لماذا يستهدف الإرهاب الأقباط في مصر؟

يعد الهجوم الإرهابي الأخير على حافلة للأقباط في محافظة المنيا، الذي أدى إلى مقتل العشرات بينهم عدد كبير من الأطفال، آخر إعتداء في سلسلة هجمات إستهدفت الاقلية المسيحية في مصر. الكاتب شادي لويس يستشرف أسباب استهداف الأقباط، ويشير في تحليله التالي لموقع قنطرة إلى أن الهجمات الأخيرة وقعت في سياق محلي وأقليمي مختلف بشكل جوهري عن عنف الثمانينات.

الكاتب، الكاتبة : شادي بطرس

في النصف الأخير من ديسمبر عام 1988، وبعد أربع شهور من أعمال العنف، التي اندلعت في منطقة عين شمس، في شرق القاهرة، على إثر اغتيال الجماعة الإسلامية للنقيب محمد زكري فيما عرف بـ"أحداث عين شمس الأولي"، شنت السلطات المصرية حملة أمنية واسعة ضد معاقل الجماعة في الحي.

كان اقتحام قوات الأمن لجامع آدم، الذي كان مركزا لنفوذ الجماعة الإسلامية، في تلك الليلة، مقدمة لأعمال عنف دموية بين الشرطة وأفراد الجماعة والمتعاطفين معها من الأهالي، امتدت لأيام، فيما عرف حينها ب"أحداث عين شمس الثانية"، والتي تعرضت فيها الكنائس والمحال التجارية المملوكة لأقباط ومنازلهم في الحي لهجمات متزامنة، أسفرت عن عدد محدود من الضحايا.

لم يكن العنف ضد الأقباط حدثا استثنائيا، فمنذ إشعال النار في دار الكتاب المقدس في منطقة الخانكة بالقاهرة عام 1972، ومهاجمة كنيسة الملاك بأسيوط، في صعيد مصر، عام 1975، بدأ الاعتداءات ضد الأقباط في التصاعد، وصولاً إلي أحداث الزاوية الحمرا (القاهرة) في عام 1981 والتي سقط ضحيتها أكثر من80 قتيلا من الأقباط، مما جعلها نقطة البداية لتسجيل موجة العنف ضد الأقباط في عهد الجمهورية المصرية.

لكن العنف الذي توسع مداه بعد "فتنة الزاوية الحمرا" كان مدفوعا في معظم الأحيان باحتكاكات بين الأهالي على خلفية أزمات بناء الكنائس، والعلاقات العاطفية والجنسية بين أبناء الطائفتين، والتحول الديني، وأحيانا أخري هجمات فردية لا ينتسب منفذوها لجماعات بعينها. فباستثناء عمليات مهاجمة محال الذهب، التي يملكها أقباط، لسرقتها، وقتل أصحابها في أحيانا أقل، وممارسة العنف ضد الطلبة الأقباط في جامعات الصعيد منذ منتصف السبعينات، فإن التنظيمات الإسلامية الجهادية لم تضع الأقباط على قائمة أهدافها الأيدلوجية.

غضب وحزن في المنيا خلال تشييع جثمان ضحايا الارهاب في المنيا
غضب وحزن في المنيا خلال تشييع جثمان ضحايا الارهاب في المنيا

نقطة تحول في العنف ضد الأقباط

لكن أحداث عين شمس الثانية، كانت نقطة تحول في العنف ضد الأقباط، أو على الأقل النموذج الأكثر وضوحا لموجة متمايزة من موجات استهدافهم، كان دافعها الوحيد الإنتقام من الدولة، والتعويض الرمزي لحالة الإنكسار أمام أجهزة الأمنية.

فالجماعات الإسلامية، التي لم تضع الأقباط على قائمة أهدافها في السابق، كان تجاهلها للأقباط عرضا جانبياً لأهدافها شديدة الطموح منذ منتصف السبعينات للاستيلاء على الحكم، سواء عبر انقلاب سريع، أو عملية طويلة من "تثوير المدن" تنتهي بانتفاضة تحاكي الثورة الإيرانية.

وعلى هذا النحو فإن التنظيمات، التي نجحت في اختراق الجيش، واستهدفت الاستيلاء على مؤسسات عسكرية، كعميلة الكلية الفنية العسكرية 1974، ونجحت في اغتيال رئيس الجمهورية نفسه في عام 1981، وكادت تنجح في الاستيلاء على محافظة أسيوط ومقراتها الأمنية بعدها بأيام، ولاحقا قامت باغتيال رئيس البرلمان ووزير الداخلية، وعددا من الأدباء والمفكرين، ونجحت في فرض سطوتها على مناطق بعينها من أول أحياء القاهرة الفقيرة إلي محافظات الصعيد وجامعاتها، كان الأقباط بالنسبة لها هدفا ثانويا لا يؤثر على طموحهم المعني بالاستيلاء على السلطة آجلا أم عاجلا، وحتى عندما تم استهدافهم فالأمر كان الأمر مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاته.  

فبينما كانت الهجمات ضد محال الذهب، مدفوعة بخليط من دوافع إجرامية بحتة وأسباب برجماتية تتعلق بتوفير التمويل اللازم للجماعات الإسلامية، كان العنف ضد الأقباط في الجامعات، والتي سقط به قتلى في جامعة أسيوط على سبيل المثال، كان في إطار حملة أوسع من العنف مارسها الطلبة المنتمين للجماعات الإسلامية ضد غيرهم من الطلبة، كان الأقباط حلقتها الأضعف، ولذا كان استهدافهم منخفض الكلفة، وفي الوقت ذاته كفيلا ببث حالة من الرعب، وإخضاع الحرم الجامعي لسلطة الجماعات الإسلامية.

استهداف الأقباط كرد فعل انتقامي

لاحقا وفي نهاية التسيعينات، ومع تتابع الضربات الأمنية ضد الجماعات، التي أنهكتها المواجهات المسلحة الطويلة مع الدولة لأكثر من عقدين، و تراجع قاعدتها الشعبية، ومع النجاح النسبي لعملية المراجعات والاستتابة في السجون، فإن تهاوى طموح الاستيلاء على السلطة السبعيني رافقه تصاعد مخيف في وتيرة الاعتداءات المميتة على الأقباط والسائحين الأجانب، كأهداف سهلة وسبيل لتفريغ أحقاد ضد الدولة وإحراجها، وتذكير بقدرة الإيديولوجية الجهادية ومعتنقيها على ألحاق الأذى بالمجتمع، وكذلك تعويضاً عن الشعور بالعجز والمهانة أمام القمع الأمني، والهزيمة أمامه.

مواطنون أقباط من سكان سيناء في الطريق الى الاسماعيلية هربا من ارهاب داعش
إظهار عجز النظام المصري عن حماية الأقباط: "استهدافه المنظمات الإرهابية للأقباط لا ينبغي فهمه في سياق مرجعيات فقهية تكفر الأقباط، أو ذرائع سياسية تستند إلي موقف الكنيسة من النظام السياسي، بل كوسيلة لإيلام الدولة وإحراجها، وإظهار النظام بمظهر العاجز عن حماية مواطنيه ومؤيديه تحديدا. وكذلك استعراض القوة وتذكير المجتمع بقدرة "الدولة الإسلامية" على الإيذاء، أي ترويع أفراده دون اكتساب عداوتهم المباشرة بالضرورة."

أعقب الفض الدموي لاعتصام رابعة، في أغسطس عام 2013، موجة عنيفة وغير مسبوقة من الهجمات المتزامنة ضد الكنائس ومحال الأقباط ومنازلهم، في المحافظات المختلفة. مرة أخرى جاء استهداف الأقباط، كرد فعل انتقامي على عنف الأجهزة الأمنية، في أطار حسم صراع على السلطة كانت جماعة الإخوان المسلمين بالفعل قد وصلت إليها أخيراً.

لكن وبالرغم من تبرير تلك الهجمات بمشاركة الكنيسة المصرية في انقلاب الثلاثين من يونيو 2013، أو على الأقل تأييده، فإن المشاركة القبطية من عدمها كانت شأنا رمزياً، لم يغير من توازنات القوى الفعلية على أرض الواقع، وبالتالي فاستهدافهم لا يمكن فهمه غير في سياق غايات رمزية أيضا موجهه ضد نظام الثلاثين من يونيو.

إطار إقليمي مختلف لإرهاب داعش  

يأتي إعلان الدولة الإسلامية في مصر، مؤخرا، عن استهدافها للأقباط على وجه التحديد، وتتابع الهجمات ضدهم في سيناء إلي حد تفريغها من الأقباط، ولاحقا تفجيرات الكنيسة البطرسية بالقاهرة في ديسمبر الماضي، وتفجيرات أحد الشعانين الأخيرة في سياق محلي وأقليمي مختلف بشكل جوهري عن عنف الثمانينات.

تستند الدولة الإسلامية في مصر إلي مرجعيات أيدلوجية، ونموذج ملهم لها مستمد من كلا من العراق وسوريا، يختلف بشكل جذري عن خلفيات "الجماعة الإسلامية" عند اندلاع "أحداث عين شمس"، لكن دوافع استهداف الأقباط مع اختلاف مبرراتها ظاهريا، تبدو واحدة.

ففي الوقت الذي يقتصر فيه نفوذ الدولة الإسلامية على بعض مناطق سيناء، وتدرك أن طموحها للتوسع إلي وادي النيل غير قابل للتحقق عمليا،  فأن استهدافها للأقباط لا ينبغي  فهمه في سياق مرجعيات فقهية تكفر الأقباط، أو ذرائع سياسية تستند إلي موقف الكنيسة من النظام السياسي، بل كوسيلة لإيلام الدولة وإحراجها، وإظهار النظام بمظهر العاجز عن حماية مواطنيه ومؤيديه تحديدا. وكذلك استعراض القوة وتذكير المجتمع بقدرة "الدولة الإسلامية" على الإيذاء، أي ترويع أفراده دون اكتساب عداوتهم المباشرة بالضرورة.

وبالرغم من فداحتها الدموية، تبقى تبعات تلك الهجمات، أقل خطورة على العلاقات بين الطوائف الدينية ومستقبلها في مصر، مقارنة  بالعنف الأهلي الموجه ضد الأقباط على خلفيات مشاحنات طائفية تتعلق بملفات بناء الكنائس، والتحول الديني، والعلاقات الشخصية، وغيرها من أسباب التي إن لم تكن الدولة المصرية طرفا في تعقيدها، فهي على الأقل لا تسعى بجدية لحسمها والتعامل مع جذورها. 

 

شادي لويس

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية