الحياة في القاهرة - مصر
القاهرة تكشف محاسنها لصحفي عربي مهاجر

حين تحلق الطائرة فوق القاهرة يخال المسافر نفسه فوق بلد كبير متصل الأنوار، فأضواؤها متناثرة على مساحة شاسعة، وعند الهبوط تشد الزائر نظافة المطار وحسن ترتيبه. ملهم الملائكة وتأملاته من القاهرة.

المطار يحكي قصة بلد متحضّر - مطار القاهرة كما رأيته، مرتّب نظيف وكل شيء فيه تقريباً يضاهي المطارات الدولية. السيارات الكهربائية تعرض خدماتها للمحتاجين مجاناً والممر السيار يتلقاك في كل مكان ويخفف عنك عبء السير، وحين تسأل يجيبك الجميع بلا أطماع. لم يحاول أحد العاملين أن يرتشي بافتعال مشكلة تعيق حصولي على تأشيرة الدخول والإقامة كما هو الحال في أغلب مطارات الدول الفاسدة، والعمل يجري في كل مكان على قدم وساق.

القصة كما تراها بعينك غير القصة الشائعة. لكنّ ما أن يغادر المرء المطار حتى تصدمه تفاصيل التفاوت الطبقي الشاسع، فيتحسس بسرعة مستوى انسحاق الشريحة الأوسع في المجتمع بسبب التضخم وتهاوي قيمة الجنيه المصري.

السائق الذي أقلني برحلة استغرقت نحو ساعة، كان موظفا متقاعدا تجاوز السبعين من عمره جعل من سيارته الخاصة سيارة أجرة وما برح يروي لي قصصاً عن تردي الوضع الاقتصادي في البلد.

ترجلت في وسط البلد الساعة الحادي عشرة ليلاً، والناس يجيبون عن أسئلتي بلا تردد. حال أن وضعت قدمي على الرصيف تناهي إلى سمعي من محل قريب صوت صارخ من ماضٍ ملون "رميت الورد طفيت الشمع يا حبيبي"، عبد الحليم في كل مكان، وحالما عبرت عتبة الفندق صافحني نور كوكب الشرق وهي تشدو "ياما هانت لك وكانت كل مــرة....تمحي كلمة من أماني فيك وصبـــري".  كل هذا ينقلني بعيداً عن توتر العصر الرقمي، ولكنه يعني فيما يعني إدانة لجديد الفن المصري الذي لم يستطع أن ينزع من قلوب الناس الفن العتيق.

فندق بتسهيلات غربية شرقية والسعر حسب الطلب!

يسكن الفندق ذا النجوم الأربع خليط يضم سياحاً غربين جلّهم من ألمانيا، علاوة على عدد من المصريين العائدين من بلدان غربية وأوروبية، ومصريون يسافرون بين المحافظات المصرية. وما يلفت النظر أنّ  الفندق مقسّم إلى جناح للمسافرين الغربيين يتميز بأشياء عدة منها المرحاض والحمام الغربيين بسعر أعلى طبعا، وإلى جناح شرقي بسعر أقل وخدمات شرقية ترضي الزبائن، وكان ملفتاً للنظر أثناء تناول فطور الصباح مشهد الغربيات وهن يتناولن فطورهن بالشورتات وملابس النوم، بإزاء المنقبات وهن يعطين ظهورهن لباقي المسافرين كي يرفعن نقابهن ويتناولن طعام الفطور.

الهرم الأوسط في الجيزة - القاهرة - مصر. الصورة: ملهم الملائكة
الهرم الأوسط في الجيزة.

{زائر القاهرة يجب ألا ينسى زيارة منطقة ملتقى الأديان بمصر القديمة، وفيها كنائس ومتحف قبطي ومعبد يهودي ويتصدرها جامع عمرو بن العاص الأثري، ولكل من هذه المعالم قصة يلزمها كتاب.}

وما أن يخرج الزائر إلى ميدان طلعت حرب حتى تجتذبه عراقة المشهد، فعمارة يعقوبيان الشهيرة ما زالت مكانها، لكنّ أحدا لم يستطع أن يؤيد لي مكانها بالضبط، فيما تحولت مرطبات وحلويات جروبي الشهيرة إلى أطلال وأسدلت عليه ستائر زرق فاتحة اللون، وكما يبدو فالبناية تحت الترميم، فيما احتلت مكتبة مدبولي الأشهر في العالم العربي وثقافته موقعها المعتاد المطل على الميدان، وهي مكتظة بالمتبضعين والمتفرجين والعابرين الفضوليين من أمثالي.

الزائر يلاحظ بوضوح جزئيات الفروق الطبقية في المجتمع المصري، فمحلات الملابس الأنيقة في شارع الشواربي التي تعرض ألبسة من ماركات عالمية بأسعار غالية تضاهي أسعارها في أوروبا، تقابلها محلات بيع الملابس المحلية في شارع القصر العيني والطرق المتفرعة عنه.

في شارع الشواربي علقت على أغلب المحلات إعلانات الجمعة السوداء (Black Friday) التي تشير إلى موسم تنزيلات ساخن أسوة بالجمعة السوداء التي عُرفت في الولايات المتحدة الأمريكية بعد عيد الشكر للدلالة على تخفيضات كبيرة جدا تخلق تسابقا بين الزبائن على الشراء.

في المقابل ابتكر بعض المصريين الظرفاء تعبير الجمعة البيضاء لتعريب النسخة الأمريكية، ويرى المرء لافتات كتب عليها (White Friday)، ولدى سؤال بعض العارفين عن سبب هذا التعريب، قالوا إنّ الجمعة يوم مقدس لدى المسلمين، ومن المعيب وصفه بأنه يوم أسود، لذا ابتكروا تقليعة "الجمعة البيضاء" كتعبير عن أسبوع من التنزيلات بنكهة مصرية.

مقاتلة من طراز ميغ في المتحف الحربي المصري - القاهرة - مصر. الصورة: ملهم الملائكة
مقاتلة من طراز ميغ في المتحف الحربي المصري.

{سأل ملهم الملائكة كاتبَ سيناريو مصرياً في القاهرة حول فشل ما يسمى بالربيع العربي في مصر فأوجز وهو متردد بالقول: "مصر كانت فلّاحة على مدى التاريخ ... لذا ظهرت طبقة وسطى قوية هي التي قاومت ما عرف بالربيع العربي، والجنرالات أيضا أبناء هذه الطبقة".} 

المتحف الفرعوني وقلعة صلاح الدين

في اليوم التالي زرت المتحف الفرعوني المصري، وهو متحف خالص لآثار الفراعنة لم يخلطوا به تاريخ مصر القبطية ولا الإسلامية ولا الفاطمية ولا القومية. ويلزم من يريد حقا التعرف عليه أياما عدة لتأمل آثاره وقراءة التعليقات عليها، ويلفت النظر كمّ الزوار الذين يدخلونه، وبينهم تلامذة مدارس يقومون برحلات مدرسية منتظمة إلى المكان.

وهالني كمَّ الآثار المحافظ على نفسه، ومدى احترام المصريين لتاريخهم. على الباب "تذكرة الدخول للمصريين والعرب 10 جنيهات، وللكاميرا 20 جنيها، وللأجانب 240 جنيها "!! هكذا يحفظون الحب لأهل بلدهم وللعرب، ظننت أنّ عصر القومية قد فاتنا، لكنّ مصر ما برحت تحتفظ بالحب للعرب وتميّزهم.

أما قلعة صلاح الدين الشهيرة التي تستقر فوق جبل المقطم، فيلزمها هي الأخرى يوماً كاملاً للتعرف على محتوياتها. ونظرا لتباعد أماكن المتاحف والقاعات في القلعة، لابد لزائر المكان أن يستخدم سيارة كهربائية للتنقل يدفع عنها 20 جنيها للمصريين وأغلى من ذلك لغير المصريين والعرب.

للقلعة عدة أبواب منها باب المقطم المغلق الضائع، والباب الجديد والباب الوسطاني وبوابة المتحف الحربي التي تعرف أيضا بباب القلعة، علاوة على ما قيل لي أنه باب العزب القتالي المخصص لإلقاء الزيت المغلي على الجنود المهاجمين في زمن حروب القلاع.

قلعة صلاح الدين فوق جبل المقطم - القاهرة - مصر. الصورة: ملهم الملائكة
قلعة صلاح الدين فوق جبل المقطم.

{مصر ما برحت تحتفظ بالحب للعرب وتميّزهم}.

من جملة الآثار داخل القلعة معروضات المتحف الحربي ومتحف الشرطة، وفيها مدافع من أعمارٍ وأعيرة مختلفة وطائرات روسية بعضها خرج عن الخدمة في الجيش المصري، وصواريخ أرض جو وقذائف طوربيد بحرية، ودبابات ومدرعات وشاحنات من أعمار مختلفة. المتحف الحربي هو في الحقيقة ثكنة عسكرية، وكلما سعى الزائر للتصوير طلب منه الجنود المنتشرون في أرجاء المتحف ألا يصورهم لأنّ ذلك ممنوع.

أما متحف الشرطة ففيه عجائب السجون والزنزانات الشهيرة عبر العصور، علاوة على صور لسفاحين وقتلة ولصوص معروفين في مصر، بينهم ريا وسكينة وصور لرجال أمن من العصر التركي وما بعده، بأزياء ورتب مختلفة، فوق ذلك يعرض المتحف نماذج لأسلحة حقيقية استخدمت في عمليات اغتيال، وأسلحة استخدمتها أجيال من الشرطة ومن يمثلهم عبر العصور.

النيل بسفائن الليل العامرة

ذات ليلة أقام لنا الفندق الذي نسكنه رحلة نهرية بسفينة من خمسة طوابق في النيل مرفقة بحفل ومائدة مفتوحة. أغرب ما في الرحلة/ الحفل خلوّها من المشروبات الكحولية، وكان الحاضرون يأكلون الرز واللحم، ويحلّون بالبقلاوة المصرية، ويتمايلون طرباً مع فقرات الحفل الغنائية وهم يرشفون جرعات الكولا! والأغرب، أنّ عُشر المدعوات كنّ يرتدين النقاب، وما أن ظهرت الراقصة الشرقية نصف العارية وهي تتلوى على أصوات الموسيقى والطبول والدفوف على ظهر السفينة، حتى تدفقت نحوها المنقبات وهن يصورنها فيديوياً، وعند انتهاء وصلتها حرصن على التقاط صور تذكارية معها، إنه حقاً الجانب الآخر من حياة المصريين.
 
النيل ومراسي الزوارق قرب برج الجزيرة - القاهرة - مصر. الصورة: ملهم الملائكة
النيل ومراسي الزوارق قرب برج الجزيرة.
 
تلا الراقصة درويش بملابس ملونة مضيئة، قدم رقصات دراويش مبهرجة عديدة، وحرص عدد كبير من المدعوين والمدعوات على التقاط الصور معه، والملفت للنظر حقا أنّ أطفالا بأعمار بين سنتين وبين 14 سنة كانوا يسهرون مع أهلهم والحفل الراقص والتقط بعضهم صوراً مع الراقصة والدرويش والفرقة الموسيقية.

بعد الحادية عشرة، صعد جميع الراغبين في التمتع بمناظر النيل والقاهرة ليلاً إلى سطح المركب. فقامت حفلة من نوع آخر، وافتُتحَ بارٌ تحت مظلة وسط سطح السفينة وهو يقدم مشروبات روحية ومشروبات خفيفة. خارج الحفل الرسمي وبلا موسيقى بادرت إحدى المدعوات (كما يبدو) بالغناء، وحشد من النساء والرجال يرددون وراءها مقاطع من أغاني أم كلثوم. كانت سيدة في منتصف الثلاثينات، وتتجرع بين الأغنيات كؤوسا من فودكا من زجاجة غورباتشوف وضعت أمامها. وفي رحلة عودة المركب، رددت المغنية الجميلة النشوانة غير المحترفة بصوت رائع أغنية عراقية جميلة وكانت تلك مفاجأة لأغلب السامعين. 

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة

تعليقات القراء على مقال : القاهرة تكشف محاسنها لصحفي عربي مهاجر

حقاً لا تكفي زيارة ولازيارات لتكشف مصر عن و
جهها . شكرا للجولة الصحفية التي نقلتنا إلى مصر مختلفة عما يقوله الإعلام. أظن الكاتب سيعود قريباً إلى أم الدنيا.

عباس الخشالي24.12.2018 | 17:11 Uhr

المحاسن التي تكلم عنها التحقيق الصحفي الرشيق، تثير ألما عندنا نحن المصريين..فنحن لا نستطيع أن نتذوق ما في بلدنا بسبب الغلاء. المصري مواطن يسحقة التضخم. بالنسبة لمن يأتي من أوروبا كل شيء رخيص وسهل وجميل، اما بالنسبة لنا، فكل شيء صعب وغالي، والمصري يشتغل في عملين او ثلاث يوميا ليضبط امور حياته الأساسية. يعني الايجار والخبز واللحم المواصلات والكهرباء والماء. الطبقة الوسطى التي تكلم عنها المثقف المصري والتي حفظت مصر من"الربيع العربيط على حد وصفه، لا تملك ان تأكل لحمة إلا مرتين أو ثلاثة في الشهر، وهذا ليس من المحاسن إلا للغرباء الذين بوسعهم ان يأكلوا اللحم 3 مرات يوميا لو شاؤوا، اما أهل ابلد فينتظرون محاسن الله عليهم.

معن عبد العزيز معن25.12.2018 | 12:23 Uhr

مصر اكثر عراقة انها موغلة في القدم، عندما تسير فيها تاخذك لاحداث التاريخ لان شواهده مبنية بالحجر ولم تختفي، الا ان المطبخ المصري لا يعادل المطبخ الشامي والعراقي، هو لذيذ لكنه ليس مثيرا مثل البقية.

Hazim Al-Sharaa26.12.2018 | 13:24 Uhr

في منطقة الهرم،أصحاب الجمال والخيول عصابات، ويجب الحذر في التعامل معهم، فهم يفعلون كل شي في سبيل المال، والناس تتذكر واقعة الجمل في القاهرة عام 20111، حيث منح كل منهم 50 دولارا ليحول ساحة التحرير إلى ساحة حرب. هؤلاء عار على بلدنا

لميا خضر27.12.2018 | 14:46 Uhr

الكاتب يتحدث عن القاهرة كأنها مدينة غربية! يجب أن يزور الفسطاط والباطنية واحياء مصر القديمة وعشوائيات القمامة ليعرف حقيقة القاهرة. إنها مدينة قذرة يعلوها الزبالة والغبار، وتعاني من اختناقات مرورية في كل مكان، ولكي تصل من مدينة نصر إلى قلب القاهرة تحتاج ساعتين. والأزمة الاقتصادية تخنق الناس.

توفيق رشاد وفيق03.01.2019 | 16:58 Uhr

للمعلقين معن عبد العزيز معن، لميا خضر، توفيق رشاد وفيق..الشكر متصل لقراءتكم وتعليقكم، وأنا لا أدعي أنّ مصر خارقة المحاسن، بل أقارنها ببلدان عربية عديدة زرتها، ومن بينها بلدي الأم، فوجدت مصر متفوقة بنسبة كبيرة. لا يمكن مقارنة مصر باوروبا، لكن يمكن مقارنتها بمن حولها، وهي في نظري متقدمة عليهم جميعا في كثير من الميادين. يهمني حقا أن أسمع المزيد لآخذ كل التعليقات بنظر الاعتبار في ريبورتاجي المقبل عن مصر.

ملهم الملائكة 04.01.2019 | 16:18 Uhr