الأزهر والتجديد: إملاءات الواقع تفرض التجديد

بالرغم من أن مؤسسة الأزهر وشيوخها يحظون بالكثير من الاحترام في مصر وخارجها ولها ثقلها في العالم الإسلامي، فقد طالتها الكثير من سهام النقد أيضاً من كل الأطراف داخل مصر، سواء من الرئيس عبد الفتاح السيسي أو من المعارضة المصرية.
بالرغم من أن مؤسسة الأزهر وشيوخها يحظون بالكثير من الاحترام في مصر وخارجها ولها ثقلها في العالم الإسلامي، فقد طالتها الكثير من سهام النقد أيضاً من كل الأطراف داخل مصر، سواء من الرئيس عبد الفتاح السيسي أو من المعارضة المصرية.

قضية تجديد الفكر الديني ارتبطت بالأزهر خاصة في العصر الحديث، ومع وجود شواهد على قبول الأزهر للتجديد، إلا إنه قبول نظري قلما تتبعه خطوات عملية إلا تحت الضغوط الاجتماعية والسياسية. في المقال التالي لموقع قنطرة يعرض الباحث عاصم حفني أمثلة على ظروف التجديد في فهم الأزهر للشريعة بما يؤكد أن التجديد تفرضه الظروف، ثم تضطر المؤسسة الدينية للتماهي معه حفاظا على وجودها.

الكاتب، الكاتبة : عاصم حفني

 

الأزهر والتجديد – أولا: المجال الاجتماعي

قضية التجديد في الفكر الديني من أهم القضايا، التي ارتبطت بالأزهر خاصة في العصر الحديث، وثمة شواهد عدة تؤكد أن الأزهر – ولو نظريا فقط - لا يعارض التجديد، بل يؤيده خاصة وأن مصطلح التجديد قد ورد في السنة النبوية في سياق إيجابي، ولذا يتجنب كثير من المسلمين في المقابل مصطلح "الإصلاح" لأنه يحيل مباشرة إلى المسيحية وتاريخ صراعها مع العلم والسياسة، إلا أن ماهية التجديد وحدوده والقائمين عليه غير واضحة المعالم، وتخضع لتجاذبات سياسية واجتماعية كثيرة، غالبا ما يكون الظرف التاريخي فيها هو المحرك أو الضاغط الأساسي على مؤسسة الأزهر للتماهي مع مستجدات العصر.

وسأحاول هنا عرض نماذج للتجديد في الفكر الديني وفي فهم الشريعة قام بها الأزهر تماهيا مع الظرف السياسي والاجتماعي أو تحت ضغطهما، وذلك عبر عرض مشروع "الدستور الإسلامي"، الذي وضعه الأزهر عام 1978، وسأقتصر على مجالين في هذا المشروع، وهما المجال الاجتماعي والمجال السياسي، وسأبدأ بالأول وأفرد للثاني مقالا مستقلا.

يرجع تاريخ مشروع الدستور هذا إلى أكتوبر من عام 1977 حينما استغل مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف رغبة الرئيس السابق السادات في بسط نفوذ التيار اليميني الإسلامي لمناهضة نظيره اليساري، وسماحه بإطلاق المحطات الإذاعية والتليفزيونية، التي تدعو للعودة إلى تعاليم الإسلام، فأصدر المجمع توصية بأن يقوم الأزهر بوضع دستور إسلامي تهتدي به أي دولة تريد تطبيق الشريعة الإسلامية.

 

 

وتم إنجاز مشروع الدستور خلال عام 1978، ونشرته مجلة الأزهر في أبريل سنة 1979، وتضمن تسعة أبواب شملت ثلاث وتسعين مادة، نذكر منها أمثلة توضح حضور مفاهيم إسلامية تقليدية تخلى عنها الأزهر تماما لاحقا في وثائقه وبياناته بداية الألفية الثالثة تبعا اختلاف الظروف أو الضغوط.

تضمن الباب الثاني من المشروع أسس المجتمع الإسلامي وجاءت أبرز مواده كالتالي:



مادة 6: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض (...)



مادة 8: حماية الأسرة واجب الدولة بالتشجيع على الزواج وتيسير أسبابه المادية (...) وتهيئة الوسائل لحسن تبعة المرأة لزوجها وخدمة أولادها واعتبار العناية بالأسرة أول واجباتها.



مادة 12: تلتزم الدولة بتعليم المسلمين (...) الفرائض، وتدريس السيرة النبوية، وسيرة الخلفاء الراشدين (...).

 

مادة 13: تلتزم الدولة بتحفيظ ما تيسر من القرآن الكريم للمسلمين في سنوات التعليم (...).



مادة14: التبرج محظور(...)، وتصدر الدولة القوانين والقرارات لصيانة الشعور العام من الابتذال وفقا ًلأحكام الشريعة الإسلامية.



يلاحظ على الباب الثاني اهتمامه الكبير بالهوية الدينية للمجتمع حيث نص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مبدأ مطاط وتحكمه التفسيرات، التي ترى غالبيتها أنه لا دور للعقل في تحديد المعروف والمنكر اللذين يحددهما الشرع أي النقل، مما قد يسبب صعوبات كبيرة في تعايش المختلفين دينيا أو مذهبيا في وطن واحد، حتى أن السعودية ذات التوجه الوهابي المتشدد تخلت مؤخرا عن الهيئة المعنية بتنفيذ هذا المبدأ.

فضلا على أن هذا الباب أوجب على الدولة العمل على تبعية المرأة لزوجها مما يفقدها حق المساواة مع الرجل، ثم حظر التبرج دون تحديد ماهيته وكيفيته وعليه يصير خلع الحجاب جريمة يعاقب عليها القانون مما يحد من الحريات الشخصية، كما نص الباب على التعليم الديني وقصره على الإسلام عبر فرض حفظ القرآن على المسلمين مما يوحي بعدم جواز دعم الدولة لتدريس الإنجيل للمسيحيين مثلا وهو ما يتعارض مع مبادئ الدولة الديمقراطية.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: المزيد من المقالات حول معضلة الإصلاح في الإسلام

هل كان المفكر نصر حامد أبو زيد مصلحاً لوثراً إسلامياً؟

الإصلاح الديني في المسيحية والإسلام

معضلة الإصلاح في الإسلام 

الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!

 

إملاءات الواقع بعد ثورة 2011... الأزهر يؤيد مفهوم المواطنة بكل ما يحتويه من دلالات حداثية

ومع اختلاف الظرف الاجتماعي والسياسي وزيادة وعي المصريين وخاصة الشباب بالحريات الأساسية ومفهوم دولة القانون والذي بلغ ذروته بقيام ثورة 25 يناير 2011 التي فتحت الباب على مصراعيه للحديث عن جدلية الدين والسياسة، وجد الأزهر نفسه مضطرا للتعاطي مع الأحداث، فدعى إليه مفكرين من جميع التيارات الإسلامية والليبرالية والعلمانية والمسيحية الذين صاغوا بعد نقاشات عدة ما عرف بـ "وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر"، والتي خالفت مضمون مشروع الدستور المذكور مخالفة تامة.

فلم تذكر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، بل استخدمت مفاهيم حداثية كثيرة حيث أشار مبدؤها الثاني إلى ضرورة اعتماد النظام الديمقراطي وأقر بالتعددية مما يضمن للمرأة من جانب وللمختلفين دينيا ومذهبيا من جانب آخر المساواة في دولة القانون، وهو ما يظهر في الوثيقة: "ثانياً: اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغةَ العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، (...) وإدارة شئون الدولة بالقانون (...) ثالثاً : الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية فى المجتمع ."

مضت علاقة الرئيس السيسي بالشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، بمنحنيات مختلفة، وظهر للعلن تباين بينهما.
علاقة الرئيس السيسي والشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر مرت بمنحنيات مختلفة، وظهر للعلن تباين بينهما: الباحث عاصم حفني يكتب: "التاريخ يشهد أن التجديد قلما يأتي من داخل المؤسسة الدينية، وبما أنه لا غنى عنها في تلبية الاحتياجات الروحية للناس، أصبح حتميا طرح أفكار التجديد من خارج المؤسسة على يد المختصين والمؤهلين من مفكرين ومثقفين وكتاب وقانونين حتى تضطر المؤسسة للتعاطي معها."

وكما نرى في مبدأ الوثيقة الثالث أقر الأزهر بالحريات الأساسية وحقوق المرأة واحترامه للأديان وإن كان قد قصرها على السماوية فقط، إلا أن ذلك يعد تطورا إيجابيا ملحوظا قياسا على ما كان يرتئيه في مشروع دستوره الإسلامي، وفوق ذلك أيد الأزهر مفهوم المواطنة بكل ما يحتويه من دلالات حداثية.

تضمن الباب الرابع الحقوق والحريات الفردية ونصت بعض مواده على:

مادة 29: الاعتقاد الديني والفكري وحرية العمل وإبداء الرأي بالقول والكتابة أو غيرهما وإنشاء الجمعيات والنقابات والانضمام اليها والحرية الشخصية وحرية الانتقال والاجتماع كلها حقوق طبيعية أساسية تكفلها الدولة في حدود الشريعة الاسلامية .

مادة 38: للمرأة أن تعمل في حدود أحكام الشريعة الإسلامية .

نرى هنا بوضوح تقييد الحريات الفردية وربطها بالشريعة الإسلامية، فالشريعة في فهما التقليدي تجرم الخروج من الإسلام وتعتبره ردة تعاقب عليها بالقتل، وينسحب ذلك أيضا على كافة الحريات المذكورة والتي قد تُمنع حسب فهم البعض للشريعة، ومن ثم يعد ذكر هذه الحريات غير ذي جدوى فعلية، وكذا الحال مع المرأة وحقها في العمل الموقوف على الشريعة والتي تعطي الرجل الحق في منع زوجته من العمل والسفر بل مجرد الخروج من البيت.

 

 

أما وثيقة الأزهر فأكدت ضمان الدولة للحريات وحقوق الإنسان دون تقييدها بالشريعة، حيث نص المبدأ السادس على "ضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها (...)، وكذلك الحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة"، فالمعيار في ضمان الحريات هنا ليس الشريعة الإسلامية ولكن منظومة القيم الحضارية وهو فارق نوعي كبير.

وفيما يخص قضية المرأة لم يكتف الأزهر بما جاء في وثيقته حول مستقبل مصر بل أفرد لها "وثيقة الأزهر الشريف لحقوق المرأة"، التي أصدرتها هيئة كبار العلماء في 12 يونيو 2013، وذلك بعد أكثر من سنة من المناقشات مع مختلف تيارات الفكر والسياسة في مصر، من بينها شخصيات نسائية، وتناولت الوثيقة 7 محاور رئيسية، هى قيمة المرأة الإنسانية والاجتماعية، والشخصية القانونية للمرأة، والمرأة والأسرة، والمرأة والتعليم، والمرأة والعمل، والمرأة والأمن الشخصى، والمرأة والمشاركة السياسية، وأكدت على مساواة الإسلام  المرأة بالرجل، وتبدل فهم الأزهر للشريعة التي تنص على تبعية المرأة لزوجها إلى الشريعة التي ترى أن العلاقة بين المرأة والرجل تقوم على المسؤولية المشتركة، ومعيار الأفضلية فيها كلمة الحق والعدل، واستدلت الوثيقة على ذلك بآيات قرآنية بفهم جديد، انطلاقا من سكوت الشريعة عن كثير من المجالات والأنظمة والأدوار السياسية والاقتصادية فى المجتمعات المعاصرة.

"نقلة نوعية فكرية: المعيار في ضمان الحريات ليس الشريعة الإسلامية ولكن منظومة القيم الحضارية"

وفيما يتعلق بالمرأة والأسرة كما أكدت الوثيقة - خلافا لمشروع الدستور - أن الأسرة كيان تعاقدي لكونها علاقة إرادية تنشأ بالاتفاق، وللرجل والمرأة فى ذلك كله إرادة متساوية ولا يجوز حبس دوريهما في الشكل التقليدي المتوارث، أما ما يخص عمل المرأة فلم تربطه الوثيقة بموافقة الزوج بل رأت أن الواقع المعاصر قد فرض على النساء العمل بما يتناسب مع ظروف الزوجين، وزادت على ذلك أن ألزمت أولى الأمر بمراعاة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة.

عاصم حفني مدرس الحضارة الألمانية بجامعة الأزهر وأستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة ماربورغ الألمانية.
عاصم حفني مدرس الحضارة الألمانية بجامعة الأزهر وأستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة ماربورغ الألمانية.



وبالانتقال إلى قضية اجتماعية أخرى تتعلق بالمرأة وهي الختان نجد تطورا كبيرا في موقف الأزهر في فهم موقف الشريعة من الختان، فقد وردت فتاوى كثيرة من دار الإفتاء المصرية سواء تحت رئاسة الشيخ جاد الحق على جاد الحق (ت 1996) أوالشيخ محمد سيد طنطاوي (ت 2010) كلاهما أصبح شيخ الأزهر لاحقا، وكذلك في فترة الشيخ علي جمعة (مفتي الديار المصرية من 2003 حتى 2013) تؤكد على ضرورة ختان البنات، حتى أن الشيخ جاد الحق أكد عدم جواز ترك الختان ولو قرر طبيب ضرره، لأن الطب في نظره علم متطور ومتغير، وفطرة الإسلام وتوجيهات الرسول ثابتة، وكانت جميع الفتاوي تستند فقط لما أسمته بالأدلة الشرعية وآراء الفقهاء.

"يعد ختان الإناث مثالا معبرا على إشكاليات فهم الثوابت والتعامل مع التراث"

ولكن في ظل التوجه الجديد للأزهر وتعاطيه مع الضغوط الاجتماعية والسياسية وبعد وفاة أكثر من فتاة أثناء عملية الختان قدم الأزهر فهما جديدا للشريعة وأضاف مصدرا جديدا في الحكم على الختان وهو رأي الطب، حيث أرسل شيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب خطابا للنائب العام المصري في 13/2/2020 بعد طلب تليفوني من الأخير، وجاء في الخطاب:

"تبين للأزهر الشريف من خلال ما قرره أهل الفقه والطب الموثوق بهم وبعلمهم أن للختان أضرارًا كبيرة تلحق شخصية الفتاة بشكل عام وتؤثر على حياتها الأسرية بعد الزواج بشكل خاص، بما ينعكس سلبا على المجتمع بأسره، وبناء عليه قرر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وبعد أن تدارس موضوع الختان من كافة جوانبه الفقهية الصحيحة وبإجماع أعضائه بجلسة 28 فبرير 2008 أن الختان لم ترد فيه أوامر شرعية صحيحة وثابتة لا بالقرآن ولا فى السنة، وأنه مجرد عادة انتشرت فى إطار فهم غير صحيح للدين، وثبت ضررها وخطرها على صحة الفتيات وفق ما كشفت عنه الممارسات التى أزعجت المجتمع فى الآونة الأخيرة".

ويعد ختان الإناث في تصوري مثالا معبرا على إشكاليات فهم الثوابت والتعامل مع التراث، فها هو الأزهر يقول إنه لا يوجد نص شرعي يأمر بختان البنات ويصل بحكمه إلى التحريم، بعد أن كان يقول قبل سنوات بأن فيه نصوص وأنه مكرمة ومن فطرة الإسلام.

هذا التطور في فهم الشريعة محمود بلا شك ولكنه يطرح التساؤل عن معايير الحكم على الثابت والمتغير في التراث، وإن كان الثابت متعلق بالعقائد فقط، فما هي حدود تلك العقائد؟

أليس الاعتقاد في حكم مثل الختان يعد جزئا من العقائد مبني على نص شرعي؟ وبما أن التاريخ يشهد بأن التجديد قلما يأتي من داخل المؤسسة الدينية، وبما أنه لا غنى عنها في تلبية الاحتياجات الروحية للناس، أصبح حتميا طرح أفكار التجديد من خارج المؤسسة على يد المختصين والمؤهلين من مفكرين ومثقفين وكتاب وقانونين حتى تضطر المؤسسة للتعاطي معها.

 

 

عاصم حفني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de

عاصم حفني مدرس الحضارة الألمانية بجامعة الأزهر وأستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة ماربورغ الألمانية.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة

 

مصر- سجال شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة.. خلاف علمي أم سياسي؟

لماذا تتناقض مشاريع الإصلاح مع واقع المجتمعات المسلمة؟

تطابقات جلية بين الشريعة الإسلامية والقوانين الألمانية

"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جزء أصيل من الإسلام"