الجزائر: المجتمع المدني بين مطرقة الفراغ الدستوري وسندان التهميش التاريخي

استفاقة نوعية شهدها المجتمع المدني في الجزائر في ظلّ ما يعرف بالحراك الشعبي. لكن تساؤلات عديدة مازالت تشغل المراقبين حول ثقل المجتمع المدني الحقيقي في الجزائر ومدى أهمية المبادرات المختلفة التي تنبثق منه للخروج من الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد. رؤية المحلل السياسي الجزائري نور الدين بسعدي لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب:  نور الدين بسعدي 

عرفت الساحة السياسية الجزائرية مؤخرا توالي ما يعرف بمبادرات المجتمع المدني، أو بالأحرى تحت غطاء المجتمع المدني، لحلّ الأزمة السياسية. فمن الندوة الوطنية للمجتمع المدني إلى لجنة "الستّة" للحوار مرورا بمبادرة المنتدى المدني للتغيير، تعدّدت المبادرات وكثرت معها التساؤلات. 

تساؤلات المراقبين تتمحور حول ما إذا كان بإمكان المجتمع المدني أن يلعب الدور المرجو منه في مثل هذه الفترة الانتقالية الحساسة، علما بأنه كان في حالة سبات عميق لمدة عقدين من الزمن على الأقل، أي منذ وصول بوتفليقة إلى الحكم عام 1999. ومن أجل توخي الدقة ينبغي طرح السؤال حول مدى تمثيلية منظمات المجتمع المدني في الجزائر وهل هي قادرة على الوصول إلى خارطة طريق ترضي الجزائريين وتجبر السلطة على الجلوس إلى طاولة حوار جاد؟ 

"حبر على ورق"

في الحقيقة، لطالما أعابت السلطة على المنادين بالتغيير في الجزائر كونهم قوة معارضة فحسب لا تسمو إلى قوة اقتراح. ولهذا اندرجت الندوة الوطنية للمجتمع المدني -التي انعقدت في الخامس عشر من شهر يونيو / حزيران 2019 في خانة الإجابة على هذا النقد وإثبات مقدرة منظمات المجتمع المدني في الجزائر على الحوار والوصول إلى أرضية مشتركة كفيلة بإيجاد حل للأزمة. 

وعلى أرض الواقع وصل المشاركون إلى أرضية مشتركة رغم ظهور خلافات خلال الندوة خاصة حول المرحلة الانتقالية بين من يفضل عقد مجلس تأسيسي يؤدي إلى صياغة دستور جديد وبين من يريد التوجه سريعا إلى انتخابات رئاسية ثم صياغة الدستور والقيام بإصلاحات، وهو ما تريده السلطة الحالية.

 

 

ولكن وبعد أسابيع عديدة من هذه الندوة، بالإضافة إلى حقيقة أن هذه الأرضية المشتركة كان من الصعب الوصول إليها نظرا للتوجهات الإيديولوجية المختلفة، يجدر القول إنها بقيت حبرا على ورق وأن انعكاساتها على الأزمة منعدمة. 

بالتالي، تبقى هذه الأسئلة مطروحة: هل هذا الفشل راجع إلى كون هذه المبادرة، رغم نقائصها، نابعة استثنائيا من المجتمع المدني وأن السلطة في الجزائر ليست متعوّدة على تبني مبادرات ليست شريكة فيها؟ هل الحلّ يكمن في إشراك السلطة في مثل هذه المبادرات مع العلم أن هذه المقاربة لا تخلو من مخاطر الالتفاف والمناورة؟ أم أنه يكمن في مبادرة نابعة من السلطة في اتجاه المجتمع المدني؟ 

يبدو أن المقاربة الأخيرة هي التي اختيرت من طرف ما يدعى بلجنة الحوار التي يترأسها كريم يونس، الرئيس السابق للمجلس الشعبي الوطني عن كتلة حزب جبهة التحرير الوطني خلال العهدة الأولى للرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، مترئسا لجنة متكونة من ستة أعضاء في مرحلة أولى. كريم يونس صرح بأن هذه مبادرة وساطة للحوار بين السلطة والحراك قبل أن يبعث دعوة لما لا يقل عن عشرين شخصية أخرى للانضمام إلى هذه اللجنة. 

ومع أنه هنالك إجماع كبير حول ضرورة الحوار، توجد نقاط أساسية يجب تحديدها مسبقا لكي ينجح: 

"أطراف حوار غامضة"

النقطة الأولى: من هي أطراف الحوار أو بالأحرى من يحاور من؟ يتجلى هنا أن أطراف الحوار لا تزال غامضة. فهل رئيس الدولة المؤقت بن صالح مؤهل للحوار والسلطة الفعلية في يد العسكر؟ 

النقطة الثانية: على ماذا نتحاور أو بالأحرى، ما هي النقاط التي ستدرج في جدول الأعمال؟ الواضح أنه ليس هناك جدول أعمال للحوار يتضمن نقاط واضحة للنقاش؛ 

النقطة الثالثة: ما مدى تمثيلية المتحاورين لأطراف النزاع أو بالأحرى هل هم مفوّضون للتحاور؟ من فّوض اللجنة لكي تتحاور باسم الشعب الجزائري؟ 

 

 

أبدت شخصيات وطنية عديدة -من بين الذين استلموا دعوة الانضمام إلى اللجنة- برفضها لهذه الدعوة نظرا للغموض الكبير الذي يحيط بها وكذلك نظرا لكونها، بحسب هذه الشخصيات، أشبه ما تكون بمناورة من طرف النظام منها بدعوة صادقة للحوار.

 "رصاصة الرحمة لمبادرات المجتمع المدني" 

وفضلا عن ذلك، فإن الخطاب الأخير لقائد أركان الجيش القايد صالح، والذي صرح فيه عن رفض قيادة الجيش الخضوع لأي شرط مسبق للحوار، هو بمثابة رصاصة الرحمة لهذه المبادرة وإعادة التأكيد على الدور المركزي للمؤسسة العسكرية في مواجهة رئيس مؤقت ضعيف ومجتمع مدني يحاول جاهداً فرض نفسه على الساحة السياسية. 

ويجدر التذكير في هذا السياق بأن المجتمع المدني في الجزائر كان مهمشًا تمامًا خلال سنوات حكم بوتفليقة وأنه ليس من السهل عليه إعادة الهيكلة بسرعة ولعب الدور المرجو منه في غضون بضعة أشهر.

وفي الواقع، خلال العقدين الأخيرين، عانى المجتمع المدني من هجمات عديدة من طرف النظام: قوانين تقييدية للجمعيات، حملات التشويه تحت شعار "اليد الأجنبية" ، فتح المجال للمنظمات الموالية والتضييق على المنظمات المستقلة، ...

 

 

"تشكيك إعلامي حكومي بالمجتمع المدني"

ويرى بعض المراقبين أن هناك رغبة من السلطة الحالية في عرقلة أي محاولات لتقارب أحزاب المعارضة وقوى المجتمع المدني من خلال التخويف بمسألة الفراغ الدستوري، كما يتم استخدام بعض وسائل الإعلام الموالية للسلطة للقول إن المنظمات المدنية لا تتمتع بدعم الحراك الشعبي وأنها تملك أجندة خارجية مشبوهة. 

كل هذا لا يسهل من مهمة المجتمع المدني في سعيه للعب دورٍ محوري، أو على الأقل دور الوسيط، في العملية السياسية الانتقالية في الجزائر.  

ويبقى رهان منظمات المجتمع المدني الحقيقة متمثلا في إعادة بناء الثقة مع المواطن الجزائري، والذي أصبح يشكك في كل ما هو نابع من المنظمات التي تبحث بطريقة مشروعة عن حيز لها في الفضاء السياسي والاجتماعي في الجزائر.

 

 

 نور الدين بسعدي 

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019 

ar.Qantara.de