رحلة قروي في البحث عن الله

الروائي والشاعر والطبيب اليمنى مروان الغفوري كاتب رواية "خمسة منازل لله وغرفة لجدتي".
الروائي والشاعر والطبيب اليمنى مروان الغفوري كاتب رواية "خمسة منازل لله وغرفة لجدتي".

ذكريات شاب بمدينة تعز يؤرخ لحقبة التسعينيات حين كانت أحزاب سياسية وحركات دينية تتنافس على حشد التأييد. أماني الصيفي قرأت لموقع قنطرة رواية مروان الغفوري وتكتب عن الفكاهي والمقدس فيها.

الكاتبة ، الكاتب: أماني الصيفي

تتناول رواية "خمسة منازل لله وغرفة لجدتي" -التي ستصدر- للروائي والشاعر اليمني مروان الغفوري رحلة شاب قروي في البحث عن الله، فتشتبك مع الواقع الاجتماعي والسياسي لليمن منذ التسعينيات، وتستعرض العلاقة الشائكة بين الفَكِهِ والمقدس في الثقافة العربية/ الإسلامية في محاولة لاستحضار أوجه اليسر والسرور في الإيمان وممارسة التدين وتعزيز التعددية وقبول الآخر في الثقافة العربية/ الإسلامية.

الإيمان والفكاهة وصوت المرأة بين القرية والمدينة

سيصدر قريباً للروائي والشاعر والطبيب اليمنى مروان الغفوري رواية بعنوان "خمسة منازل لله وغرفة لجدتي". تنتقل أحداث الرواية بين مدينة تعز وإحدى القرى الجبلية التابعة لها وتروى على لسان شاب قروي يسترجع فترة انتقاله إلى المدينة لاستكمال المرحلة الثانوية.

هناك في  المدينة تبدأ رحلة الشاب في البحث عن الله أو ما يعنيه حقيقة الإيمان وكيفية تعامل المسلم مع احتياجات الإنسان النفسية ورغباته في هذه المرحلة العمرية.

غلاف رمزي لرواية "خمسة منازل لله وغرفة لجدتي" (قبل صدورها) للروائي والشاعر والطبيب اليمنى مروان الغفوري.Roman Cover Arabisch Symbolbild
غلاف رمزي لرواية "خمسة منازل لله وغرفة لجدتي" (قبل صدورها) للروائي والشاعر والطبيب اليمنى مروان الغفوري: يتناول القسم الأول من الرواية ذكريات شاب قروي مع أهل مدينة تعز في اليمن وفيه يؤرخ الشاب لحقبة التسعينيات من القرن العشرين حيث كانت تتنافس الأحزاب والحركات الدينية على حشد التأييد "جماعة الإخوان المسلمين، السلفيين والتبليغيين وكذلك كان حضورا للمتصوفة". وهي مرحلة من التيه والانقسام حول معنى الإيمان وممارسة التدين لم يعرفها الشعب اليمني وخصوصا من جاءوا من القرى التي يغلب عليها إيمانٌ شعبي بسيط لا يقسم إلى طوائف وأحزاب كما تصور كلمات الرواية القروي الشاب. ... أما القسم الثاني من الرواية فيشتبك فيه عالم القرية بعالم المدينة من خلال سرد حكاية مرض قد أصاب الجدة القروية في كبرها ... كان كلام الجدة هنا سلطة تتحدى كلاً من الجد -الذي منعها من قص هذه الحكايات في القرية فأصابها المرض- والمدينة الممثلة لـِ "الثقافة العالِمَة" والتي غيبت القص والحكاية وأخبار العامة مكتفية بالقرآن وحكاياته، وفق ما تكتب أماني الصيفي.

والرواية من خلال هذه الرحلة ترصد الواقع السياسي والاجتماعي في اليمن المعاصر من خلال استحضار أوجه الاختلاف والتشابه بين الحياة الاجتماعية وممارسة التدين في القرية والمدينة حيث يلتقي عالم الرواية وعائلته بتراثهم وتدينهم الشعبي الفطري مع باقي شخصيات الرواية في المدنية والتي تمثل هيمنة خطاب وسلطة الأحزاب والجماعات الدينية على اختلافها في هذه الفترة.

تقع الرواية في تسعة عشر فصلاً يمكن تقسيمها إلى قسمين:

بين الإخوان والسلفيين والتبليغيين والمتصوفة

يتناول القسم الأول من الرواية ذكريات الشاب مع أهل المدينة وفيه يؤرخ الشاب لحقبة التسعينيات من القرن العشرين حيث كانت تتنافس الأحزاب والحركات الدينية على حشد التأييد "جماعة الإخوان المسلمين، السلفيين والتبليغيين وكذلك كان حضورا للمتصوفة".

وهي مرحلة من التيه والانقسام حول معنى الإيمان وممارسة التدين لم يعرفها الشعب اليمني وخصوصا من جاءوا من القرى التي يغلب عليها إيمانٌ شعبي بسيط لا يقسم إلى طوائف وأحزاب كما تصور كلمات الرواية القروي الشاب.

يقول: "سقطت من القرية إلى جزيرة من المؤمنين. كل يصلي على طريقته. ربما ليس إلى الله ولا إلى الحقيقة ولكن للسر بكل تأكيد".

واللافت هنا أن السرد لا يشيطن الأشخاص المنتمين لأي من هذه التوجهات الدينية المختلفة لشر كامن فيهم، بل يلجأ للنكتة والدعابة لنزع هالة الخصوصية والقداسة عنهم وتصويرهم كأشخاص عاديين فيهم الخير والشر لغيرهم وكأن انتمائهم للجماعة/ الحزب لأغراض وأسباب دنيوية مختلفة سواء كانت اجتماعية و/أو سياسية و/أو فردية.

سلطة كلام الجدة -سلطة المتكلم على السامع- صوت المرأة المهمَّش

أما القسم الثاني من الرواية فيشتبك فيه عالم القرية بعالم المدينة من خلال سرد حكاية مرض قد أصاب الجدة القروية في كبرها، إذ أصبحت ترى الموتى وتكلمهم.

ترتبط أحداث هذا الجزء بشخصيات المدنية في الجزء الأول من خلال تدخل الأشخاص في محاولات علاجها الجدة من مرض عجز عن معالجته كل من رجال الدين في المدينة وأطبائها.

وفي قلب ساخر للأحداث يصور الكاتب كيف شفيت الجدة عندما استعادت السلطة في الحكي بعد أن منعها الجد من سرد حكايتها في القرية.

في غرفة في المدينة في بيت شمس الدين الصوفي تلتف النسوة حول العجوز القروية ويستمعن إلى قصصها التي تخلط التدين الشعبي والمقدس بالخرافة والتاريخي فتستعيده بذلك الجدة على غرار شهرزاد (أو بنت المدينة) صوت المرأة المهمش.

كان كلام الجدة هنا سلطة تتحدى كلاً من الجد -الذي منعها من قص هذه الحكايات في القرية فأصابها المرض- والمدينة الممثلة لـِ "الثقافة العالِمَة" والتي غيبت القص والحكاية وأخبار العامة مكتفية بالقرآن وحكاياته.

فكما يقول الجابري في كتابه "بنية العقل العربي" إن "الكلام قبل كل شيء سلطة. سلطة المتكلم على السامع التي لا تقل عن سلطة الحاكم على المحكوم" (ص. 30-31). تنتهي أحداث الرواية بمشهد سريالي يصف فيه الراوي صعود روح الجدة إلى السماء بأسلوب شاعري مهيب.

الضحك وممارسة التدين

والنص يستخدم الضحك والفكاهة كأحد عناصرالسرد وثيمته الرئيسية كآلية هادفة يقوم فيها النص الأدبي بعملية إسقاط لنقد بعض النظم الدينية والاجتماعية المستبدة. فقد ذُكرت كلمة "ضحك" ومشتقاتها في النص اثنتين وتسعين مرة وكلمة "نكتة" ست مرات.

جاءت هذه الكلمات في سياقات مختلفة لتعبر أحيانا عن السخرية المباشرة من شخصيات "متدينة" أو مجازًا عن انسداد واقع سياسي واجتماعي، أو حتى تعبيرًا عن السرور والبهجة  التي نتجت عن بساطة جوهر الشخصية اليمنية.

والضحك هنا ليس مضاداً للبكاء بل للحزن، وهو كذلك بعيد كل البعد عن المعصية، فكلمة "الكفر" مثلا ذكرت مرة واحدة مرتبطة بالخوف من الله بدلاً من حبه وإجلاله.

الفكاهة كآلية للتفكيك والاستنطاق

يعتمد الكاتب الفكاهة كآلية للتفكيك والاستنطاق في النص، بحثا عن المعاني المصرح بها أو المسكوت عنها في الثقافة اليمنية، إذ يصبح الفضاء العام للرواية هو الدعابة والفكاهة كإطار تتحرك فيه الشخصيات الروائية أو التي تمثل كلا منها اتجاها فكريا دينيا أو حتى اجتماعيا، فيقف القارئ -من خلال "الفَكِهِ" كأسلوب في السرد وكموضوع له- على تباين هذه الشخصيات وتوجهاتها وطباعها.

مؤذن مؤمن مزَّاح جمع حوله عامة الناس وحتى السلفيين

يتبع السرد أزمة "الأخ يونس" وهو شخص مزاح كان عليه أن يترك النكات ليمثل شخصية مؤذن المسجد الجاد كما ترى السلفية. يقول الراوي: "توقفَ عن ترديد النكات أمام الناس. ثم عاد إليها خلسة دون الإشارة للأمويين".

لكن المؤذن المزَّاح استطاع من خلال نكاته أن يجمع السلفية أنفسهم حوله بدلا من أن يتخلى هو عن الضحك والنكات: "لاحظ أبو والية أن السلفيين صاروا يتداعون مثنى وثلاثى، إلى نكات الأخ الجديد بعد أن أخفى العباسيين ووضع آخرين مكان الأمويين. كانت نكتة الموسم حين قال لإخوانه السلفيين وهم يدردشون بين صلاتي المغرب والعشاء" وقف رجل من جماعة التبليغ وألقى موعظة عن الدعوة إلى الله وقال حديث في الخروج. سمعه أخ سلفي كان بين الحاضرين فعارضه قائلا هذا حديث ضعيف. فما كان من التبليغي إلا أن قال: إذا خرجت معنا فسيصبح الحديث قويا -بإذن الله-".

نالت النكتة استحسان قوم أبي والية، وصاروا يعيدونها على أنفسهم وقد وضعوا الصوفيين مطرح التبليغيين. قال لهم أبو والية: هكذا نخرج من دائرة الإثم".

جماعات وفئات دينية متناحرة تقصي كل منها الأخرى

وهنا النكتة ليست وسيلة للضحك المقصود منه التسلية والترويح عن النفس بل كذلك لكشف النقاب عن الشقاق بين هذه الجماعات والفئات الدينية المتناحرة وإقصاء كل منها للأخرى من خلال السخرية منها.

ثم يتطرق النص للضحك والجماعة مرة أخرى من خلال شخصية "الأخ يونس" الذي ينتقل إلى جماعة الإخوان "وهناك يجد نفسه يضحك وحيدا في إيحاء إلى الشك في الانتماء لأهداف المجموعة الواحدة والتوحد في الشعور المشترك بالوضع الراهن للمجتمع حيث يفقد الضحك وظيفته" كأمر جماعي واجتماعي في الوقت ذاته "كما تقول الباحثة ليلى العبيدي في كتابها الفَكِهُ في الإسلام"(ص. 168).

يقول الراوي: "يونس، الأخ، يتوجس من جماعته التي تتركه يضحك بمفرده. الأخ يونس يضحك حتى على نوائب الدهر، بل تجرأ على القول إن الضحك يمحو الذنوب. جماعته لا ترى في الضحك مصلحة. قال لي: بالطبع لا يقولون لي لا تضحك، ولكن ليس بمقدوري أن أضحك لوحدي حتى آخر العمر. لماذا لا يضحك الإسلاميون؟ سألته. لو ضحكوا فسينسون ما عزموا عليه"، قال.

 

 

ولما سألته عما عزموا عليه قال "لو عرفت فلن أضحك". في النص يصبح الضحك إذن وسيلة لمعرفة الذات والآخر "المتدين" فنتعرف من خلال حضور الضحك في السرد على نفسيات الشخصيات وأيدولوجياتهم، ليكشف النقاب عن تلك العلاقات في المجتمع.

الضحك والمقدس

لا يستحضر النص هنا النكتة والفَكِهَ لنقد وضع اجتماعي أو سياسي أو نفسي فقط، ولكنه يغوص في استحضار العلاقة الشائكة بين المقدس والضحك والحياة الدنيوية في محاولة لنشر السرور والبهجة ولإيصال وجه سمح للتدين والايمان في واقع راهن يهيمن عليه العنف والتعصب.

ترى الباحثة ليلى العبيدي أن الديانات السماوية قد وقفت موقفا متزمتا من حضور الهزل والضحك، فإله اليهود مثلا لم يظهر ضاحكا إلا "للاستهزاء والبطش بالاعداء"، أما إله المسيحية فلم يظهر ضاحكا قط. يختلف هذا الموقف من الضحك والفَكِهِ عن رب المسلمين الذي "أضحك وأبكى" وظهر في الأحاديث النبوية ضاحكا مبشرا بالخير فعن أبي رزين قال، قال رسول الله ﷺ: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره قال قلت يا رسول الله أو يضحك الرب قال نعم قلت لن نعدم من رب يضحك خيرا"، ابن ماجة، السنن المقدمة حديث رقم ۱۷۷؛ أحمد، المسند، مسند المدنيين.

حضور قوي للضحك والفكاهة في الثقافة العربية والاسلامية في فتراتها المبكرة

وكذلك روت العديد من الأحاديث صورة النبي يضحك حتى "بانت نواجذه" يضحك النبي مع زوجاته، وأصحابه وحتى الأطفال في الشارع.

ورغم هذا الحضور القوي للضحك والفكاهة في الثقافة العربية والاسلامية في فتراتها المبكرة -كما في أعمال المتفقهين والعلماء مثل الجاحظ أو أبي حيان التوحيدي أو أبي اسحق الحصري أو ابن الجوزي- لكن الفصل بين المقدس والجد كتمثيل للثقافة العالِمة والخير في مقابل المدنس والهزل أوالفكاهة كتمثيل للطبقات الشعبية والشر قد جاء في مراحل تالية كانت فيها الحضارة الاسلامية في حالة من الضعف ففرضت الرقابة على الهزل والفكه ونهت عنه خشية من أن "يضيع الدين في متاهات اللهو"، مما تسبب في تغييب وجه هام من أوجه التدين والثقافة وهو الفكه وإدخال السرور في الأنفس ونشره في الثقافة، كما تؤكد ليلى العبيد في تتبعها لحضور الفكه في الثقافة الاسلامية.

مؤذن طيب تحول بين السلفية والإخوان فتغيرت عباءته ولكنه لم يترك يوما ضحكته ومزاحه

هنا بالعودة لسياق الرواية يعيد الكاتب إلى الأذهان إمكانية الجمع بين المقدس والضحك من خلال شخصية المؤذن الطيب "الأخ يونس" الذي تحول بين السلفية والإخوان فتغيرت عبائته ولكنه لم يترك يوما ضحكته ومزاحه فكانت سببا في قبول الناس عليه خارج المسجد وداخله، وكذلك قربه من الله بل وكان بشاشته وضحكته واقية للمدينة من كل مصيبة قد تلم بها كما يقول الرواي.

فيقول "لم أرَ أحداً شديد القرب من الله مثل الأخ يونس، ولم يكن يصل إلى هذه المكانة تلك عن طريق العبادة أو التأمل. كان يضحك عاليا، يملأ المدى بضحكته، وكان هذا هو القرب... كانت ضحكة الأخ يونس هي الأعلى حتى بعد أن يتغير الزمان إلى الحروب والأوبئة وتتداخل المساجد ستكون ضحكة أبي حذيفة السلفي هي الأعلى في كل المدينة، وهي ما سيحمي المدينة والناس في سنة النازلة".

 

 

وختاما فرواية "خمسة منازل لله وغرفة لجدتي" تقدم أنموذجا لأدب يصبح الضحك والفكه فيه آلية وفلسفة في معرفة الذات والآخر "في الثقافة اليمنية/ العربية/ الإسلامية المعاصرة، فنتعرف من خلال حضور الضحك في السرد على نفسيات الشخصيات وأيدولوجياتهم في هذه الحقبة التاريخية.

ففي هذا النص يلتقي العديد من الشخصيات والحكايات في محاولة لتقديم مسألة الإيمان وممارسة التدين ببراعة تجمع ما بين العمق والذكاء والفلسفة من جهة، والخفة والهزل والمرح والفكاهة من جهة أخرى.

لكن الكاتب عمد إلى نقل أفكاره بأسلوب عميق حضر فيه فيه الرمز والاستعارة والكنايات واللعب بالألفاظ ينم عن ثقافته الواسعة وخياله الخصب ولكنه يحتاج إلى قارئ صبور متمرس يستطيع قراءة ما خفي بين السطور وتستر خلف الكلمات والصور الشعرية والفلسفية وربما كان هذا الأسلوب غير المباشر والتوريات وسيلة الكاتب ليفتح النص على متعدد التأويلات ليتماشى مع رسالة الكاتب حول تعزيز التعددية والانفتاح على الآخر.

 

أماني الصيفي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de