بين دفء "قانا الجليل" ... ووحشية داعش

في قرية «كفر كنا»، والتي تعرف بـ «قانا الجليل»، والتي شهدت معجزة المسيح الأولى بحسب الرواية الإنجيلية حيث حول الماء خمراً، أعلن رئيس البلدية مُجاهد عوواودة بناء عمارة ستحتوي على مسجد وكنيسة ومتنزه، لتعبر عن الإخاء والعيش المشترك في القرية وجوارها الناصري.

الكاتبة ، الكاتب: Khaled Hroub

الإعلام العربي وغير العربي مهووس هذه الأيام بملاحقة الدم الذي يريقه الإرهاب "الداعشي" وتغذية الثقافة "الداعشية" الكامنة هنا وهناك في هوامش البنى الثقافية والاجتماعية والتربوية في مجتمعاتنا. وهذا الإعلام لا ينتبه إلى ما يحدث بعيداً عن ميدان الذبح، وقريباً من قلوب الناس العاديين، وعيشهم المشترك.

فعلى الضد من المناخ الطائفي والإبادي، والتعصب الديني القاتل الذي ينشر أشباح الموت حول الجميع، تعيد قرى «الناصرة»، مدينة فلسطين والمسيح في سفح الجليل، تقديم نموذجها الإنسانوني البديع في العيش المشترك، حيث عاش مسيحيون ومسلمون بمحبة وإخاء في المدينة التي شهدت معجزات المسيح وطفولته وقيامته، وشهدت قدوم الفتح الإسلامي وانتصاراته، وجاورت حطين وشملها صلاح الدين بعباءته.

في قرية «كفر كنا»، والتي تعرف بـ «قانا الجليل»، والتي شهدت معجزة المسيح الأولى بحسب الرواية الإنجيلية حيث حول الماء خمراً، أعلن رئيس البلدية "مُجاهد عوواودة" بناء عمارة ستحتوي على مسجد وكنيسة ومتنزه، لتعبر عن الإخاء والعيش المشترك في القرية وجوارها الناصري. يقول رئيس البلدية، وبحسب التغطية التي وردت في «القدس العربي»، «إن إنجاز هذا الصرح الرمزي الإسلامي ـ المسيحي سيبدأ الشهر القادم (سبتمبر) بعد أن رُصدت ميزانية له، وخصصت قطعة أرض بمساحة ثمانية "دونما".

ويوضح "عوواودة" أن فكرة المشروع انطلقت من "المتاهة" التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط ككل، وتتجلى بأبشع صورها الآن بتنظيم "داعش"، الذي يهدد الحضارة الإسلامية أكثر من كل أعدائها عبر التاريخ ...(و) والمشروع المشحون برمزية كبيرة (يبعث) رسالة أمل مفادها أن هناك حكماء على هذه الأرض يستطيعون تصحيح المسار والانطلاق معاً نحو فجر عربي جديد مسلمين ومسيحيين نابع من مبدأ راسخ "لكم دينكم ولي ديني"، وكل الأديان لله في "كفر كنا" تقاسم المسلمون والمسيحيون الرغيف والهم الواحد والأمل الواحد وجمعتهم التجربة الحلوة المرة وهم على هذا الدرب سائرون».

يعيد لنا "عوواودة" في فكرته المبدعة والجميلة بعضاً من ذاتنا المهدورة يومياً على شاشات التلفزة والممزقة في الصراعات الطائفية التي لم يعد بإمكان أحد أن يستوعبها. ما تستوعبه الفكرة الناصرية والجليلية الجليلة وتنادي به بالفم الملآن أن ليس ثمة بديل عن العيش المشترك سوى الإراقة المتبادلة للدماء، وإلى الأبد! هذا هو درس التاريخ في كل مكان وزمان. حيثما وجدت جماعات تنتمي لاثنيات وأديان وأصول مختلفة تواجدت الصراعات والحروب وسفك الدم. والنتيجة الواحدة واليتيمة بعد كل صراع هي أن على الجميع أن يجد معادلة ما مقبولة تضمن العيش للجميع. بعد المرور بكل التجارب التي دفع البشر كلفاً باهظة لتعلم دروسها، انتقل الفهم البشري من نزعة الإبادة والإقصاء إلى نزعة قبول الآخر والتعايش معه، وإزاحة الفروقات والاختلافات إلى الهوامش مع احترامها، والتركيز على ما هو يومي وحياتي ومشترك.

في منطقتنا العربية اليوم نحن نقف على مفترق طرق مخيف: إما الانجرار إلى الخلف نحو نزعة الإبادة والإقصاء وبالتالي الانخراط في «حرب الكل ضد الكل»، والتي سوف لا تبقي ولا تذر ويخرج منها الجميع، بعد سنوات إن لم يكن عقودا، خاسراً ومدمياً ومدمراً، وإما التيقظ من المآل الرهيب للحروب الدينية والتمسك بخيار العيش المشترك والتنازلات المتبادلة.

«هل أحمل جذوري العربية على كتفي وأرحل عن دياري، لأن مسيحيتي ثقافتها عربية إسلامية؟"

ويتفرع مفترق الطرق ذاك إلى صراعات دينية وإثنية لا يمكن حصرها: إبادة مسيحية على يد "الداعشيين" صراع سُني ـ شيعي طاحن ومدمر، صراع عربي ـ كردي، صراع سني ـ علوي، صراع درزي ـ سني ـ مسيحي. هذا كله من دون أن نشير إلى العنصرية الإبادية الصهيونية التي سعرت في قلب المنطقة صراعاً إسلامياً ـ يهودياً نقض قرون التعايش التي عرفتها المنطقة بين اليهود والمسلمين، من المغرب إلى البحرين مروراً بفلسطين والعراق والشام.

في الجانب المشرق، وفي الرد على الجرائم الداعشية ضد مسيحيي العراق ومسلميه قرأت مقالة جميلة تم تداولها في بعض وسائل الإعلام الاجتماعي من كاتب فلسطيني مسيحي رأيت أن أقتبس منه ولو مطولاً بعض الفقرات التي تعبر أروع تعبير عن جوهر العيش المشترك الذي شهدته المنطقة عندما كان الجميع يتعامل مع الدين والطقوس بصفتها مسلكيات تعزز الإخاء والحياة العفوية، وليس بصفتها سيوفاً تقطع رؤوس المخالفين.

يتساءل الدكتور جمال سلسع في مقالته أو بالأحرى ندائه الحار والمرير:

«هل أحمل جذوري العربية على كتفي وأرحل عن دياري، لأن مسيحيتي ثقافتها عربية إسلامية؟ لن أرحل كمسيحي من بلدي، لأن مسيحيتي ثقافتها إسلامية وأين "العهدة العُمرية" يا أشقائي المسلمين؟ أين دمع المثنى بن حرثة الشيباني النصراني قائد جيوش النصارى في دولة الغساسنة الذي تخلى عن الرومان النصارى، وسار مع سعد بن أبي وقاص بجيشه، وشارك في الفتوحات الإسلامية؟ كيف ألملم معلقاتي الشعرية العربية الابداعية عن حائط عروبتي الثقافية وما زال عمرو بن كلثوم يردد بحضارته وجيشه الكبير ... كيف أنزع عن جلدي ميراث أجدادي وأترك هوائي؟ ومدينتي التي في حاراتها طفولتي، وفي شوارعها رفاق مدرستي، ولما كبرنا نسجنا معا مواقفنا القومية العربية، ضد كل محتل ومستعمر، وعلق أعواد المشانق أجدادي في بلاد الشام على يد جمال باشا السفاح من أجل حرية الأرض العربية؟ ... لماذا لم يقرأ الآخرون حضوري الوطني عندما كانت راية الإسلام التي رفعها الأتراك تدوس لواء الإسكندرون العربي، في حين كانت شوارع الشام بمسلميها ومسيحييها تخرج بمظاهرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ومن كنائس الشام وأجراس المشرق، بعد أن أقفل الأتراك كل جوامع الشام لمنع التظاهرات ضد استلاب لواء الإسكندرون، حيث تحولت كل الكنائس إلى جوامع، ووقف خطيب المسلمين في محراب المسيح يلقي خطبة الجمعة، وصعد المؤذن إلى قبة الناقوس يرفع الآذان. فلماذا تغلق العيون أمام هذا التاريخ؟ ولماذا تصم الآذان عن صوت عروبة آت من أعماق التاريخ؟».

 

خالد الحروب

حقوق النشر: قنطرة 2017