علويون في تركيا - يظهر في الصورة: محمد جلبي.

إرث العلويين في تركيا
بير سلطان عبدال: شاعر علوي أيقوني كافح بعود الساز

الصحفي الألماني راينَر هيرمان زار في قرية تركية جبلية صغيرة محمد جلبي حفيد، وهو شاعر علوي من القرون الوسطى أثار شعره انتفاضة في الإمبراطورية العثمانية ويكاد لا يخلو منزل علوي تركي من صورته الأسطورية.

قرى صغيرة منتشرة وحيدة في سهول الأناضول العالية لم تعد موضحة على أي خرائط، وثلوج حوّل ذوبانها الوديان إلى لون أخضر خصب، وراعٍ يقود قطيعاً من الغنم عبر المرعى. وحتى في أوائل الصيف لا تزال قمم الجبال مغطاة بالثلوج. وفوق المسار المتعرّج إلى قرية هاجيلي كوي، ترتفع الجبال إلى 2500 متر وخلفها قمة هي الأعلى يصل ارتفاعها إلى 3500 متر. والجدول المائي هنا هو أحد روافد بولومور تشاي، والذي يشقّ طريقه عبر أحد أجمل الوديان في الأناضول. إضافة إلى ذلك، يتدفّق نهر بولومور تشاي باتجاه خزان سدّ كيبان، ليصبح جزءاً من نهر الفرات.

في السبعينيات، كان هناك ما يقرب من 100 أسرة في هاجيلي كوي. أما اليوم فلم يبقَ فيها غير 6 عائلات. يعيش محمد جلبي مع زوجته، وكلاهما يبلغ من العمر 90 عاماً، في منزل متواضع يشبه جميع المنازل الأخرى في القرية، سواء أكانت مأهولة أو فارغة. وترفهم الوحيد عبارة عن شرفة مغطاة يحرسها كلب الراعي الأناضولي الذي يُدعى كانغال.

حفيد مباشر لبطل شعبي

كان محمد جلبي يبلغ من العمر بضع سنوات فقط حين انتشر مسؤولو الجمهورية التركية الفتيّة في جميع أنحاء البلاد. خُصِّص اسم عائلة لكل مواطن، إذ لم يكن من المعتاد للمواطنين أن يكون لديهم اسم عائلة في زمن الإمبراطورية العثمانية. ومنذ ذلك الحين، سمّيت عائلته جلبي. وكان هذا هو الاسم الذي أعطته الدولة الفتيّة لقادة الطوائف الدينية، التي حظرتها.

 

رجل يعزف عود الساز – تركيا. A man plays the baglama in the middle of a crowd in the sunshine (photo: picture alliance/dpa)
تُظهِرُ معظم صور بِير سلطان -سواء كانت صورة أو تمثالاً- الشاعر يحمل الساز، عود طويل العنق، فوق رأسه كرمز لانتصار الحرية والعدالة. يتمتع بالتبجيل بفضل شِعره والطريقة التي دافع بها عن الفقراء والمحرومين. يظهر في الصورة: رجل يعزف الساز.

 

وجلبي هو حفيد مباشر لبير سلطان عبدال (1480-1550)، والذي يبجّله العديد من العلويين وكأنه قديس. لكن بِير سلطان لم يؤسّس نظاماً دينياً، مثل المولوية، أو الدراويش المولوية. بدلاً من ذلك، ناصر الفقراء والمحرومين. واحتجاجاته ضدّ السلطات العثمانية أسطورية. اعتبروه مثيراً للمشاكل وأعدموه بالقرب من مسقط رأسه سيفاس.

عاش بير سلطان حياة ترحال، مسافراً حتى مدينة أردبيل التي تقع فيما يُعرف الآن بإيران. أخبره أحد المعلمين هناك أنّ مكانه كان في الأناضول، لذلك عاد إلى وطنه. بنى منزلاً في القرية التي تُعرف اليوم باسم هاجيلي كوي وأنشأ عائلة. ومنذ ذلك الحين يعيش أحفاده في المنزل، وفي نهاية شهر كانون الثاني/يناير من كل عام، يُقام هناك مهرجان على شرفه. ويتّصل بالمنزل "بيت الجمع" الذي بناه بير سلطان. يجتمع فيه العلويون من أجل الاحتفالات الدينية.

القتال بالموسيقى بدلاً من السلاح

يجلس محمد جلبي بالقرب من الباب مباشرة، حيث جلس بير سلطان أيضاً. هذا مقعد الشرف المحجوز لنسله. ويمكن للغرفة المعتمة استيعاب أكثر من 100 شخص. توجد مقاعد من الطوب على الجدران، السجاد منتشر على الأرض، ورسومات لأشخاص يعتبرهم العلويون مقدسين معلّقة على الجدران: الأئمة الشيعة الاثني عشر، بدءاً بعلي؛ علي بوصفه سيد الشهداء ومروّض الأسود؛ الحاج بكتاش ولي، الفيلسوف الكبير للعلويين؛ وبالطبع بير سلطان ذاته.

يمكن العثور على صورته الأيقونية في كل منزل علوي تقريباً. تُظهِرُ الشاعر رافعاً الساز، وهو عود طويل العنق، فوق رأسه كرمز لانتصار الحرية والعدالة. ويرتبط العلويون، الذين يشكّلون خمس السكان الأتراك، مع بير سلطان إلى يومنا هذا، كما يفعل العديد من اليساريين الأتراك. غالباً ما يرددون القصائد المنسوبة إليه. أثار شعره انتفاضات في زمن الإمبراطورية العثمانية. لغة قصائده بليغة وموجزة. وتتشكّل العديد من استعاراته حول الله والطبيعة وقبل كل شيء حب البشرية من خلال التصوف الإسلامي.

 

 

واحدة من قصائده الأكثر شهرة "لا تغني أيها العندليب". إنها تلخّص كفاحه، الذي خاضه بعوده طويل العنق بدلاً من السلاح. يغني: "إذا تلقيت أخباراً عني، فستكون مع الشجعان. ستلفّ جراحي بالشهداء/لأربعين عاماً، جبت الجبال مع الغزلان/صديقي، من معاناتك احترق واحترق". وفي المقطع الأخير، يتأمّل في موته: "بسبب حبي الشديد للحق، شُنِقتُ".

كتب بير سلطان قصائده باللغة التركية. كان أسلاف العلويين قد وصلوا إلى الأناضول قبل قرون من موطن الأتراك في آسيا الوسطى عن طريق المرتفعات الإيرانية. استمر البعض في التحدّث باللغة التركية، بينما جلب آخرون الزازاكية معهم من إيران، وهي لغة إيرانية شمالية غربية تتحدثها القرى المحيطة بِـ هاجيلي كوي.

ويتحدث محمد جلبي تركية صافية وواضحة؛ ولا يستخدم الكلمات المستعارة العربية-الفارسية التي أصبحت شائعة في ظل العثمانيين، أو أي مصطلحات حديثة. ويقول جلبي عن العثمانيين: "كانوا من السنة، ومنعونا من ممارسة عقيدتنا". وهذا سبب انسحاب العلويين إلى المناطق الجبلية النائية في الأناضول. "لقد اضطهدونا لأننا كنا دائماً إلى جانب المظلومين". مثل الشاعر بير سلطان الذي شنقوه: "لأنه لم يقف قَطّ إلى جانب الحكام".

حياة بسيطة

على الرغم من سلفه المتميز ومكانته الاجتماعية، كانت حياة محمد جلبي بسيطة. كان يزرع الحبوب ويربي الماشية في القرية التي وُلِد بها. كما نقل تعاليم السيد، والتي تحتوي على جوهر العلوية. ويلخص ذلك على النحو التالي: "كن صادقاً وصالحاً، لا تفعل شراً ولا تسرق، لا تكذب، ابتعد عن النميمة الخبيثة، أظهر التضامن وساعدوا بعضكم البعض".

 

علويون في تركيا - يظهر في الصورة: محمد جلبي. Mehmet Celebi (photo: Rainer Hermann)
بنى بِير سلطان منزلاً في قرية صغيرة تُعرف اليوم باسم هاجيلي كوي في تركيا. يعيش أحفاده في المنزل منذ ذلك الحين. كما بنى بير سلطان "بيت جمع"، يتصل بالمنزل. يجتمع العلويون فيه من أجل المناسبات الدينية. يظهر في الصورة: محمد جلبي.

 

ويسمي محمد جلبي ذلك "فلسفة حياة". ويقول إنّ الدولة هي التي تبثُّ الفوضى في العلاقات بين الناس، لأنها تمارس التمييز وتستعبد الناس. في تركيا، لم يعد العلويون مضطهدين، لكنهم مازالوا يعانون من التمييز. لا يزالون غير ممثّلين في المناصب العليا للدولة أو في صفوف الجيش. تعاملهم الدولة كمسلمين ولا تعترف بهم كدين مستقل.

لقد تأثّر بشدة بالأنشطة الإرهابية لحزب العمال الكردستاني. يقول جلبي إن أفرادا من هذا الحزب جاؤوا في الليل وأخذوا منهم طعاماً وغذاء بعنف. ومن ثم دفعت سياسات الدولة، المتمثّلة في الإخلاء القسري وتدمير القرى، الغالبية العظمى من العلويين إلى الهجرة. لم يعد هناك المزيد من المجتمعات القروية في الأناضول الريفية القديمة. لكن في حين أنّ هذه القرية قد تقلّصت إلى درجة كبيرة، لا تزال مهمة للغاية بالنسبة للعلويين. لن يتخلّى الجلبيون عنها.

 

 

راينَر هيرمان

ترجمة: بسرى مرعي

حقوق النشر: فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ / موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de

 

اقتباسات شعرية:

https://bosphorusreview.com/dont-sing-nightingale

 

 

المزيد حول أعمال وحياة أيقونة الشعر العلوي 

بير سلطان عبدال – صاحب العود الشهيد

 

 

 

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة