ثورة أم انتفاضة؟ حراك سوريا الثوري في السياق اللغوي العربي والغربي

يحاول حسام الحسون في هذا النص تبيان سبب الاختلاف الذي ينشأ عن ترجمة مصطلح 'الثورة السورية' 2011 إلى اللغة الألمانية، مع ذكر بعض تقاطعات المعنى المقصود بين اللغتين الألمانية والإنكليزية.

الكاتبة ، الكاتب: حسام الحسون

تستخدم المحافل الإعلامية والمراكز البحثية الغربية التي تتوخى معايير الحرفية والأكاديمية في نقل أخبار الثورة السورية أو معاجلة مجرياتها وتفسير أحداثها، والتي تدرك ماهيتها بوصفها نضالاً مشروعاً لشعب عانى عقود طويلة تحت نظام ديكتاتوري أمني،مصلحات قريبة جداً من المصطلحات التي يستخدمها الثوار السوريون والمناصرون لهم عند تناولها الحدث الثوري السوري. 

غير أن المقابل في كل من اللغتين الإنكليزية والألمانية لكلمة 'ثورة' العربية في هذا السياق قد يختلف أحياناً عما تقصده معظم أطياف المعارضة الثورية السورية، بحسب وجهة نظرها الأخيرة على الأقل. حيث يُطلق على الثورة السورية في اللغة الإنكليزية the Syrian revolt أو the Syrian Uprising، في حين يطلق عليها في اللغة الألمانية der syrische Aufstand. وقد اتسع في الآونة الأخيرة استخدام مصطلح "الحرب الأهلية في سوريا" (في الإنكليزية civil war in Syria في الألمانية die Bürgerkrieg in Syrien).

ومن الأسباب التي تشجع كثير من الصحفيين والباحثين في الغرب على المضي في تسمية الثورة السورية بـ "الحرب الأهلية" توخي "حيادية" مفترضة عند تناول المسألة، قد تعززها معرفة مسبقة برفض كلا طرفي الصراع السوري (النظام والمعارضة) استخدام مصطلح الحرب الأهلية. غني عن الذكر في هذا المقام مقاصد النظام السوري وأنصاره في اختصار ثورة الشعب السوري في "المؤامرة الكونية على سوريا". 

'ثورة' و'انتفاضة' و'أزمة' و'مؤامرة' و'حرب أهلية'

مناسبة الحديث ليست الخلاف على التسميات ما بين 'ثورة' أو 'انتفاضة' أو 'أزمة' أو 'مؤامرة' أو 'حرب أهلية'، أو غيرها، وإنما توضيح أسباب "سوء الفهم" قد ينجم عن ترجمة التسمية المتفق عليها في اللغة العربية - 'الثورة' هنا - إلى اللغة الألمانية (أو الإنكليزية). بكلمات أخرى، توضيح سبب اختلاف "المتفق عليه" عند تحويله من العربية إلى الألمانية.

تستخدم كثير من الصحف والمراكز البحثية الألمانية كلمة Aufstand عند ترجمتها كلمة 'ثورة' في سياق نص عربي عن الثورة السورية 2011. وقد يستفسر كاتب النص العربي عن سبب عدم ترجمة هذه الكلمة الواردة في نصه الأصلي المكتوب بالعربية إلى كلمة Revolution في الألمانية، لاسيما إن سبق له أن ترجمها بنفسه إلى revolution في الإنكليزية. إذ يتوقع مؤلف النص العربي ترجمة ألمانية لكلمة 'ثورة' في سياق مشابه لمدلولها المستخدم في وصف الثورة الفرنسية 1789، وما يرتبط بهذا الحدث التاريخي من استحضار المشهد الثوري التحرري للشعب الفرنسي طلباً للحرية والعدالة والمساواة، والتضحيات الكبيرة التي رافقت تحقيق هذه الغاية.

 

 

يجد "المنطق" الغربي-الألماني (الأكاديمي بصورة خاصة) صعوبة في مقارنة الثورة السورية وأخواتها بالثورة الفرنسية وشبيهاتها أمثال ثورة آذار 1848 الألمانية، أو الثورة البلشفية 1917 الروسية. ويمكن إرجاء هذه "الصعوبة" إلى نوعية الحدث الثوري، وأهدافه، ونتائجه، وبالخبرة التاريخية المصاحبة له.

يشير مدلول كلمة Revolution في الألمانية إلى حدث جماهيري واسع وكبير أدى إلى تغييرات جوهرية في الهياكل الاجتماعية والنظام السياسي والقيم الثقافية في بلد ما، وأثر على البلدان المجاورة أو البعيدة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ما يجعله قابل للتصنيف ضمن التواريخ الفارقة التي غيرت التاريخ وأثرت فيه بصورة عميقة. ويتفق مدلول هذه الكلمة في اللغة الألمانية مع مدلولها في اللغة الإنكليزية أيضاً. وتشكل الفئات الاجتماعية المضطهدة عادةً الحامل البشري للثورة بوصفها 'Revolution'. ويربط هذا التعريف مدلول الكلمة التي تصف الحدث بنتيجة الحدث ذاته، إذ لا يُطلق عليه تسمية 'Revolution' ما لم تتضح نتائج هذا الحدث وتترجم تحولاً شاملاً ضمن السياق المبين أعلاه، وهو الأمر الذي يحتاج تبلور بعض أشكاله وقتاً ليس بقصير، لاسيما التغييرات في البنى الفكرية-الثقافية.

بل أن النتيجة بموجب تعريف كلمة Revolution أكثر أهمية من الحدث الثوري ذاته في زمان حدوثه، كما هو الحال مع ثورة آذار 1848 الألمانية. فرغم اتساع هذا الحدث الثوري اتساعاً أفقياً، بعمومه الأراضي الألمانية التي كانت تتألف آنذاك من عدد كبير من الإمارات والممالك؛ وعامودياً في المتجمع الألماني، نتيجة انضمام النساء والفتيات لأول مرة في تاريخ ألمانيا إلى صفوف الثوار المنتمين بدورهم لمعظم الشرائح الاجتماعية والطبقية، لم يؤدِّ هذا الحدث إلى إسقاط الأنظمة السياسية الألمانية الحاكمة، لكن النتيجة كانت إجبار الحكام على الانصياع لرغبات الشعب الألماني (مع ملاحظة الاختلاف من ناحية سرعة تطبيق الإصلاحات ونوعية مضمونها من إمارة ألمانية إلى أخرى) الذي أراد تجسيد وحدته اللغوية-الثقافية في شكل سياسي دستوري يرعى مصالحه بمختلف فئاته ويحسن أوضاعه المعيشية ويضمن حقه في المساهمة في تقرير نمط حياته. 

كانت نتائج هذا الحدث ثورية وعميقة رسخت في البنى الثقافية المجتمعية الاجتماعية والأيديولوجية بصورة مهدت الطريق لتوحيد ألمانيا في عام 1871. وعليه، تستخدم كلمة Revolution لتعريف هذا الحدث.

تبسيطاً للمسألة يمكننا أخذ مثال 'الثورة السورية الكبرى' التي اندلعت ضد الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان في عدة مناطق ضمن الجغرافيا الحالية لسورية ولبنان ما بين عامي 1925-1927. إذ أسمتها الأدبيات العربية المناصرة لها "ثورة"، وأعطتها صفة "السورية" رغم حداثة تأسيس الكيان السوري آنذاك وعدم اتضاح الحدود الجغرافية والبشرية للمقصود بمصطلح 'سوريا'، كما نعتتها بـ "الكبرى" بما يفيد تمييزها بأنها الأكبر من نوعها حتى تاريخها والأهم من نوعها. 

أما على الطرف الفرنسي فقد أطلقت عليها دوائر الاستعمار الفرنسي عليها تسمية "la rébellion en Syrie" التي تعني "التمرد في سوريا" بما يفيد نزع الشرعية الثورية عنه. حين انتقل هذا الحدث الثوري إلى ميدان الدراسات التاريخية احتفظ بتسميته (الثورة العربية الكبرى) التي رافقته في الأدبيات العربية لتمييزه عن غيره من الأحداث التاريخية في المنطقة العربية. في المقابل، أطلقت عليه الأدبيات الصادرة باللغة الإنكليزية The Great Syrian Revolt وفي الألمانية استخدمت كلمة Aufstand في سياق تعريفه.

 

 

ومن جانب آخر، فإن الاتفاق على مدلول معنى كلمة Revolution ما بين اللغتين الألمانية والإنكليزية لا يمكن سحبه على مدلول كلمة revolt في الإنكليزية وكلمة Revolte في الألمانية، وذلك رغم التشابه الكبير بين الكلمتين بما يوحي بتماثل المعنى المراد بهما في اللغتين معاً. فكلمة revolt في الإنكليزية تقابلها كلمة Aufstand في الألمانية، في حين يقترب معنى كلمة Revolte في الألمانية من معنى كلمة rebellion في الإنكليزية. وتعني الكلمة الألمانية Revolte في العربية 'التمرد'؛ أو 'القومة'؛ أو 'الانتفاضة في إطار محلي أو طبقي'، كثورات العبيد أو انتفاضات الفلاحين أو احتجاجات العمال أو تمرد سكان منطقة جغرافية معينة على المركز. في حين يقترب مدلول كلمة revolt في اللغة الإنكليزية من مدلول كلمة Aufstand في الألمانية.

ويفيد استحضار مثال الثورة العربية الكبرى 1916 توضيح المعنى المقصود من كلمة Revolte في الألمانية، إذ أراد القوميون العرب من كلمة 'ثورة' معنى كلمة Revolution في الألمانية والإنكليزية، وبما في ذلك من إضفاء صفة شرعية على هذا الحدث ومقارنته بالأحداث التاريخية الكبرى، إلا أن "المنطقين" الإنكليزي والألماني لم يتفقا مع "المنطق" القومي العربي على "ترقية" هذا الحدث الثوري إلى المعنى المقصود بكلمة Revolution. ففي حين نجد أن الإنكليز (حلفاء الشريف حسين) قد استخدموا في مراسلاتهم كلمة the Arab revolt بمعنى الانتفاضة الواسعة والثورة على النظام السياسي؛ بما في ذلك من إضفاء شرعية ثورية عليها، فإن هذا الحدث الثوري لم يتعدَّ مدلول كلمة die Arabische Revolte لدى الألمان، حلفاء الدولة العثمانية وأعداء الإنكليز خلال الحرب العالمية الأولى، والتي تعني القومة أو الانتفاضة الإقليمية ضد المركز، بما يفيد التقليل من قيمتها ومن شرعيتها. يلاحظ نزع صفة "كبرى" في كلا الحالتين الإنكليزية والألمانية.

الانتفاضة العامة أو الاحتجاج الواسع

والثورة بحسب المعنى المراد من الكلمة الألمانية Aufstand يعني الانتفاضة العامة أو الاحتجاج الواسع المدعوم من قبل طبقات وفئات واسعة من المجتمع بهدف تغيير النظام السياسي. وتشتق كلمة Aufstand في الألمانية من الفعل aufstehen الذي يعني 'القيام' سواء أكان من سرير النوم أم من على الكرسي. وفي هذه الحال إن ترجمنا كلمة Aufstand حرفياً إلى العربية فستكون أقرب مقابل لغوي كلمة 'قومة'، ما يجعلها تفقد معنى 'انتفاضة واسعة' أو 'ثورة غير شاملة' المراد في الألمانية، وتصبح أقرب إلى المقصود بمصطلح Revolte فيها، أي الثورة/التمرد في نطاق جغرافي معين أو فئوي ضمن شريحة معينة من المجتمع. ويشتق من الفعل aufstehen الصفة aufständisch التي تعني 'منتفض' أو 'ثوري'، ومن الصفة الأخيرة يشتق اسم الفاعل die/der Aufständische/r أي 'الثائرة/الثائر' أو 'المنتفضة/المنتفض'.

 

 

حين يبحث الألماني المتخصص في قاموس عربي-ألماني عن ترجمة مناسبة لكلمة 'ثورة' في سياق الثورة السورية 2011 يختار كلمة Aufstand ويترك Revolution التي يجدها غير مناسبة إن عمل بموجب التعريف السابق لـ Revolution. إلا أن المسألة لن تكون بهذه "السهولة" في حالة المترجم العربي عند البحث في قاموس ألماني-عربي عن ترجمة Aufstand، لاسيما إن أراد توخي ترجمة دقيقة للمدلول اللغوي المراد لدى كاتب المقال الألماني في كلمة واحدة تقابل المصطلح الألماني في اللغة العربية. فالمسألة هنا توجب فهم المعنى المقصود بالكلمة المراد ترجمتها، وليس البحث عن الكلمة بتجرد ومن ثم اختيار المقابل الأنسب بين المرادفات.

وقد يفسر ضعف الحراك الثوري المعارض للنظام السوري أو انعدامه في المناطق التي تغلب عليها المكونات الثقافية المسيحي والدرزي والشيعي والعلوي، مقارنة في المناطق التي يقطنها السنة، العرب والأكراد والتركمان، أحد أوجه تبرير عدم استخدام كلمة Revolution لوصف هذا الحدث، والتوقف عند المقابل اللغوي الألماني Aufstand. 

وتقابل هذه الحالة تاريخياً حالة الثورة السورية الكبرى 1925-1927 حيث غلب على المشاركين فيها الانتماء للمكونين العربيين الدرزي والسني دون أن يمنع الأمر انضمام أفراد من مكونات المجتمع السوري الأخرى إليها، في مقابل شكل فيه بعض المنتمين لمكونات أخرى من المتجمع السوري كالشركس في غوطة دمشق والمسيحيين في القلمون والأرمن ميلشيات قاتلت إلى جانب قوات الاحتلال الفرنسي ضد الثوار.

ثورة أم انتفاضة؟ حراك سوريا الثوري في السياق اللغوي العربي والألماني
ثورة أم انتفاضة؟ حراك سوريا الثوري في السياق اللغوي العربي والألماني

 

أخيراً، يبدو المعنى المقصود بكلمة Aufstand أكثر واقعية وقرباً من الحيادية في وصف الحدث الثوري السوري، وهذه إشكالية بحد ذاتها، إذ أن إخضاع الفعل الثوري في زمن حدوثه للواقع والحيادية يعني تجريده من رومانسيته وتجريد معاني التضحية فيه من رمزيتها.

أضف إلى ذلك أن كلمة "ثورة" في العربية مؤنثة، شأنها شأن معظم الكلمات التي تعني القيم الإنسانية العليا في العربية، من أمثال الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية - إلخ... 

ولاستخدام الرموز الأنثوية في السياقات الثورية تاريخ طويل، منها ما شاع في أوروبا بكثرة عقب عصر الأنوار، لعل أهمها بالنسبة للألمان الرمز الأنثوي 'جرمانيا' (Germania) الذي استخدم رمزاً رومانسياً في سياق الحراك الديمقراطي في ألمانيا في القرن التاسع عشر. وفي المقابل نجد المقابلات اللغوية الألمانية للقيم الإنسانية العليا أيضاً مؤنثة، die Revolution, die Freiheit, die Gerechtigkeit, die Gleichberechtigung, die Demokratie usw.، بما يضيف قيمة جمالية على المعنى؛ الأمر لا يتفق مع كلمة der Aufstand المذكرة.

 

 

حسام الحسون

حقوق النشر: حسام الحسون / موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de