منصف المرزوقي: أي أسس لفكر سياسي مجدّد؟

يتساءَل المراجعات والبدائل، ما الذي نربح في مقابل توسيع شعورنا بالانتماء والمسؤولية إلى البشرية جمعاء؟ أهدتنا الحياة عالمًا بأسره عند الولادة، وتهدينا العالمية عندما نتبناها منهجًا فكريًا وأخلاقيًا كل ما أنتجته عبقرية البشر على مرّ العصور.
يتساءَل المراجعات والبدائل، ما الذي نربح في مقابل توسيع شعورنا بالانتماء والمسؤولية إلى البشرية جمعاء؟ أهدتنا الحياة عالمًا بأسره عند الولادة، وتهدينا العالمية عندما نتبناها منهجًا فكريًا وأخلاقيًا كل ما أنتجته عبقرية البشر على مرّ العصور.

الحداثة والإنسان والبيئة بين العنف والعدالة الاجتماعية: يأخذنا كتاب المفكر والرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، الذي يعتبر أحد أهم رموز الربيع العربي، في رحلة فلسفية يحاول من خلالها تقديم عصارة أفكاره السياسية ومعارفه ومعتقداته الأخلاقية بل ووصيته السياسية للأجيال. أماني الصيفي قرأت الكتاب لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: أماني الصيفي

صدر حديثًا كتاب الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي بعنوان "المراجعات والبدائل: أي أسس لفكر سياسي مجدد؟"  عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الكتاب من تقديم فيصل القاسم، ويتألف من 312 صفحة مقسمة على أربعة فصول: "التقييم" و"التحيين" و"التحديات" و"الموارد".

يأخذنا كتاب المفكر والسياسي السابق، الذي يعتبر أحد أهم رموز الربيع العربي، في رحلة فلسفية وموقف سياسي يحاول الكاتب من خلاله تقديم عصارة أفكاره السياسية ومعرفته التاريخية والطبية والفلسفية ومعتقداته الأخلاقية لمراجعة الأيديولوجيات الخمس الكبرى (الوطنية / القومية، الليبرالية، الديمقراطية، التقدمية والأيدولوجيات الدينية) من جهة، واستعراض مجموعة من المقترحات كرؤية للمساهمة في الإجابة على المشكلات والتحديات التي تواجه الفرد والمجتمع المعاصر من جهة أخرى. 

وتتمثل هذه التحديات خصوصًا في كيفية تعامل المواطن والدولة مع التغيرات المناخية والتطور التكنولوجي الهائل في المجتمعات الرأسمالية التكنولوجية المعاصرة وآثارها. في هذا المقال أستعرض أهم النقاط التي أثارها الكتاب.

 

العنف والحرية والإنسان الحديث

 

 

يتناول كتاب المرزوقي عدة إشكاليات وقضايا فلسفية وسياسية من أهمها العنف وكيفية إدارته في المجتمعات الحديثة والحرية والمسؤولية. يؤكد الكتاب من خلال رحلة تاريخية أن مصدر العنف هو "الإنسان العاقل"، الذي تعتبره السرديات الحديثة والفلسفات وكذلك الفلسفات الدينية مركز الكون وأن ما في باطن الأرض وعليها مسخر لخدمته. 

ومع ذلك، فإن هذا "الإنسان العاقل" هو نفسه الذي لم يحسن التعامل مع البيئة والطبيعة. ولقد وصل كوكبنا بالفعل إلى مرحلة خطيرة، مع التغيرات المناخية على غرار ارتفاع درجات الحرارة وارتفاع منسوب مياه البحر وموجات الجفاف والحر الشديد وحرائق الغابات التي تزداد يومًا بعد يوم. وإذا لم نتحرك اليوم لإجراء تغييرات جذرية في التعامل مع كوكبنا، فإن كوكبنا محكوم عليه بالفناء. 

يتساءل المرزوقي: ألا يُلام هذا "الإنسان العاقل" وتعامله غير المسؤول مع البيئة ومقدراتها؟ هل يمكننا اليوم أن نترك مقدرات البيئة للإنسان دون مساءلة وحدود لأفعاله لمجرد الاعتقاد السائد بأن الإنسان بالضرورة كائن عقلاني يميز السلوك المناسب عن الأسلوب الخاطئ، وبالتالي فإن كل شيء فوق الأرض وفي باطنها يخضع له؟

الغلاف العربي لكتاب منصف المرزوقي "المراجعات والبدائل: أي أسس لفكر سياسي مجدد؟". Cover vom Moncef Marzoukis Buch Revisionen und Alternativen
إعادة النظر في الفلسفة "الإنسانوية": يطرح كتاب الناشط السياسي المخضرم منصف المرزوقي مراجعة نقدية لمسار أيدولوجيات القرن العشرين، التي استمرت تجربتها والاعتقاد لعقود وبعضها لقرون أنها تستطيع تحسين حياة الإنسان ويدعو إلى مناقشة رؤية معاصرة واتباع سياسات تتناسب مع الممكنات والتحديات، التي يواجها الإنسان المعاصر. ويؤكد أهمية إعادة النظر بالفلسفة "الإنسانوية"، التي تركز على "استثنائية الإنسان" كفاعل عاقل. ففي قريتنا المعولمة، بكل ما بها من إمكانيات وما تواجهه من تحديات اليوم، يعد الإنسان المشكلة ولكنه كذلك يبقى الأمل الوحيد في إنقاذ البشرية. ويتناول الكتاب عدة إشكاليات وقضايا فلسفية وسياسية من أهمها العنف وكيفية إدارته بالمجتمعات الحديثة والحرية والمسؤولية. يؤكد الكتاب من خلال رحلة تاريخية أن مصدر العنف هو "الإنسان العاقل" ... وهو نفسه الذي يحسن التعامل مع البيئة ... ولقد وصل كوكبنا بالفعل إلى مرحلة خطيرة مع التغيرات المناخية … . من ناحية أخرى يدفعنا الكتاب للتساؤل حول سلوك الإنسان مع أخيه الإنسان ويشرح كيف حارب البشر بعضهم البعض على مر التاريخ وأتقنوا أساليب التعذيب والقسوة بعضهم تجاه بعض.

من ناحية أخرى يدفعنا الكتاب إلى التساؤل حول سلوك الإنسان مع أخيه الإنسان، ويشرح كيف حارب البشر بعضهم البعض على مر التاريخ وأتقنوا أساليب التعذيب والقسوة بعضهم تجاه بعض. وعلى الرغم من الأيديولوجيات المختلفة التي تبناها الإنسان عبر التاريخ مدعياً أنها لخدمة ونفع المجتمع، تثبت التجارب والأمثلة التاريخية أننا لم نستطع عبر التاريخ تحقيق الأهداف النبيلة والمثل التي نادت بها تلك الأيدولوجيات. 

"الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"

فرغم أن جميع الأيدولوجيات التي تشترك في الإجابة على السؤال: "كيف نعالج الفقر والجهل والظلم؟" باعتبار هذه الثلاثة المصدر الرئيسي للعنف في المجتمعات، إلا أنها استُخدمت من قبل الإنسان لخدمة جشعه وأهدافه الخاصة وأطلقت العنان لأقسى وأسوأ ما فيه من طبائع. وفي الواقع جسد الإنسان في عنفه وقسوته قول الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبر "إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، هذا الإنسان الذي يسميه الكاتب هنا "الإنسان المفترس".

ولكن سرعان ما يستدرك الكاتب ليؤكد أن الإنسان "المفترس" ينجح في تحقيق أهدافه بسبب خنوع إنسان آخر يرتضي بالقهر وبالعيش على الفتات دون احتجاج وهو من يطلق عليه الإنسان "الفريسة". وبين "الإنسان المفترس "و"الانسان الفريسة" يرى المرزوقي أن هنالك إنساناً يمتثل للقيم والأخلاق الحميدة ويسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والإخاء وهو ما يسميه الكتاب "الإنسان الفارس". 

يؤكد منصف المرزوقي عبر الرجوع لأمثلة تاريخية ودراسات نفسية أنه لا حدود فاصلة بين هذه الصفات الثلاثة للإنسان عمومًا، فكل منا يحمل الصفات المميزة للإنسان في صوره الثلاث. ومن هنا تأتي البيئة المحفزة لهذه الطباع والسلوكيات أو كبحه، وعليه يأتي دور الدولة التي وإن كانت تتألف كذلك من أشخاص لهم نفس الصور الانسانية الثلاث المذكورة أعلاه، إلا أنها من خلال إرساء قوانين وقواعد تطبق على جميع المواطنين يمكن للدولة فقط كبح جماح "الانسان المفترس" وتحفيز الإنسان الفريسة".

مراجعة الأيدولوجيات بين العنف والعدالة الاجتماعية 

ويعتبر الناشط السياسي المخضرم أن الأيدلوجية الوطنية / القومية، التي تفترض حشد الجنود والأفراد والمشاعر خلف أمة ووطن لصد عدوان جماعة بشرية أخرى تحمل كذلك في طياتها استبداد حاكم وجماعة وطنية ضد مجموعة أو طائفة أخرى من أبناء الوطن نفسه. فهذه الأيدلوجية التي تأجج مشاعر العنف ضد الآخر المستعمر أو المحتل الأجنبي هي ما كانت وراء تنكيل الجار بالجار، كما شاهد  العالم مذابح  أهلية في العالم شرقا وغربا.

أما عن الأيدلوجية الليبرالية فيؤكد المرزوقي على أن قيمة "الحرية" تعد القيمة الأساسية، التي يجب التمسك بها في كل المجتمعات. ومع ذلك فالحرية التي تساهم في تطوير المجتمع وبنائه عبر إطلاق طاقات الأفراد لها وجه يكشف جشع الإنسان واستغلاله والذي يأتي على حساب فئات كبيرة من المجتمع وكذلك البيئة والطبيعة من حولنا. 

نعم، هناك عدد لا يحصى من التطورات الطبية والاكتشافات العلمية، التي تسهل حياة قطاعات واسعة من مجتمعاتنا اليوم. ومع ذلك خلقت هذه التطورات تحديات جديدة. في عالمنا التكنولوجي المتقدم، يمكن أن تتحول التكنولوجيا نفسها إلى عدو يسبب البطالة في العديد من قطاعات العمل ويتم التلاعب به لصالح القوى الجشعة و/أو الاستبدادية. فالإنسان الخيِّر الذي يساعد البشرية من خلال هذه الأدوية والأدوات الجديدة هو من يتلاعب بها لتحقيق أرباح ومصالح شخصية.

ووفق رؤية المرزوقي تعد الديمقراطية أفضل الأنظمة السياسية حتى اليوم، إذ أنها تفرغ الصدور من الحقد وتحول العنف إلى "عنف رمزي" يتمثل في الاختلاف مع الآخر وحق انتخاب الأنسب، وكذلك التأكيد على صفة "تداول السلطة".  ومع ذلك يتساءل المرزوقي: من هم اللاعبون الأساسيون في هذه العملية؟ وهل تطبق المنظومة الديمقراطية حقًا مبدأ حكم الشعب للشعب من قبل الشعب! ويلفت الانتباه إلى أخطار تقويض واستغلال الديمقراطيات في كل المجتمعات حول العالم من قبل فئة من النخب السياسية والاقتصادية، التي لا تعمل بالضرورة لخدمة  المجتمع والمجموعات بنزاهة، بل  تسعى لتحقيق  أهداف  خاصة  بمساعدة إعلام فاسد  وأبحاث مضللة وتقارير مضللة.

 

صورة رمزية - الفقر. Tafeln unter Druck Armut Foto dpa
مفهوم الكرامة في المطلق فارغ من كل محتوى إن لم تتحقق الكرامة الاقتصادية": يكتب منصف المرزوقي: "مفهوم الكرامة في المطلق فارغ من كل محتوى إن لم تتحقق الكرامة الاقتصادية، إذ لا شيء يمّرغ كرامة الإنسان في التراب قدر الفقر. رأينا أن الشعور بالإذلال الاقتصادي مع الإذلال السياسي والإذلال على الهوية هو من أهم أسباب العنف اللفظي، الذي يزخر به الفضاء الافتراضي والعنف الجسدي، الذي يسيل الدماء في الفضاء الحسي. هذا يعني أن وقف الإذلال الاقتصادي بكل الوسائل يجب أن يكون أولى أولويات أي مجتمع يريد المحافظة على السلم المدني بغض النظر عن كل اعتبار آخر"، مما يعني أنه لا حل للخروج من الإذلال الثلاثي ( الفقر والجهل والظلم) إلا عبر نظام سياسي لا يمكن أن يكون إلا النظام الديمقراطي بما أنه الأكثر شفافية والأقدر على الدفاع عن القيم والقوانين والمصلحة العامة... شريطة ألال يكون مجرد واجهة براقة للنظام الاقتصادي الرأسمالي".

 



الأيدولوجية التقدمية

أما عن الأيدولوجية التقدمية، أي الاعتقاد في رؤية التاريخ كعملية خطية تأخذ البشرية من الأسوأ إلى الأقل سوءًا ومن الجيد إلى الأفضل، فيؤكد المرزوقي أن التجارب والخبرات قد أثبتت أن التقدم في التاريخ ليس بالضرورة تطورًا، وأن الطريق نحو الأفضل يمكن أن يتوقف أو يتراجع إلى ظروف مروعة خارجة عن إرادة الانسان كالتغييرات المناخية والعوامل الطبيعية"، أو حتى بسبب سوء تقدير الإنسان وإدارته لما بين يديه من مقدرات أو حتى في  معالجته لما يواجهه من تحديات.

الأيدولوجية الدينية

أما الأيدولوجية الدينية فكما يقول المرزوقي "هي خارج الموضوع أصلا". لكنه لا يرفض استلهام القيم الدينية كالصدق والأمانة والشجاعة والتضامن من أجل تشجيع وتحفيز سلوكيات تصب في خدمة بناء مجتمع عادل والمحافظة على البيئة ومقدراتها، ويؤكد أن الاعتماد اليوم على ما بين أيدينا من علوم ومقدرات حسية.

المرزوقي: "مفهوم الكرامة في المطلق فارغ من كل محتوى إن لم تتحقق الكرامة الاقتصادية"

وفي الواقع لا يرفض المرزوقي الأيدولوجية الديمقراطية ولا الليبرالية، لكنه يرى ضرورة إعادة النظر في التعامل معهما. كما يؤكد أنه لم يعد من الممكن الاستمرار في الدفاع عن "الحرية المطلقة" المعفاة من جميع المسؤوليات كما تفهمها الليبرالية. يكتب المرزوقي: "الحرية، دعامة الأيديولوجيا الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي: ليس صحيحاً أن الحرية هي قيمة القيَم...التجربة تثبت، أكان ذلك في الميدان السياسي أم الاقتصادي، أنها بدون كوابح أخلاقية وضوابط قانونية بالنسبة للمشروع الإنساني السّم وليس في الدسم".

 

لقطة فيديو لضابط مخابرات سوري يطلق النار. Video still of a Syrian intelligence officer shooting into a pit (photo: Ugur Umit Ungor)
"الإنسان الفارس والانسان المفترس والإنسان الفريسة": يؤكد الناشط السياسي المخضرم منصف المرزوقي أن الإنسان "المفترس" ينجح بتحقيق أهدافه بسبب خنوع إنسان آخر يرتضي بالقهر وبالعيش على الفتات دون احتجاج وهو من يطلق عليه الإنسان "الفريسة". وبين "الإنسان المفترس "و"الانسان الفريسة" هناك إنسان يمتثل للقيم والأخلاق الحميدة ويسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والإخاء وهو ما يسميه "الإنسان الفارس". ويؤكد عبر أمثلة تاريخية ودراسات نفسية أنه لا حدود فاصلة بين هذه الصفات الثلاثة للإنسان عموما فكل منا يحمل الصفات المميزة للإنسان في صوره الثلاث ومن هنا تأتي البيئة المحفزة لهذه الطباع والسلوكيات أو كبحه وعليه يأتي دور الدولة التي وإن كانت تتألف كذلك من أشخاص لهم نفس السمات الثلاث لكنها من خلال إرساء قوانين وقواعد تطبق على جميع المواطنين يمكن للدولة فقط كبح جماح "الانسان المفترس" وتحفيز الإنسان الفريسة". ويعتبر أن الأيدلوجية الوطنية/القومية التي تفترض حشد الجنود والأفراد والمشاعر خلف أمة ووطن لصد عدوان جماعة بشرية أخرى تحمل كذلك بطياتها استبداد حاكم وجماعة وطنية ضد مجموعة أو طائفة أخرى من أبناء الوطن نفسه.

 

ومن هنا يدعو المرزوقي إلى ضرورة عودة قوية للدولة كضامن لتحجيم استغلال الأفراد" ممثلين خصوصًا في الشركات الرأسمالية الكبرى"، مؤكدا أسبقية المصلحة العامة على المصالح الخاصة.  فالحرية يجب ألا تسبق العدالة الاجتماعية بأي حال من الأحوال.

وعلى الرغم من ذلك يلفت المرزوقي انتباه القارئ إلا أن بنية الدولة، التي يقصدها في هذا السياق، هي دولة ديمقراطية يجب أن تضمن كرامة الأفراد دون شروط، وتمتص العنف المجتمعي من خلال "آلية انتخابات" تدعم التواصل السلمي بعيدا عن هوس وعنف الأيدولوجيات، التي تؤجج الهويات المتناحرة وتقوي خطابات الكراهية وتدفع إلى الحروب وويلاتها، التي يعانيها كل من المنتصر والمهزوم. 

يكتب المرزوقي: "مفهوم الكرامة في المطلق فارغ من كل محتوى إن لم تتحقق الكرامة الاقتصادية، إذ لا شيء يمّرغ كرامة الإنسان في التراب قدر الفقر. رأينا أن الشعور بالإذلال الاقتصادي مع الإذلال السياسي والإذلال على الهوية هو من أهم أسباب العنف اللفظي، الذي يزخر به الفضاء الافتراضي والعنف الجسدي، الذي يسيل الدماء في الفضاء الحسي. هذا يعني أن وقف الإذلال الاقتصادي بكل الوسائل يجب أن يكون أولى أولويات أي مجتمع يريد المحافظة على السلم المدني بغض النظر عن كل اعتبار آخر"، مما يعني أنه لا حل للخروج من الإذلال الثلاثي إلا عبر نظام سياسي لا يمكن أن يكون إلا النظام الديمقراطي بما أنه الأكثر شفافية والأقدر على الدفاع عن القيم والقوانين والمصلحة العامة... شريطة ألال يكون مجرد واجهة براقة للنظام الاقتصادي الرأسمالي".

 

رؤية ومقترحات للمساهمة في المشروع الانساني

وفضلا عن ذلك يشدد المرزوقي، بصفته مراقبا نقديا ومفكرا سياسيا، على أنه يجب علينا تحمل مسؤوليتنا في المساهمة في بناء "المشروع الإنساني"، الذي يعد هدفه الأساسي "البقاء وتواصل الحياة وتحسين ظروف العيش لكل البشر".  لذا علينا أن نتبع العديد من الإصلاحات ونتقدم برؤى جديدة لخدمه هذا الهدف ومنها:

 

ميدان التحرير - القاهرة  - مصر. Tahrir Platz Proteste Ägypten Foto dpa
"الديمقراطية أفضل الأنظمة السياسية": لا يرفض منصف المرزوقي استلهام القيم الدينية كالصدق والأمانة والشجاعة والتضامن من أجل تشجيع وتحفيز سلوكيات تخدم عدالة المجتمع وحماية البيئة ويرى الديمقراطية أفضل نظام سياسي حتى اليوم فهي تفرغ الصدور من الحقد وتحول العنف إلى "عنف رمزي" عبر اختلاف وحق انتخاب وتداول سلطة. ويرى أن الحرية يجب ألا تسبق العدالة الاجتماعية بأي حال. ويعتبر أن بنية الدولة هي دولة ديمقراطية تضمن كرامة الأفراد دون شروط وتمتص العنف المجتمعي من خلال "آلية انتخابات" تدعم التواصل السلمي بعيدا عن هوس وعنف الأيدولوجيات، التي تؤجج هويات متناحرة وتقوي خطابات كراهية وتدفع إلى حروب وويلات يعاني منها كل من المنتصر والمهزوم. وعن الأيدلوجية الليبرالية يؤكد على أن قيمة "الحرية" هي القيمة الأساسية التي يجب أن تتمسك بها المجتمعات. ومع ذلك فالحرية التي تساهم في تطوير المجتمع وبنائه عبر إطلاق طاقات الأفراد لها وجه يكشف جشع الإنسان واستغلاله على حساب فئات كبيرة من المجتمع والبيئة. بعالمنا التكنولوجي المتقدم قد تتحول التكنولوجيا نفسها لعدو يسبب البطالة بقطاعات عديدة لصالح قوى جشعة و/أو استبدادية.

 

- إرساء رؤية سياسية واجتماعية واقتصادية وتكنولوجية لمواجهة التغيرات البيئية، التي نواجهها جميعاً على المستوى المحلى والعالمي. فالتعامل مع قضية تغير المناخ ليس قضية علمية متروكة للعلماء أو الباحثين أو المسؤولين فقط، بل هي أيضاً قضية اجتماعية. يجب على جميع أفراد المجتمع المشاركة في تحمل مسؤولية التصدي لها والمساهمة في علاجها. ويرى المرزوقي في هذا السياق أن التعامل مع مخاطر المناخ ينبغي أن يكون حاضرًا في تفاعلاتنا اليومية في محيطنا الاجتماعي وكذلك من خلال مراقبتنا للخطاب الموجه إلى الجماهير حول قضية تغير المناخ وتأثيراته على الفرد والمجتمع وعلى المستوي العالمي. فنحن بحاجة ماسة إلى الاعتراف بأن السرديات الخاصة بالتعامل مع تغير المناخ متداخلة بشدة مع هوياتنا الاجتماعية والسياسية ولن تثمر أي سياسات جديدة مالم تكن متسقة مع خطاب جديد يدعم التوجه إلى هوية وانتماء محلي ولكنه في الوقت ذاته كوني.

- تحفيز وضمان عمل مؤسسات المجتمع المدني وضمان التواصل بينها وبين المؤسسات السياسية المعنية باتخاذ القرار.

- وضع سياسات دولية لضبط تصنيع الأدوية واللقاحات وضمان حسن استخدامها وتوزيعها بشكل عادل.

-  مراقبة التكنولوجيا خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يعد خطراً كبير قد ينتج آليات جديدة تساهم في تعزيز قوى الاستبداد وتهميش فئات واسعة من البشر.

وعلى هذا النحو يطرح الكتاب مراجعة نقدية لمسار أيدولوجيات القرن العشرين، التي استمرت تجربتها والاعتقاد لعقود وبعضها لقرون أنها تستطيع تحسين حياة الإنسان ويدعو إلى مناقشة رؤية معاصرة واتباع سياسات تتناسب مع الممكنات والتحديات، التي يواجها الإنسان المعاصر.

 

 

أطروحة المرزوقي تسلط الضوء أيضا على أهمية إعادة النظر في الفلسفة "الإنسانوية"، التي تركز على "استثنائية الإنسان" كفاعل عاقل. فالدراسات تثبت أن الإنسان استغل الطبيعة بطريقة همجية وغير مسؤولة لها عواقب وخيمة حتى اليوم. ولأن المواجهة بين الإنسان والطبيعة وتغيراتها لم تكن يومًا في صالحه، علينا اليوم، أكثر من أي زمن آخر، حشد الطاقات والمعنويات للعناية بالطبيعة والاستعداد لتغيراتها وفق ما لدينا من  طاقات. وأخيرًا يوجه الكاتب دعوة للمواطن الكوني للتمسك بالقيم دون غلو أو نقصان. 

أما على الصعيد العالمي فيرى المرزوقي أنه يجب تطبيق المعاهدات والاتفاقيات والسياسيات العالمية، التي تم إرساؤها حتى الآن فيما يخص ضمان حقوق الإنسان وتعزيز العدالة الاجتماعية على الصعيد الدولي. ففي قريتنا المعولمة، بكل ما بها من إمكانيات وما تواجهه من تحديات اليوم، يعد الإنسان المشكلة ولكنه كذلك يبقى الأمل الوحيد في إنقاذ البشرية.

 

 

أماني الصيفي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de

 

أماني الصيفي - أكاديمية وباحثة في تخصص الدراسات الأدبية والثقافية.

 

عن الكتاب: 

كتاب "المراجعات والبدائل: أي أسس لفكر سياسي مجدد؟" صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الكتاب من تقديم فيصل القاسم، ويتألف من 312 صفحة مقسمة على أربعة فصول: "التقييم" و"التحيين" و"التحديات" و"الموارد".

 

 

اقرأ/ي أيضًا | 

 

المنصف المرزوقي لموقع قنطرة: كورونا يفاقم المعاناة وسيغذي موجات ثورية جديدة

المنصف المرزوقي: دولة الإمارات فعلت كل ما بوسعها لإفشال الربيع العربي

المرزوقي: سأكون رئيسا لكل التونسيين.. وسأدافع عن المحجبات والمنقبات والسافرات 

تونس: قيس سعيّد يقسّم التونسيين... ويطمس عصر الحرياتماذا تحقق من شعارات ثورة 25 يناير؟