
إسرائيل وفلسطينهكذا يُصنع السلام
يجلس المايسترو في الصف الأوَّل وينظر مبتسمًا إلى نفسه على الشاشة في المقدِّمة. ولا يحمل بيده عصا قائد الأوركسترا هناك، بل يحمل علبة هدايا ملفوفة بعناية. ولا يقف داخل قاعة حفلات موسيقية ببدلة المايسترو، بل يرتدي ملابس غير رسمية عند حاجز تفتيش مليء بالغبار بين إسرائيل والضفة الغربية. زوبين ميهتا ينتظر في هذا المكان طفلة فلسطينية عمرها ستة أعوام واسمها همسة.
وعندما تظهر الفتاة الصغيرة، يأخذها من يدها ويصعد معها إلى السيارة ويسير إلى مستشفى تل هَشومير بالقرب من تل أبيب ويقودها عبر ممرَّات المستشفى ويرافقها إلى علاجها من مرض السرطان. وهمسة ترسل له قبلات بيديها، وبينما تبتسم تظهر الفجوات بين أسنانها. يقول زوبين ميهتا: "إنَّها حلوة جدًا. وما نفعله هنا سيساعد في إحلال السلام يومًا ما بين العرب واليهود".
متطوِّعون يقطعون أكثر من مليون كيلومتر في كلِّ عام
إنَّ ما يفعله زوبين ميهتا هنا - في هذا الفيديو المُصوَّر قبل ستة أعوام والآن كنجم ضيف في صالة قاعة تشارلز برونفمان للحفلات الموسيقية في تل أبيب - هو عمل تطوعي لصالح جمعية اسمها "الطريق إلى الشفاء". وزوبين ميهتا يدعم بذلك عمل نحو ألف متطوِّع إسرائيلي كلفوا أنفسهم بمهمة نقل فلسطينيين مصابين بأمراض خطيرة يومًا تلو الآخر من الأراضي المحتلة إلى المستشفيات الإسرائيلية. ويوصلون في السنة عشرين ألف مريض معظمهم من الأطفال، حيث يقطعون في هذا العمل أكثر من مليون كيلومتر.
وجمعية "الطريق إلى الشفاء" هذه تسعى إلى الشفاء والأمل، وإلى إنقاذ الأرواح في أراضي العدو، وتسعى قبل كلِّ شيء إلى تقديم المساعدة المباشرة من شخص لشخص آخر عبر الجبهة الشرق أوسطية الدائمة. وشعارها هو: "من أجل السلام والمصالحة - الإنسانية قبل السياسة". وزوبين ميهتا تبنَّى هذا الشعار وجعله شعاره الخاص. وحول ذلك يقول: "أنا لا أنحاز إلى أي طرف. الناس في الوسط هم الذين يعانون. لذلك دعونا ننهي معاناتهم هذه".

عاد مؤخرًا إلى إسرائيل زوبين ميهتا ذو الستة وثمانون عامًا للمرة الأولى بعد غياب استمر ثلاثة أعوام، كان يجب عليه خلالها أن يتغلَّب على إصابته بمرض السرطان ثم أتت جائحة كورونا أيضًا. ولكن ها هو يواصل الآن بسلاسة ما كان يفعله هنا منذ أكثر من ستين عامًا: فهو يقيم حفلات موسيقية مع أوركسترا إسرائيل الفيلهارمونية، التي قادها لأوَّل مرة في عام 1961 وقد عيَّنته في عام 1981 مديرًا موسيقيًا لها مدى الحياة. وهو يتدخَّل تمامًا مثل صديقه وزميله دانيال بارنبويم في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي يعتبره "مأساة". ويقول: "هذا مكان لشعبين يجب عليهما أن يتعلما كيف يعيشان مع بعضهما".
بقاء المايسترو في إسرائيل بالرغم من خطورة الأوضاع
عندما يتحدَّث زوبين ميهتا حول إسرائيل، يقول دائمًا "نحن". فهذا البلد أصبح موطنه - بالإضافة إلى الهند، حيث وُلِد، وكاليفورنيا، حيث يعيش معظم الوقت. هناك حكايات لا حصر لها حول شعوره بالارتباط بهذا الوطن والمسؤولية عنه. في عام 1967، على سبيل المثال، سافر في خضم حرب الأيَّام الستة إلى إسرائيل على متن طائرة شحن جالسًا على صندوق ذخيرة. وكان هناك أيضًا في عام 1991 خلال حرب الخليج، عندما أطلق الديكتاتور العراقي صدام حسين صواريخه السكود على تل أبيب وجاء الزوَّار إلى الحفلة الموسيقية وهم يرتدون أقنعة الغاز.
وهو مايسترو لديه مهمة، ولهذا السبب يحبونه في إسرائيل؛ ليس الجميع، ولكن الأشخاص الذين يهمه شأنهم. ويكفل زوبين ميهتا من خلال مؤسَّسته الخاصة حصول أطفال العائلات العربية في شمال إسرائيل على دروس في الموسيقى. وحول ذلك يقول: "لا يجوز الاستهانة بقوة الموسيقى. الموسيقى تجمع بين الناس وأنا آمل أن نتمكَّن -نحن الموسيقيين- أيضًا من إحداث تغيير إيجابي".
لقد أخذ بعض من عازفي زوبين ميهتا في أوركسترا إسرائيل الفيلهارمونية بكلام المايسترو وصاروا يتولون في أوقات فراغهم نقل المرضى لجمعية "الطريق إلى الشفاء". ويشارك في ذلك كلّ من عازفة الكلارينيت شيلي ديفيس وعازف الباسون عوزي شاليف.

وهما يؤديان هذه الخدمة مرة واحدة في الأسبوع، ويجب على مَنْ يرافقهما أن يستيقظ باكرًا. تبدأ شيلي ديفيس في الساعة الخامسة صباحًا وثلاثين دقيقة في صباح يوم بارد في حولون بالقرب من تل أبيب، وفي الوقت نفسه يغادر عوزي شاليف منزله. ونقطة لقائهما هي حاجز تفتيش يقع بالقرب من مدينة قلقيلية الفلسطينية.
التقاط المرضى في الصباح الباكر عند الجدار الخرساني
تسود الفوضى هنا حتى منذ الفجر. آلاف الفلسطينيين، الذين يحملون تصاريح عمل في إسرائيل، يصطفُّون كلَّ يوم في طوابير من أجل الفحوصات الأمنية. ويتدفَّقون بعد ذلك -وياقات ستراتهم أو قبعاتهم مرفوعة- إلى الحافلات الصغيرة، التي تنقلهم إلى مواقع بناء في إسرائيل. تقول شيلي ديفيس وهي تقود سيَّارتها التويوتا الصغيرة عبر الازدحام: "في المرة الأولى، بدوا لي وكأنَّهم جميعهم إرهابيون. مع أنَّهم مثلي أنا يذهبون فقط إلى العمل".