«أصولية جديدة»
وعلى رغم أن الإسلام ينسب «القاعدة» و «داعش» إلى الإسلام السياسي أو الإسلاموية، إلّا أنهما ليسا من نسل «الإخوان المسلمين» ولا من ذريتهم. والاستثناء الوحيد هو جماعة صغيرة من المصريين لحقت ببن لادن إلى أفغانستان في أواخر ثمانينات القرن الماضي بعد أن صرمت علاقتها بالجمعية. والحق يقال، لم تحضن الحركات الإسلامية السياسية الغلو الجهادي، لا في الجزائر (مع «جبهة الخلاص الإسلامية»)، ولا في المغرب («حزب العدالة والتنمية»)، ولا في فرنسا أو سورية أو الأردن أو تونس (النهضة) أو باكستان («جماعتي إسلامي»). وفي أفغانستان، اغتيل «الإخواني» عبدالله عزام، رائد الحركة الجهادية ضد السوفيات، في 1989، لأنه عارض الانحراف الإرهابي والمناهض للغرب الذي رفع لواءه خالف عزام، أسامة بن لادن. ولم يكن هذا إخوانياً، في يوم من الأيام. والجهادية هي اليوم ثمرة العولمة واضمحلال الثقافة الإسلامية، وليست وليدة الأحزاب الإسلاموية، على ما وصفت في كتابي «الإسلام المعولم».

وفي الدوائر الأربع التي تناولتها بالتحليل، وأترك جانباً دائرة ماليزيا وإندونيسيا، تُظهر التطورات السياسية الخاصة بكل دائرة منها كيف نشأت الحركات الإسلاموية وكيف تبلورت على النحو الذي وصفته.
ففي إيران يسيطر سلك الباسدران («حرس الثورة») على النظام، تحت عباءة المرشد. والعلماء كفوا عن الاضطلاع بالدور الذي قاموا به بعد أن «أمموا» أو «دُولوا». واصطبغ المجتمع بأقوى صبغة علمانية في الشرق الأوسط. وسادت أفكار توفيقية ولا أدرية على أنواعها، وانتشرت موجة اعتناق مذاهب «إصلاحية» متفرقة تقلق النظام. وفي باكستان وشبه القارة الهندية، يتآكل نفوذ الأحزاب التي استعادت اسم «جماعتي إسلامي»: فالدولة – الأمة الباكستانية تتصدع، ويتنازعها الجيش والحركات الأصولية الجديدة التي تميل إلى العنف وتزدهر على أنقاض الدولة، وتعلن «الإمارات الإسلامية» كيفما اتفق، ومن غير أبنية دولة، وحيث يقنع المقاتلون بفرض الشريعة.
ونأى حزب «العدالة والتنمية» التركي بنفسه عن المرجعية الإسلامية، وهو يعرِّف نفسه حزباً محافظاً، وليبرالياً في مجال الإدارة الاقتصادية، وفي المجال الثقافي يحامي عن العائلة والتقاليد الاجتماعية. وبعضهم يعزو انعطاف رجب طيب أردوغان المتسلط في 2012 إلى سعيه في أسلمة ناعمة. والحقيقة أن الانعطاف يعود إلى إحياء تقليد تركي – عثماني لا يمت بصلة إلى إسلاموية «الإخوان المسلمين». وهؤلاء يرون في المثال العثماني خليطاً يبرئون الإسلام منه. وقيم أردوغان أقرب إلى أفكار اليمين الديني الأميركي: إدانة الإجهاض ومديح القيم العائلية. ومشروع قانون تجريم الزنا، في 2004، يتوسل بمثال الأسرة الأميركي والغربي. فالرجل ينتسب إلى دائرة فلاديمير بوتين وفيكتور أوربان وحزب الشاي الأميركي فوق ما ينتسب إلى معايير إسلامية متشددة.
ودل الربيع العربي على أن الإسلاموية ليست الشكل الخاص الذي تلبسه المعارضة السياسية (في المجتمعات العربية والإسلامية)، ولا لغة ثورة «الجماهير العربية المحتومة. فطلب الديموقراطية هو لغة الاحتجاج الجديدة. لذلك، فاجأ الربيع العربي الإسلاميين، وخسروا فيه احتكار المعارضة البنيوية التي نسبت إليهم إلى حينها، وسوغت تأييد الغرب الديكتاتوريات المفترضة سداً في وجه «التهديد الإسلامي»، وذلك من بن علي إلى مبارك. لكن موارد الإسلاميين التنظيمية، في مصر وتونس، عقدت النصر لحركاتهم وأحزابهم في الانتخابات التشريعية الأولى بعد الربيع. فحسبوا أنها ساعة مجدهم، وأنهم صوت الشعب الصادق. ولم يصمد نظامهم سنة كاملة وتساقط أنقاضاً. ولم يكن السبب افتقارهم إلى مؤهلات إدارة الحكم، بل اضطرارهم إلى تقاسم المعارضة السياسية مع جماعات أخرى، وإلى تشارك الإسلام على الخصوص. فبادر السلفيون إلى دخول الحلبة السياسية ومنافسة «الإخوان المسلمين». واتهم السلفيون «الإخوان» تارة بالاعتدال (في تونس) وتارة أخرى بالغلو في الجمود (في مصر).
ولا يقلل هذا مكانة الإناسة الدينية قياساً على اجتماعيات السياسة، ولا يقدم هذه على تلك. فتمتع الحقل الديني بالاستقلال وتنوع معاييره الذاتية هما ما حال دون فلاح الإسلاميين في بناء دولة إسلامية. وبناء عليه، فإخفاق الإسلام السياسي يعود، في شطر منه، إلى تحولات طرأت على الحقل الديني. فالإسلاموية ازدهرت في إطار تاريخي سمته انبعاث الدين في صورة مرجع هوية بينما كانت تنتاب القومية العربية أزمة حادة. فإذا انقلب التدين سعياً فردياً، ترجح بين ميل إلى الروحانية، في أحسن الأحوال، وبين انخراط في الجهادية، في أسوَئِها.
أوليفييه رو