"عوالم البزنس" السياسي والمخابراتي في رواية بلا تاريخ

ماجد الحيدر: هذا العمل ليس رواية بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، ولا تقارير صحفية، ولا تاريخاً ولا قصصاً قصيرة، بل مزيج من كل هذا. لست ناقداً متخصصاً كي أتناول هذا العمل بالتحليل والتقييم لكنني أعتقد، أن تجنيس هذا العمل يغدو أمراً ثانوياً بالنسبة للقارئ وهو يغوص مستمتعاً في أجواء حكاياته المثيرة.

الكاتبة ، الكاتب: ماجد الحيدر

على الغلاف الأول للكتاب (وربما في إشارة مبكرة الى خروج هذا العمل عن الشكل الكلاسيكي المؤطر بالزمان والمكان) يضع المؤلف عنواناً جانبياً: رواية بلا تاريخ. وفي تأكيد لهذا الاختلاف يوضح المؤلف في مقدمته الموجزة طبيعة عمله بقوله: "إنها ليست رواية أدبية على طريقة السرد العربي، بل اعترافات متسلسلة غير مترابطة توجز تاريخ المنطقة العربية وما حولها".

نعم. إنها مجموعة من الحكايات لا يجمعها سوى وحدة السارد على خلفية مهنته الشيّقة الغريبة. السارد هنا رجل غامض يعمل لحساب (جهة ما) ذات نفوذ عالمي. يتنقل بين المدن والعواصم ليصغي الى الناس، لا أي ناس، بل المتربعين على قمم المال والسياسة أو ممن يتصل بهم ويعرف على الأقل بعضاً من أسرارهم وخفاياهم.

ما يجمع بين أهل القمة هؤلاء هو رغبتهم العميقة في "الفضفضة"، في الاستعانة بخدمات شخص يتوسمون فيه الامانة والكتمان من أجل التخفيف من عبء الاسرار، التي تثقل صدورهم. لكنه لا يتلقى أجراً على مجرد الإصغاء: إنه ينقل ما يسمعه الى رؤسائه الغامضين، الذين يوفرون له السكن والدخل الممتاز وجوازات السفر وكل ما يحتاجه من تسهيلات.

أبطال اعترافات الملائكة هم تجار سلاح، مغامرون ومغامرات يطمحون لإنشاء كيانات سياسية على أرض الشرق الأوسط المترامية الأطراف، رجال دولة سابقون أو صاعدون، زعماء أحزاب وأمراء حروب، نساء يبحثن عن الحب في غياب أزواجهن أو غرقهم في السياسة والتجارة و –في حالة واحدة- صاحب سيرك يقدم عرضاً لأحد الطغاة!

شخصيات هامة في الدول العميقة

خلال عمله يلتقي السارد بسيدة غنية وجميلة وتنشأ بينهما قصة عشق لاهبة يغادر الكاتب أحياناً أجواء أبطاله الآخرين ليروي لنا بعض تفاصيلها المثيرة، ثم تختفي دون أثر ليكتشف أنها، أي العشيقة، كانت تؤدي عملها باعتبارها شخصية مهمة في الدولة العميقة التي تحكم بلادها رغم الثورات التي تطيح بالرموز العلنية!

لا أحد يعرف على وجه الدقة أين الخيالي وأين الوقعي، أين السردي وأين التقريري. والمؤلف- لا السارد- يستسلم أحياناً الى مهنته كصحفي ومحلل سياسي فيخصص مقاطع بأكملها لعرض أرقام وإحصائيات دقيقة عن الأسلحة والجيوبولتيك والثروات الخ. وهنا أيضا لا نعرف إن كانت هذه الأرقام من وحي خيال الكاتب أم أنها صادرة عن جهات حقيقية!

الكاتب والصحافي ملهم الملائكة..الصورة خاص
ملهم الملائكة صحفي وكاتب عراقي مقيم في المانيا، ينشط في الصحافة العراقية والعربية المهاجرة في أنحاء العالم واوروبا. يكتب وينشر باللغة العربية والانجليزية.

عالم الشرق الأوسط ونخبته السياسية والاقتصادية كما يرسمه هذا العمل عالم عجيب أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة. هنا تختلط السياسة بالمال، بالجنس، بالدم ، بالسادية، بالشذوذ، بقصص الغدر، بالمؤامرات. والضحية/المضحوك عليه في الأخير هو الإنسان البسيط، المواطن-الرقم، بيدق الشطرنج الذي ينقّلونه هنا وهناك، تارة بالشعارات الثورية البراقة وتارة بالدين وتارة بمجرد استغلال جوعه.

متعة القراءة تغطي إشكالية التجنيس

في هذه الاعترافات نكتشف الوجوه الأخرى، الوجوه القبيحة التي تختفي وراء الأقنعة: النساء الفاتنات الأنيقات بارزات الصدور اللاتي يتصدرن الشاشات والأغلفة يبرزن أنياباً ومخالب من حديد يقطر دماً. إنهن يتحدثن هنا لا بلغة الحب والرقة والرومانسية بل بلغة راجمات الصواريخ وقطع المدفعية والتحالفات القبلية.

رجال الدين المتطرفون الذين يجيشون الشباب لعملياتهم الارهابية يمارسون أغرب أنواع الشذوذ الأخلاقي والجنسي ولا يمانعون بإدخال الأغراب على زوجاتهم (بطرق شرعية) كي يحبلن ويمنحنه الذرية التي يعجزون عن زرعها في أرحامهن، فنانون وفنانات يتأوهون على الشاشات والمسارح يحضرون حفلات "الكبار" التي تعقد فيها الصفقات المشبوهة كسماسرة أو قطع اكسسوار تلطف الأجواء، ساسة "ثوريون وإسلامويون" يتنقلون بكل سهولة بين هذا المعسكر وذاك، ومهرجون مغلوب على أمرهم يتنقلون بسيركهم هنا وهناك ليقدموا عروضهم أمام طغاة جائعين الى إذلال رمزي لأعدائهم الجبابرة، وحتى الحب الذي يتخيل السارد في لحظة معينة بأنه قد وجده أخيراً يتبخر كضباب ليكتشف بأنه لم يكن غير جزءٍ من "البزنس" السياسي والمخابراتي!

كل هؤلاء "المعترفين" وآخرون غيرهم يرسمون لنا الصورة الخفية الأقرب الى الفنتازيا للشرق الأوسط على خريطة تمتد من أفغانستان الى سواحل الأطلسي مروراً بجبال الألب وصحارى ليبيا والصومال وجزر البحر الأحمر المنسية، خريطة تحكمها وتتلاعب بخطوطها وألوانها أيدٍ تغطيها قفازات ناعمة لا تكاد تحجب مخالب الذئاب وعطور تحاول دون جدوى أن تطغى على عفونة الدم والبارود!

العمل إذن ليس رواية بالمفهوم التقليدي المتعارف عليه، ولا تقارير صحفية، ولا تاريخا ولا قصصاً قصيرة، بل مزيج من كل هذا. لست ناقداً متخصصاً كي أتناول هذا العمل بالتحليل والتقييم لكنني أعتقد، أن تجنيس هذا العمل يغدو أمراً ثانوياً بالنسبة للقارئ وهو يغوص مستمتعاً في أجواء حكاياته المثيرة، وأزعم، في رأيي المتواضع، أنه قد اجتاز بجدارة أحد أهم الاختبارات الأولية للحكم على نجاح أي عمل أدبي وهو إبهار المتلقي وشد انتباهه وتركه أثراً في ذاكرته لا يسهل محوه!

 

ماجد الحيدر

حقوق النشر: قنطرة 2017

ماجد الحيدر: قاص وشاعر ومترجم من كوردستان العراق

ملهم الملائكة: اعترافات أهل القمة، رواية بلا تاريخ-دار ضفاف-بغداد-2017-174 صفحة من القطع المتوسط-تصميم الغلاف فاضل جواد.