك تعيين عمدة قوي في عفرين وإيجاد زعيم كردي مطيع مثل مسعود برزاني الذي حكم طويلا في شمال العراق، لأنه بخلاف الوضع في كوباني ولاسيما في إقليم الجزيرة وهما الإقليمان الشرقيان اللذان توجد فيهما معارضة كردية داخلية ضد وحدات حماية الشعب الكردي ووحداتها المسلحة، فإن دعم السكان المحليين لأصحاب السلطة في عفرين يكاد يكون بالإجماع.

في سورية، أثبت الأكراد كونهم وكيلاً أكثر جدارة بالثقة. ولكن ولاءهم للولايات المتحدة لم يكن بلا تكلفة. كان أوباما على استعداد للتغاضي عن علاقات مقاتليهم بحزب العمال الكردستاني، مستخدماً خيطاً رفيعاً للتميز بين جماعات لا يمكن التمييز بينها. واختار أوباما، الذي لم يقدر مخاوف أردوغان حق قدرها قَط، معالجة مخاوف تركيا بشكل سطحي.

تركيا إلى حزب العمال الكردستاني بوصفه تهديداً لوجودها

وعندما تولى ترامب الرئاسة، كان عدم اهتمامه بالتفاصيل وميله إلى الاستعراض واجتذاب آهات الإعجاب سبباً في تفاقم التوترات. وكانت إحدى السمات الأساسية لرئاسة ترامب هي رغبته في تملق ضيوفه والفوز بالحظوة لديهم من خلال عرض ما لا يستطيع تقديمه حقاً (كما فعل خلال اجتماع عقد مؤخراً مع الديمقراطيين في الكونغرس حول الهجرة). ويبدو أن هذا الميل أسفر عن وعود بذلها ترامب لأردوغان لم يكن صانعو القرار في البنتاغون، الذين يوجهون السياسات الأميركية في التعامل مع العراق وسورية، عازمين على الوفاء بها قَط.

ولكن، على النقيض من المشرعين في الولايات المتحدة، يُسَيِّر أردوغان من حوله جيشاً يتصرف وفقاً لتقديره الشخصي. وتنظر تركيا إلى حزب العمال الكردستاني بوصفه تهديداً لوجودها، وتعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني تابعاً مهلكاً له في سورية.

وكانت الرسائل الأميركية المشوشة، التي يسلمها رئيس تعوزه الدبلوماسية والمهارة في التعامل مع الأمور السياسية الدقيقة، سبباً في إضرام النار في علاقة بالغة الأهمية، وبالتالي تعريض المعركة ضد "داعش" للخطر. وعلى الرغم من ادعاء ترامب في خطاب حالة الاتحاد أن تنظيم داعش هُزِم تقريباً، فما يزال نحو 3000 من مقاتلي التنظيم باقين في سورية، ويستولون على الأرض أحياناً.

هذه السياسة الأميركية باختصار هازمة لذاتها والغرض منها. فهي لا تشجع خصوما مثل إيران ووكلائها من قوات الحشد الشعبي فحسب؛ بل وتعرض للخطر أيضا نحو 2000 جندي أميركي يعملون مع الأكراد في سورية.

لم يكن حس أوباما الغريزي مخطئاً. فالغزوات كاملة النطاق نادراً ما تنجح في استئصال التهديد الجهادي. ولكن أسلوب التعاقد من الباطن مع مقاتلين محليين في سورية، والذي تنتهجه أميركا في إدارة المعارك هناك، تسبب في خلق مخاطر جديدة.

وإذا كان ترامب راغباً في الانفصال عن الماضي واكتساب الفضل الذي يدعيه لنفسه، فيتعين على الولايات أن تجد وسيلة جديدة لتحقيق أهدافها الأمنية من دون نشر فِرَق بأكملها. ولكن في الوقت الحاضر، لا تقدم الولايات المتحدة لتركيا -والمنطقة- سوى عدم الاتساق والإرباك والمزيد من الوعود الفارغة.

 

باراك بارفي

*باحث في "نيو أميركا"، متخصص في الشؤون العربية والإسلامية.

© Project Syndicate 2018

 

[embed:render:embedded:node:28615]