"الزنادقة" الذين قامت على أكتافهم الحضارة الإسلاميّة

تعرف على أهم نجوم العلم الذين اتهمو بالزندقة إبان فترة الحضارة الإسلامية، الذين عانوا في مواجهة الأصولية الدينية.

ربما لم يمرّ العالم الإسلامي عموماً، والعربي خصوصاً، بحالة واضحة من الصراع السياسي والفِكـري في شأن مفاهيم الحداثة والرجعية، التي يمثّل الصراع العلماني/ الأيديولوجي جزءاً محورياً منها ، كالتي يمرّ بها هذه الأيام.

ولكن التاريخ يؤكد أن معظم من يتم الاصطلاح عليهم بأنهم علماء مسلمون كانوا يعيشون في معارك طاحنة مع الأصوليين والمتشددين، الذين كان لديهم خصومة مع العلم والفلسفة والمنطق والرياضيات، واعتبارها ضرباً من ضروب الزندقة والكفر الذي يجب استئصاله.

في ما يلي أهم نجوم العلم الذين اتهمو بالزندقة إبان فترة الحضارة الإسلامية، الذين عانوا في مواجهة الأصولية الدينية.

مُنكر النبوّات (المسلم): الرازي

يعتبر أبو بكـر الرازي من أهم العلماء الذي يتفاخر بهم الإسلاميّون اليوم. ويصفونه بأبي علم الطب، وحلقة الوصل بين الطب القديم والطب الحديث. ولكن التاريخ يؤكّد أن الرازي كان معارضاً صريحاً للنبـوّة، وكان يتناول مفهوم الوحي باستخفاف شديد، وألّف كتاب "مخاريق الأنبياء" الذي ينفي فيه تماماً وجود الأنبياء، ويعتبر العقل والمنطق الطريق الوحيد ليصل الإنسان إلى الله وليس النبوّات أو الوحي.

كانت أفكاره سبباً جوهرياً في انتشار كراهيّته بين أوساط المسلمين، فاشتهر بأنه زنديق وكفّـره الأصوليّون. دفع الرازي ثمناً غالياً مقابل آرائه وبقيت أعماله في طيّ النسيان، حتى عادت للظهور مرّة أخرى بسبب إعجاب الغرب الشديد به، واعتبار كتبه في عداد أهم الركائز العلمية والفلسفية للتنوير الأوروبي. فأعجب به المسلمون وركّز بعضهم على إنجازاته، ودمجها في إطار نهضة الحضارة الإسلامية، متجاهلاً نفيه لنبوّة محمد.

في نهاية عمره، يقال إن الرازي فقد بصره، فعايره خصومه وكارهوه بأنه تلقى العقاب الإلهي العادل.

[embed:render:embedded:node:23692]

الكافر المجنون: ابن الهيثم

الحسن ابن الهيثم، كان وما زال رمزاً بالنسبة إلى أي فيزيائي، إذ يعتبر مؤسس علم البصريّات. وخاض في الكثير من العلوم والمجالات، مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات، وله أكثر من 200 مؤلّف ومقالة ومخطوطة.

اتّهم ابن الهيثم بالكفـر الصريح والإلحاد بسبب آرائه، وهو مثل غيره من الفلاسفة رأى أن العالم قديم أزلي، وينبغي تقديم المنطق. واتّهم بالجنون في آخر حياته، وأجبــر على البقاء في بيته بالقاهرة يؤلف ويكتب حتى مات.

الفيلسوف المضـروب بالسوط: الكِندي

أبو يوسف يعقوب بن اسحاق الكِندي واحد من العرب القلائل الذين نالوا مجداً واسعاً، في فترة كان غالبية العلماء والمشاهير من المسلمين الفرس وبلاد ما وراء النهر. ألّف مئات الكتب والرسائل الاي تطرقت إلى الموضوعات التطبيقية والفلسفية. وهو آمن أن النقل ليس مُقدّماً على العقل، وأن العقل محور التصوّرات الإنسانية، والمقياس الذي يجب أن يُقاس به كل شيء حتى المقدّس، بما في ذلك النصّ القرآني، الذي كان يتعامل معه الأصوليّون عادة بظـاهر الآيات.

كانت طريقته العقلانية في تفسير الكثير من الآيات القرآنية والأحكام، سبباً محورياً في كراهية الأصوليين له، إلى جانب كونه مؤسسّ مدرسة الرواقيّين في الفلسفة الإسلامية، واعتباره أن النصّ الديني يخاطب العقلانيين بمعان باطنيّة عميقة، ويخاطب النقلانيين بمعان ظاهرية تتماشى مع فكرهم السطحي، مثل الوعد بالحور العين والفاكهة في الجنة.

إلا أن الحماية التي فرضها الخليفة المأمون عليه، ثم المعتصم فالواثق، أحاطته بهالة سياسية أبعدت عنه خصومه من الراديكاليين، وتركت له المجال في التأليف والتفكير والظهور كأحد أعلام المشاهير المسلمين. إلى أن جاء حكم الخليفة الأصولي المتوكّـل، الذي مال إلى آراء الفقهاء الأصوليين، فأمـر بمصادرة مكتبة الكندي الخاصة، وبجلـده على ظهره خمسين جلدة، أمام حشد كبير من الناس، نُقــل عنهم أنهم كانوا يتصايحون بتأييد عقابه بحجة أنه "زنديق".

أصيب الكِندي بعدها باكتئاب شديد، واعتزل الناس حتى مات، واستطاع أحد أصدقائه استعادة مكتبته التي وصلتنا اليوم.

[embed:render:embedded:node:21341]

الرئيس إمام الملاحدة: ابن سينا

الشيخ الرئيس، وأكثـر علمـاء القرون الوسطى شهرة، الذي كان غزير العلم، وكتب في جميع المجالات تقريباً: أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، المعروف تاريخياً بـابن سينـا، وعالمياً بـAvicenna.

يعدّ معشـوق النهضة الغربية الأوروبية، باعتباره من أعظم العلماء الموسوعيين. إلا أن تميّزه في الطب تحديداً من خلال كتابه "القانون في الطب" كان سبب شهرته الواسعة، وحجر الأساس للنهضة الطبية والتشريحية في أوروبا، إذ ظل مرجعاً أساسياً في تدريس وممارسة الطب لـ500 عام حتى مولد الطب الحديث.

على المستوى الديني، كـان ابن سينا أكثر الشخصيات بُغضاً لدى الأصوليين الذين اتهموه بالكفر، فقيل عنه: إمامُ الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (إغاثة اللهفـان 2/ 274، ابن القيّم).

في المقابل تعـامل ابن سينا مع مُكفّــريه باستخفاف واستفزاز شديد، فكـان يصف نفسه في كتاباته، بأنه إذا قابلته مشكلة يتوجّه إلى المسجد ويدعو الله، ثم يعود إلى داره ليتنـاول قدحاً من النبيذ، وينكبّ على العمل والتأليف والقراءة والكتابة حتى ينام.

اشتبك ابن سينا في جدالاته مع السلاطين والوزراء والمتشددين، الذين أجمعوا تقريباً على تسميته الزنديق وإمام الملاحدة، حتى أنهم أمروا بإعدامه وقطع رأسه. إلا أنه استطاع النجاة عدة مرات من تنفيذ الأحكام.

في عصرنا الحالي يصف بعض الإسلاميين ابن سينا بأنه عالم مُسلم عظيم، وأعماله تُحسب لمجد دولة الخلافة الإسلامية.

مؤسس الفلسفة الحديثة: ابن رشد

أشهر الفلاسفة المسلمين في الشرق والغرب، ويعتبر الجسـر الأساسي بين الفلسفة اليونانية القديمة وفلسفات عصر النهضة الأوروبية. دخل ابن رشد في معارك صارمة مع الأصوليين، إذ ركّز على أن المنطق يجب أن يكون كتفاً بكتف مع الوحي السماوي، والطريق إلى الله هو طريق العقل قبل أي شيء آخر، وبرع في تأويل آيات القرآن تأويلاً مختلفاً تماماً عمّا هو سائد لدى الأصوليين.

بمرور الوقت، بدأ ابن رشد يفقد مكانته العظيمة في الأندلس، وأصبح ضحية مؤامرات سياسية يحرّكها الأصوليون، فأمر الخليفة باستبعاده من قرطبة، وإحراق كتبه الفلسفية، التي لو لم تتمّ ترجمتها إلى اللاتينية، لما وصلت إلينـا في هذه العصور المتأخرة.

 

المصادر: رصيف 22

"كتاب الإسلام والعلم، الأصولية الدينية ومعركة العقلانية" لبرويز أمير علي بيود

- "الوجه الآخر للخلافة الإسلامية" لسليمان فيّاض -

مذكرة بعنوان "حقيقة الحضارة الإسلامية" للشيخ الأصولي ناصر الفهد.