محمد شحرور.... مفكر إصلاحي في جبة فقيه

رحيل المفكر السوري جدد السجال حول أفكاره الدينية المثيرة للجدل
رحيل المفكر السوري جدد السجال حول أفكاره الدينية المثيرة للجدل

الثلاثين سنة التي أمضاها محمد شحرور في التأسيس لقراءته المعاصرة للإسلام، استنادا إلى ثنائية التقليد في مواجهة التنوير، ليست سوى صورة مضادة لإسلام الفقهاء، تم التوسل من أجل صناعتها، بالمنظومة القيمية الحداثية وحتى القانونية، وقد بدا ذلك واضحا في نتائج تأويلاته، التي أرادها أن تحقق بالفعل مقولة إنَّ "الإسلام صالح لكل زمان ومكان". محمد طيفوري يلقي نظرة نقدية على إرث شحرور.

الكاتبة ، الكاتب: محمد طيفوري

رحل المفكر السوري محمد شحرور أواخر العام الماضي، تاركا سجالا محتدما حول إرثه الفكري، فالمعارك لا تكاد تهدأ عربيا بين فسطاطين يتنازعان حول أطروحته؛ فخصومه يعتبرون كتاباته محاولة لتطويع النص الديني الإسلامي، حتى تتلاءم مع مرجعيته الماركسية. فيما يقدر أنصاره اجتهاد الراحل في سبيل إقامة توليفة منسجمة بين الإسلام والعصر، بالعمل على تجاوز قدامة التراث المضادة للزمن، والسعي إلى تزمينه وتحديثه وإصلاحه.

يختلف الفريقان حول "المشروع الفكري" لمهندس تجاوز هندسة الأبنية بالإسمنت والخرسانة المسلحة نحو هندسة العقول بالفكر والثقافة، في كونه مبتدعا؛ في أعين المحافظين، فقد أقدم على "التفكير خارج الإطار"، بتعبير كارل بوبو، وتجرأ على المقدسات والثوابت بمخالفة الجمهور ونقض الإجماع. بينما يراه معشر التقدميين حاملا للواء التنوير والحداثة، في نسخته العربية والإسلامية، فقد سبق للأنثروبولوجي الأمريكي ديل إيكلمان أن وصفه بـ "مارتن لوثر الإسلام".

وبعيدا عن هذا الجدل والاستقطاب الحاد حول تراث الراحل، والمفتوح على كل الاحتمالات، يعتبر محمد شحرور نفسه مفكرا إصلاحيا أو تجديديا، سعى من خلال قيامه بحفريات في التراث الإسلامي إلى استعادة روح الرسالة الإسلامية المختطفة؛ منذ القرون الأولى، من قبل السلاطين بمساعدة الفقهاء، فزاغت عن مسارها الطبيعي بفعل الصناعة الفقهية، التي صاغت دين السلطان، بديلا عن رسالة خاتمة مبعوثة رحمة للعالمين.

سعى محمد شحرور من خلال مشروعه الفكري إلى إعادة تأسيس فكر ديني معاصر؛ أو "الرسالة الثانية للإسلام" بلغة المفكر السوداني الراحل محمد محمود طه، لا يتعارض مع ما توصلت إليه المعارف الإنسانية، باستعمال أرضية معرفية متطورة لفهم نصوص القرآن أو التنزيل الحكيم بتعبيره، وإعادة تأسيس فقه إسلامي معاصر؛ مؤكدا بأن الحرية هي أساس الحياة الإنسانية، وهي القيمة العليا المقدّسة، وفيها تكمن عبادية الناس لله.

معالم المشروع الإصلاحي لمحمد شحرور

منذ صدمة الحداثة الأولى، كان الجدل رفيق عشرات المشاريع الفكرية والمحاولات التنويرية والأفكار الإصلاحية، التي تفتّقت على مدار القرنين الأخيرين بالعالم العربي والإسلامي، رغبة في الإصلاح والتنوير والعقلنة والرقي في مدارج المدنية. وشكلت أطروحة شحرور؛ المسبوكة في عشرة مصنفات، إحدى اللبنات الأساسية ضمن هذا الكم من المحاولات. تعود بدايتها إلى آخر عقد من القرن الماضي، مع كتابه المؤسس "الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة" (822 صفحة)؛ الذي استغرق في تأليفه 23 سنة، واختار له عنوانا خلق جدلا فكريا كبيرا في العالم العربي والإسلامي، استمر عدة سنوات.

دافع شحرور في مشروعه عن أطروحة محورية مفادها تقديم القرآن على النحو الذي قدّم به القرآن ذاته، وكانت كل الأعمال اللاحقة عن الكتاب المؤسس – الكتاب والقرآن –  بمثابة تنزيل أو تطبيق لهذه الفكرة. فقد اشتغل على بسط رؤية القرآن ونظرته الداخلية لمختلف المواضيع التي تناولها، لذا لا يتردد في الدعوة إلى خلخلة المنظومة التراثية، بالتعامل المباشر وبدون وساطة مع النص الديني، واعتماد مناهج علمية حديثة، بعيدة عن الأطر التقليدية في تفسير القرآن.

 

......................

طالع أيضاً:

كيف كان وينبغي أن يكون "تجديد" الإسلام؟

الإصلاح الديني في الإسلام... أي إسلام نريد؟

هوية الاسلام الحقيقية تكمن في "مقاصده"

......................

 

لا محيد عن عقلنة النص المؤسس؛ في نظر شحرور، قصد فك التناقضات التي تعج بها المنظومة التراثية، وإنجاز المصالحة المنشودة عبر التاريخ بين الوحي والعقل والواقع. واختار لأجل ذلك المنهج اللغوي، فاللسانيات الحديثة تتيح إمكانية إقامة منهج معرفي معاصر، يسمح بتقديم "قراءة معاصرة للنص القرآني" متوافقة مع البشر والعالم، تجعل الجذر اللغوي معيارا وضابطا وحيدا في تفسير القرآن، دون إملاءات سلطان الفقه المحكومة؛ من حيث السياق والأفق، ببيئة صناعتها وتدوينها.

 

معالم المشروع الإصلاحي لمحمد شحرور
إن الاختلاف ونقد ما يدافع عنه محمد شحرور من أفكار وتأويلات، لا ينبغي أن يكون سببا للحقد والضغينة عليه، كما بدا واضحا على لسان الكثيرين، بمن فيهم أسماء تزعم وصلا بالثقافة والتنوير والمعرفة.

 

إن التنزيل الحكيم الذي يعني القرآن باصطلاح شحرور، كتاب منزل من إله عالم كامل العلم والمعرفة، ذي علم مطلق، يجعله منزها عن الخطأ أو التناقض أو ما إلى ذلك، مما قد يشوب المعرفة البشرية من نواقص. لذلك ورفعا لكل ما قد يبدو تعارضا بين مقتضيات الوحي ومتغيرات الواقع، اهتدى شحرور إلى طرح منهج القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم، من أجل ضمان التفهم الأمثل والتطبيق الأسلم للنص في الحياة المعاصرة.

يثبت القرآن بحسب المفكر النظرية المادية في المعرفة الإنسانية، ما يجعله مكتف لذاته، ولا يحتاج لشيء خارجي يساعد على الفهم. ويذهب حد المقارنة من حيث الدقة، بين علم الرياضيات وكلمات التنزيل الحكيم؛ فهي من الدقة في التركيب والمعنى حيث لا ترادف فيه إطلاقا، فالدقة فيه لا تقل عن مثيلتها في العلوم الطبيعية (كمياء وفيزياء وطب...) على فرض أنها دقيقة فعلا؟

إن ما يعانيه المسلمون في العالم المعاصر، برأي المفكر شحرور، هو إحدى نتائج تكلس العربي الإسلامي وإفراطه في تقديس التراث، حد الأخذ به على الإجمال دون تفحص وبلا تمحيص. لذا يدعو في محاولته التجديدية إلى تسخير أدوات المعرفة المعاصرة من أجل إعادة قراءة النص الديني بمنهجية جديدة، من شأنها المساعدة على تنقية الإسلام من الشوائب العالقة على مدى قرون من الزمن، ومراجعة الكثير من "المسلمات" في الوعي العربي الإسلامي.

فالخطاب الديني الذي يقدمه المسلمون اليوم لا يعبر عن الإسلام الحقيقي، ولا يمثل الخصائص الثلاثة (الرحمة والخاتمية والعالمية) لرسالة أخر الأنبياء، بل يقدم في بعض الأحيان صورة سيئة عنه، كما هو الحال مع التنظيمات المتطرفة التي تقدم تجارب تاريخية في التدين الإسلامي باعتبارها جوهر الدين الإسلام. ما يفرض بالضرورة مراجعته وتجديده وقراءته بعين العصر، وفق الأرضية المعرفية التي تتوافق مع هذا الواقع.

يرى الراحل شحرور أن الأمة الإسلامية بحاجة إلى الشجاعة للاجتهاد، رافضا أن يكون باب الاجتهاد قد أغلق، كما نسمع من حين لأخر. فكل ما هناك أن "إمكانيات الاجتهاد ضمن الأطر التي رسخت منذ القرنين الثاني والثالث الهجري، قد استنفذت، ولم يعد الاجتهاد ممكنا إلا إذا تم تجاوز هذه الأطر، والعودة إلى قراءة التنزيل على أساس معارف اليوم، واعتماد أصول جديدة للفقه الإسلامي، والأهم من ذلك كله، أنهم لم يكتفوا بوضع الأطر وتحديدها، بل تم إغلاق هذه الأطر تماما".

محمد شحرور: مجدد أم فقيه؟

لا تبتعد أطروحة شحرور عن باقي المشاريع الفكرية المعاصرة التي قُدمت ضمن مدرسة الإصلاح الديني (محمد عابد الجابري، محمد أركون، أبو القاسم حاج حمد، نصر حامد أبو زيد، الطيب التزيني، هشام جعيط، حسن حنفي، حسين مروة، جورج طرابشي...)، لكن مؤلفات الراحل يطغى عليها الحس "النضالي"، فسرعان ما تُظهر القراءة المعاصرة التي تعرضها مؤلفاته بوضوح معالم الصراع الذي انخرط فيه ضد "التقليدين"، اللذين عطلوا عملية إنتاج المعرفة بالاستناد إلى ثلاثية: الترادف والقياس والتسلط.

وربما كان الاستغراق في هذه المعارك سبب وراء تسويق المفكر لأطروحته إعلاميا على شاكلة الوجبات السريعة، فعمد إلى التخلي أو إغفال المنهج الاختصاصي الدقيق، الذي يضفي على طرحه منسوبا من الشرعية العلمية، لصالح تسويق صحفي مخل وسطحي، لنتائج غير المألوفة التي توصل إليها بغرض الصدمة أو الإثارة. بهذا الاختزال تبدو أطروحة الرجل أشبه ما تكون بمراهقة فكرية، يهوى على منتقدوه من محافظين وتراثيين بسهولة. وهذا خطأ كبير ما كان لباحثه مثله أن يقع فيه.

"أزمة العقل الإسلامي أكبر بكثير من أن تحصر في إشكال لغوي عند قراءة النص الديني"

تزعم هذه المحاولة السعي إلى عصرنة الإسلام وتنقية التراث من شوائب السياسة والتاريخ والثقافة، غير أن صاحبها من حيث لا يدري يؤسس لما يدّعي أنه يسعى لتجاوزه، فمشروعه، مع التحفظ على هذا الوصف، يدعي قراءة الموروث الديني برؤية تجديدية منفتحة على الواقع، ويوظف آليات داخلية تعرّي القراءات التجزيئية والروائية التي ظلت تحتكر فهم النص الديني.

كل ذلك بغرض التأسيس لفقه جديد يتناسب مع العصر، على غرار محاولته في كتاب "فقه المرأة – نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي"، وقبله في كتاب "الإسلام والإيمان – منظومة القيم". أما في كتاب "دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم: المنهج والمصطلحات" فهو أقرب ما يكون إلى ممارسة الوساطة، التي ينكرها على الفقهاء.

كل هذا يجعل دعوات الراحل لما أسماه "عقلنة النص الإسلامي" محل محاججة، لأن ما يؤسس له من فقه معاصر اليوم، سوف يتحول غذا نقل قابل، وهو عين ما يعيبه على التراث.

"ثنائية التقليد في مواجهة التنوير، ليست سوى صورة مضادة لإسلام الفقهاء"

صفوة القول، إن الثلاثين سنة التي أمضاها شحرور في التأسيس لقراءته المعاصرة للإسلام، استنادا إلى ثنائية التقليد في مواجهة التنوير، ليست سوى صورة مضادة لإسلام الفقهاء؛ بتعبير المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم، تم التوسل من أجل صناعتها، بالمنظومة القيمية الحداثية وحتى القانونية، وقد بدا ذلك واضحا في نتائج تأويلاته، التي أرادها أن تحقق بالفعل مقولة إنَّ "الإسلام صالح لكل زمان ومكان".

وفضلا عن ذاك زاد من هشاشة أطروحة الرجل، مقارنة مع مشاريع أخرى ضمن نفس المدرسة الإصلاحية، من قبيل العالمية الإسلامية الثانية لدى السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد أو الإسلاميات التطبيقية مع الجزائري محمد أركون أو نظرية القبض والبسط لدى الإيراني عبد الكريم سروش، انكفاء محمد شحرور على المدخل اللغوي (اللسانيات)، الذي لم يكن بالمناسبة أول من استخدامه في الدراسات القرآنية، فأزمة العقل الإسلامي أكبر بكثير من أن تحصر في إشكال لغوي عند قراءة النص الديني.

إن الاختلاف ونقد ما يدافع عنه محمد شحرور من أفكار وتأويلات، لا ينبغي أن يكون سببا للحقد والضغينة عليه، كما بدا واضحا على لسان الكثيرين، بمن فيهم أسماء تزعم وصلا بالثقافة والتنوير والمعرفة.

فالرجل في البدء والمنتهي قام بفعل الاجتهاد وأعمل عقله وقلب نظره، وهذا هو الأساس، حينها لا تهم نتيجة ذلك الفعل صوابا كانت أم خطأ، لكنه يبقى لبنة أو خطوة في مسار مشروع إصلاحي انطلق منذ قرون.

 

محمد طيفوري

حقوق النشر: قنطرة 2020

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

 

 

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة

الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!

"القرآن كتاب هداية و ليس وثيقة تاريخية نتعامل معها بمنطق الأركيولوجيا"

الإصلاح الديني في الإسلام: الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!

كيف كان وينبغي أن يكون "تجديد" الإسلام؟

من تحفيز الإصلاح إلى تقوية خصومه...الغرب والإصلاح الديني في الإسلام