حنة آرندت: أيقونة العداء للشمولية والدفاع عن أولية الحرية

تعد المفكرة والفيلسوفة الألمانية حنة آرندت أحد أعلام الفكر النقدي العالمي، نظرا لتأثير نتاجها الفكري وتميز حضور شخصيتها أكاديمياً وسياسياً. لم تتعامل حنة آرندت مع الإرهاب النازي بصفته تجسيدا "فردانياً" لأيدولوجية تسلب الإنسان آدميته فقط، بل سعت إلى توظيف دروسها في إطار تصوراتها الفكرية التي تنظر إلى الواقع الإنساني خارج أي تأطير فلسفي، فجبروت الحدث تفوق في إدراكها على المفهوم.

الكاتب، الكاتبة : لؤي المدهون

"من يحاول إرضاء الأنظمة التوتاليتارية (الشمولية) كمن يطعم تمساحاً جائعاً آملاً في أن يكون هو نفسه آخر من يفترسه هذا التمساح"

لا تعبر هذه المقولة الشهيرة للمفكرة "اللافيلسوفة" حنة آرندت (1906ـ 1975)، التي تعد من أحد أهم رائدات الفكر السياسي النقدي في القرن العشرين، عن ماهية وجوهر فلسفتها وطبيعة عملها السياسي المعادي لكل أشكال الأنظمة التوتاليتارية فقط، بل إن محطات سيرتها الذاتية تعتبر بحد ذاتها تجسيدا لأهم أحداث وخصائص هذا القرن الدموي. واقتباسا لتحليل المؤرخ الشهير إرنست جيلنر فإن "حياة هذه الناقدة اللاذعة غزيرة الإنتاج الفكري تجسد أيضا جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية".

الحقبة النازية نقطة تحول في حياة آرندت

ولدت حنة آرندت قبل 100 عام في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1906 في مدينة هانوفر في محيط يهودي ألماني محب للأدب والفلسفة، ثم درست الفلسفة في جامعة مدينة ماربورغ، والتي ارتبطت خلالها بعلاقة غرامية مع الفيلسوف الشهير مارتين هايديغر أطلق عليها اسم "علاقة حب القرن العشرين".

لكن الطالبة الموهوبة اضطرت إلى ترك مدينة ماربورغ، لأن هايديغر، الذي اعتبرته آنذاك "ملكاً خاصاً في مملكة التفكير"، كان متزوجا في محيط كاثوليكي محافظ جداً، لتكمل دراستها عند الفيلسوف كارل ياسبرز في جامعة هايدلبرغ، التي قدمت فيها أطروحة الدكتوراه في عام 1928.

جاءت صدمة وصول النازيين الألمان وأيديولوجيتهم الشمولية الفاشية إلى الحكم في ألمانيا في عام 1933 لتشكل نقطة تحول مركزية في حياة آرندت دفعتها إلى الابتعاد عن الفلسفة بمفهومها النظري البحت والتوجه إلى العمل السياسي بشكل عملي.

ففي مقابلة شهيرة أجريت معها في عام 1972 أشارت أرندت إلى السؤال الرئيسي، الذي هيمن على تفكيرها آنذاك قائلة: "لقد قمت بترديد جملة واحدة وهى: عندما يُهاجم الإنسان كمواطن يهودي، فإنه يجب عليه الدفاع عن نفسه كمواطن يهودي، ليس كألماني أو كمواطن أخر. وعمليا يعني هذا: ماذا أستطيع أن أفعل في هذه اللحظة؟".

"لا يوجد حاضر بدون تفكير ثاقب"

وفي صيف عام 1933 اعتقلت المخابرات النازية حنة أرندت، ثم أطلقت سراحها فيما بعد. ثم نجحت هذه "اليهودية الألمانية المطاردة من قبل النازيين"، على حد تعبيرها، في الهروب من براثن النازية الفاشية إلى باريس ثم إلى نيويورك، التي بدأت فيها عملها السياسي الحقيقي، حيث عملت صحفية، ومراجعة لغوية ومحاضرة جامعية.

وفيما بعد وضعت هذه الناشطة صاحبة النظرة التحليلية الثاقبة كل طاقتها وموهبتها في خدمة المنظمات اليهودية العاملة في نيويورك، التي أخذت على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من يهود أوروبا والعمل على إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين التاريخية.

"استكشاف أصول الأنظمة الشمولية"

لكن المكانة المرموقة، التي تتبوؤها حنة أرندت في حقل العلوم السياسية، تعود في المقام الأول إلى كتابها الموسوعي "أصول الأنظمة التوتاليتارية (الشمولية)"، الذي صدر في عام 1951.

ففي هذا المرجع الكلاسيكي وضعت آرندت الشكلين الأكثر بروزا للأنظمة التوتاليتارية وهما النازية الألمانية والستالينية الروسية تحت المجهر، كما شددت على أن "هذه الإيديولوجيات تشكل انبثاقا لظاهرة جديدة جذريا تجبر كل الباحثين على القيام بمراجعة كاملة لأدوات التحليل العلمي المعهودة، علاوة على أنها انعطافة نكوصية لم يشهدها تاريخ الفكر الأوروبي قبل ذلك".

وعلى هذا النحو توضح آرندت أن "الأصالة المرعبة للشمولية لا تنشأ عن أن فكرة جديدة جاءت إلى العالم، وإنما على شرخ جديد سحق كل مقولاتنا السياسية وكل مقاييسنا الخاصة بالحكم الأخلاقي. فجبروت الحدث تفوق هنا على المفهوم".

ورغم فاشية الجوهر الإيديولوجي للنازية والستالينية، إلا أن السمة الشمولية تظهر جليا في هدف هذه الأنظمة، الذي لا يقتصر على الاستيلاء على السلطة فحسب، بل يمتد ليـ"يشمل" كل المجتمع ويجسد التماثل الكامل بين الحزب الحاكم والدولة.

«أصل السياسة هو الحرية» هكذا جاء تعريف آرندت للسياسة، وهو تعريف يجد أسسه في التصور اليوناني للسياسة، الذي ارتبط بدوره بتشكل المدينة اليونانية «البوليس». إن مفهوم الحرية الذي تتخذ منه حنة آرندت جوهرا للفعل السياسي. يرتبط بمفهومين آخرين تعتبرهما ضروريين لإظهار الاختلاف القائم بين مفهوم الحرية باعتبارها هدف السياسة، والمفاهيم الأخرى التي ترتبط بمفهوم السياسة، خاصة حرية التعبير وحرية الإرادة، وهذان المفهومان هما: البراعة، والشجاعة.
«أصل السياسة هو الحرية» هكذا جاء تعريف آرندت للسياسة، وهو تعريف يجد أسسه في التصور اليوناني للسياسة، الذي ارتبط بدوره بتشكل المدينة اليونانية «البوليس». إن مفهوم الحرية الذي تتخذ منه حنة آرندت جوهرا للفعل السياسي. يرتبط بمفهومين آخرين تعتبرهما ضروريين لإظهار الاختلاف القائم بين مفهوم الحرية باعتبارها هدف السياسة، والمفاهيم الأخرى التي ترتبط بمفهوم السياسة، خاصة حرية التعبير وحرية الإرادة، وهذان المفهومان هما: البراعة، والشجاعة.

نقد لاذع للرؤية الصهيونية

ورغم عملها السياسي في خدمة المنظمات اليهودية، إلا أن هذه "المنبوذة الواعية" بقيت ملتزمة بتعاطيها النقدي مع توجهات النخبة اليهودية قبيل ولادة دولة إسرائيل.

فحنا أرندت قامت بتفنيد أسطورة "شعب بلا أرض يحتاج إلى أرض بلا شعب"، عندما أشارت إلى أن "هذا الوطن غير موجود على الخريطة". كما شددت في معرض نقدها المبدئي لاستراتيجية عمل نخبة "الواقعية السياسية الصهيونية"، التي قادها ثيودور هرتزل، على أن "قياديي الحركة الصهيونية تناسوا هذه الحقيقة"، معتبرة أن ذلك يعود إلى "ابتعاد هؤلاء عن المثالية الأدبية اليهودية واندراجهم في لعبة القوى العظمى القائمة على منطق القوة".

وفضلا عن ذلك هاجمت الفيلسوفة الملتزمة أرندت مؤسس دولة إسرائيل دافيد بن غوريون، الذي كان يوصف في المرحلة السابقة لتأسيس إسرائيل بالاعتدال، واعتبرته "أصولي قوموي يحاول الهيمنة على الشعوب المتوسطية ولا يحاول كسب تعاطفها".

فالعمل السياسي يبقي، وفق رؤية حنة آرندت، بالدرجة الأولى مسؤولية أخلاقية تجاه الآخر! كما أن مغزاه الحقيقي يجب أن يتمثل في الدفاع عن حرية وآدمية الإنسان بغض النظر عن المكان والزمان.

 

لؤي المدهون

حقوق النشر: دويتشه فيله 2007

لؤي المدهون، اعلامي وأكاديمي عربي يعمل محاضرا في العلوم السياسية والاسلامية في جامعة كولونيا الألمانية، ومديرا لموقع قنطرة للحوار مع العالم الاسلامي، وهو من المختصين بتحليل الخطاب السياسي والاعلامي في ألمانيا والعالم العربي.