
الانتفاضات العربية والربيع العربي الجديدعشر سنوات عجاف على الطواغيت العرب
أحداث كثيرة وقعت عام 2019: العملية العسكرية التركية في سوريا، وإجراءات عزل ترامب، وربيع عربي، وغريتا تونبِرغ في نيويورك [الفتاة السويدية الناشطة ضد الاحتباس الحراري]...، لكن لحظة: عن أي ربيع نتحدث؟ ألم يحصل ذلك قبل سنوات، عندما انتفضت شعوب تونس ومصر ودول أخرى وأطاحت بحكامها الذين حكموها فترة طويلة؟ ألا نتذكر أننا في ألمانيا لم نكن نملّ من الأخبار الواردة من ميدان التحرير ومن المظاهرات الحاشدة في دمشق وطرابلس وتونس؟
قبل تسع سنوات، في ديسمبر / كانون الأول عام 2010، انطلقت في تونس شرارة الربيع العربي. وفي ظرف أسابيع قليلة، كانت الانتفاضات الشعبية قد انتشرت إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكمله. "الشعب يريد إسقاط النظام": هذه كانت الهتافات التي ترددت من الحناجر الغاضبة على حكامها المستبدين. عدد من حكام تلك الدول تنحى. لكن ما لبثت خيبة الأمل أن استبدلت حماسة كثير من المراقبين.
لكن ما حصل في المنطقة عام 2019 كان أقرب إلى تلك التقلبات التاريخية. بيد أن الفرق الأكبر بينهما هو أن اهتمامنا [في الغرب] بتلك التقلبات انحسر. لم نعد متحمسين أو متضامنين حتى مع المتظاهرين الذين عادوا إلى ميادين بغداد وبيروت والجزائر والخرطوم: أولئك الذين يواجهون الغاز المسيل للدموع والبلطجية والأعيرة الحية أيضاً.
علامة سياسية فارقة
عندما أجبر المتظاهرون العراقيون رئيس الحكومة علي عبد المهدي على الاستقالة صنعوا بذلك التاريخ. باستثناء وحيد فقط قادت كل الاحتجاجات الشعبية في الجمهوريات العربية خلال العقد المنصرم إلى الإطاحة بالرئيس أو برئيس الوزراء (فيما بقيت الممالك العربية غير متأثرة بحركات الاحتجاج). هذا الاستثناء كان سوريا، الذي تمكن نظام الأسد فيها فقط من خلال الغاز السام والمرتزقة الأجانب والدعم العسكري الهائل من قِبَل الطيران الروسي من التشبُّث بالسلطة.

استقالة عبد المهدي جاءت بعد شهر واحد من استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري. في لبنان نزل الناس إلى الشوارع منذ أكتوبر / تشرين الأول 2019 للمطالبة بتنحي المشهد السياسي بأكمله بما في ذلك ما تمخض عن ذلك المشهد من تيارات طائفية وفساد. أمر صغير فقط هو ما حوّل الاحتقان في غضون ساعات إلى غضب وانتفاضة في الشوارع: الإعلان عن ضريبة على محادثات تطبيق "واتساب"، وهي ضريبة تمس شريحة الفقراء في لبنان أكثر من غيرها.
أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية سيئة أيضاً قادت إلى احتجاجات الجزائر والسودان. حركة الاحتجاج السودانية بدأت بمظاهرات ضد ارتفاع أسعار الوقود والخبز، ومن بعدها اتجهت للإطاحة بنظام عمر البشير، الذي حكم البلاد نحو 30 عاماً.
أما في الجزائر، فقد كان الإعلان الفجّ لقيادة الدولة عن ترشيح عبد العزيز بوتفليقة، الذي تربع على عرش السلطة لمدة 20 عاماً، لفترة رئاسية خامسة. لكن عندما استجاب الرئيس البالغ من العمر 82 عاماً في أبريل / نيسان 2019 لضغط الشارع، كاد لا يكون قادراً على تسليم طلب تنحيه وهو في كرسيه المتحرك.
النَفَس الطويل لحركات الاحتجاج
اليوم بات البشير وبوتفليقة جزءًا من الماضي. تفاؤل حذر يسود السودان، حيث اتفق الجيش مع المعارضة على تشكيل حكومة انتقالية ومن ثم الذهاب إلى انتخابات قبل عام 2022. في الجزائر اندلعت مظاهرات شعبية واسعة منتصف ديسمبر / كانون الأول 2019 مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وذلك بسبب كون المرشحين الخمسة جميعاً من كوادر النظام القديم. مدى إصرار المحتجين على مطالبهم سيتضح في الأسابيع القادمة، ولكن الفائز بالانتخابات، عبد المجيد تبون، تعرض لضغط شعبي كبير.
كانت محصلة عام 2019 هي إسقاط طاغيتين واستقالة رئيسي وزراء، بالإضافة إلى مظاهرات صغيرة في مصر والأردن. لكن مقارنة مع عام 2011، لم تحظَ هذه التطورات باهتمام إعلامي كبير. لم يتم الإعلان عن "ربيع" جديد، أو "ثورات عربية". بالطبع هذا متعلق بالتعود. لكن انحسار الاهتمام مرتبط بثلاثة عوامل لم تكن موجودة عام 2011.

أولاً، وقعت تقلبات عام 2019 في دول بعيدة عنا [نحن الغربيين] وتبدو غريبة بالنسبة لنا. متى كانت آخر إجازة لك في الجزائر؟! أو في السودان؟! كثير من الصحفيين العاملين في المنطقة الغربية تعلموا العربية على الأغلب في مصر، وزاروا تونس أو سوريا عدة مرات. لكن الجزائر؟ والسودان؟ لا. من سيهتم ببلد لم يزره من قبل ولا يعلم عنه إلا القليل؟ من ناحية سياسية أيضاً، لا توجد علاقات وطيدة بين السودان وألمانيا أو بين الجزائر وألمانيا. على عكسنا، فإن الأحداث في الجزائر تتصدر عناوين الصحف في فرنسا منذ أسابيع، بحكم تاريخ فرنسا الاستعماري في المنطقة.
ثانياً، هناك استكانة فيما يتعلق بالانتفاضات العربية. بعد ثورات عام 2011 جاءت الثورات المضادة عام 2013. في مصر أعادت المؤسسة العسكرية تأسيس نفسها في السلطة. أما اليمن وليبيا وسوريا، فقد غرقت في حروب أهلية. كما قام تنظيم "داعش" ببناء دولة إرهاب. لهذا، أشاح الكثير بوجوههم عن المنطقة.
النظرة الواقعية
بالرغم من ذلك، ربما يكون لهذه الاستكانة جانب إيجابي، فالحماسة الساذجة التي اكتسحت المراقبين عام 2011 أفسحت المجال أمام نظرة أكثر واقعية. ألم نكن ننظر إلى المتظاهرين في القاهرة أو دمشق آنذاك بنفس التعاطف على أنهم شباب يريدون أن يكونوا مثلنا في الغرب؟ هذا التحول أثبت أنه أصعب مما كان مأمولاً، أو على الأقل لم يكن كافياً لتحقيق تطلعاتنا.