سؤال الطائفية هو سؤال الهوية...العلمانية ليست حلاً للمسألة الطائفية

ينتقد الكاتب موريس عايق الربط المباشر بين العلمانية والطائفية، واعتبار الأولى حلاً مباشراً للثانية، لأن ذلك لا يكتفي وحسب بخلط مسائل متباينة بعضها ببعض، بل قد يخدم كعباءة أيديولوجية في تزييف وتغذية النزاع الطائفي والمقوِّض لمجتمعات المواطنة في الدول العربية.

الكاتبة ، الكاتب: موريس عايق

هناك العديد من التعاريف المقترحة للعلمانية: فصل الدين عن الدولة، أو الفصل بين الدين والمجال العام (أو السياسي)، أو فصل الدين عن مصادر السيادة. على رغم التفاوت بين هذه التعريفات، فإنها جميعها تدور حول موضوعة مركزية وهي الدين وحضوره في المجال العام باعتباره موضوع العلمانية.

في المقابل، فإن المسألة الطائفية تدور حول موضوع مغاير تماماً وهو الهوية الوطنية، تحديد هوية الشعب والحدود، التي تعين الجماعة وحق الانتماء إليها. سؤال الطائفية هو سؤال الهوية.

في الحالة الطائفية يصبح الانتماء الديني أو المذهبي محدداً للانتماء للجماعة. ما يحضر هنا ليس الدين بوصفه اعتقاداً، بل بوصفه انتماء. ففي الحالة الطائفية يكون المرء شيعياً، مثلاً، إذا ولد لعائلة شيعية وبمعزل عن اعتقاده الديني حتى لو كان ملحداً، فهو شيعي بغض النظر عن رأيه واعتقاده. لكن مسألة العلمانية لا يمكن تحديدها من دون العودة إلى آرائه حول المعتقد الديني وحضوره العام، وبمعزل عن أصوله الطائفية والمذهبية.

"المسألة المركزية للحفاظ على تماسك المجتمعات هي عدم تكريس أي نوع من السياسات التمييزية على أساس الانتماء الديني أو الجهوي أو حتى الإثني"

على هذا الأساس يمكن لنا الحديث عن حالات علمانية وطائفية في الوقت ذاته. مثلاً، إرلندا الشمالية: على رغم أنها علمانية ولا يوجد خلاف حول العلاقة بين الدولة والكنيسة، فإن النزاع يدور بين جماعتين مختلفتين طائفياً، البروتستانت والكاثوليك، حيث تتماهى الهوية القومية لكل جماعة مع هويتها الطائفية.

الحركة الصهيونية نفسها حركة علمانية في ما يتعلق بالعلاقة بين الدولة والدين، لكنها تعتبر الانتماء إلى الدين اليهودي انتماء قومياً. الأحزاب المسيحية اللبنانية هي أحزاب علمانية في خطها العام، لا تريد حكم الكنيسة أو تدخلها في الدولة، لكنها في المقابل أحزاب طائفية تقوم على أساس هوية الانتماء إلى الطائفة المسيحية.

حتى في الحالة الإسلامية يمكن تقديم عدد من الأمثلة لحركات قامت على أساس هوية الانتماء إلى الإسلام ولكنها علمانية النزعة، مثلما حصل مع تأسيس باكستان مع محمد علي جناح. فقد تأسست باكستان بوصفها دولة لمسلمي القارة الهندية، ولكنها دولة علمانية في الوقت ذاته بحسب المؤسس جناح، الأمر الذي سيتغير لاحقاً.

تدور الإشكالية العلمانية حول حضور الدين ودوره كمصدر للتشريع والقيم الأخلاقية والثقافية الناظمة لعمل الدولة.
العلمانية ليست الحل..إرلندا الشمالية مثالا: على رغم أنها علمانية ولا يوجد خلاف حول العلاقة بين الدولة والكنيسة، فإن النزاع يدور بين جماعتين مختلفتين طائفياً، البروتستانت والكاثوليك، حيث تتماهى الهوية القومية لكل جماعة مع هويتها الطائفية.

العلمانية والطائفية

إشكالية العلمانية مستقلة موضوعاً عن إشكالية الطائفية. لكن هذا الاستقلال ليس انقطاعاً تاماً، فهناك نوع من الاشتراط الذي يجمع المسألتين. فإذا قبلنا معنىً مقيداً للعلمانية – يقوم على الحد الأدنى – وهو حياد الدولة تجاه معتقدات مواطنيها والمساواة بينهم بغض النظر عن اعتقاداتهم، تغدو العلمانية عندها شرطاً يصعب الاستغناء عنه لحل المسألة الوطنية، كونها لا تكرس أساساً تمييزياً في الجماعة الوطنية.

لكن يمكن النقاش حول مدى اندراج هذا المعنى المقيد في العلمانية، حيث يمكن تخيل دولة تتبنى القيم الثقافية والأخلاقية المنبثقة من دين الغالبية من جهة، وتكون من جهة أخرى محايدة تجاه الاعتقادات الدينية لمواطنيها وتصون المساواة التامة بينهم بغض النظر عن اعتقاداتهم وإيمانهم.

"بتعبير آخر يكون النظام القيمي لدين الغالبية بمثابة مرجعية أخلاقية وثقافية من جهة، ومن جهة أخرى تكون الدولة محايدة تجاه "معتقدات" مواطنيها ومحققة للمساواة بينهم".

المسألة المركزية لحفظ الجماعة الوطنية هي عدم تكريس أي نوع من السياسات التمييزية على أساس الانتماء الديني أو الجهوي أو حتى الإثني، فيما تدور الإشكالية العلمانية حول حضور الدين ودوره كمصدر للتشريع والقيم الأخلاقية والثقافية الناظمة لعمل الدولة.

في مواجهة انهيار مجتمعات المواطنة في المشرق العربي وصعود هويات طائفية يُرفع بشكل كبير شعار العلمانية باعتباره حلاً للمسألة الطائفية، "العلمانية هي الحل".

شعار  العلمانية هي الحل يبدو شعاراً مزيفاً ولسببين أساسيين:

الأول: تُطرح العلمانية كحل لمشكل لا صلة لها بالعلمانية نفسها، وهو تصدع الجماعة الوطنية التي تتمحور حول معضلة مغايرة لتلك الخاصة بالعلمانية.

الثاني أن العلمانية نفسها قد تكون سبباً في هذا التصدع، طالما أنها تخدم كشعار يُرفع تحديداً ضد الانتماء الديني للغالبية ولاحقاً ضد ثقافة محددة، فتصبح تبريراً لسياسة تمييزية. هناك مزحة سورية متداولة حيث يقول أحدهم إنه علماني يكره شيئين: الطائفية والسنة. تصبح العلمانية أيديولوجيا بالمعنى السيئ للكلمة، تزيف الواقع خدمة لمصلحة جماعات محددة. فتخفي عصبياتٌ طائفية نفسها تحت عباءة العلمانية، مصورة معركتها وكأنها معركة بين العلمانية والأصولية.

 

[embed:render:embedded:node:19671]

 

وعلى الجهة الأخرى تكون الصورة مقلوبة، أي أن العصبية الطائفية المقابلة تقدم معركتها وكأنها معركة الإيمان في مواجهة كفر العلمانية. وهذا ما يتجلى مع العديد من حركات الإسلام السياسي، التي تكرس التمييز داخل الجماعة الوطنية انطلاقاً من نظرتها للإسلام التي تدمج الدين بالهوية، فلا تعود الحضارة الإسلامية ذلك الإطار الثقافي الواسع لكل الذين عاشوا وتربوا داخله. في الحالتين، تبني العلمانية أو الأصولية، فإن انهيار الجماعة الوطنية والنزاعات القائمة على العصبيات المحلية يستمر من دون توقف.

لم تكن ألبانيا خلال الحكم الشيوعي دولة علمانية وحسب، بل دولة تبنت الإلحاد في شكل رسمي وتولّت التبشير به ومحاربة الدين. غير أن العصبيات الفرعية المتمحورة حول الإسلام السني والبكتاشية والمسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية والعشائرية استمرت، فبقي الزواج المختلط بين هذه الجماعات في أضيق الحدود، على رغم التشجيع الرسمي وقتها له.

وما أن سقطت الشيوعية، التي أخضعت الجميع بالقمع، حتى عادت هذه العصبيات الطائفية لتطفو على السطح وتطالب بإعادة تنظيم الدولة محاصصة بينها. كذلك كان البعث العراقي حزباً علمانياً وقومياً متطرفاً، لكن العصبية التي حُكم بها العراق استندت على الانتماء إلى المثلث العربي السني بالدرجة الأولى وبدرجات أعلى إلى الانتماءات العشائرية داخل هذا الانتماء للمثلث.

الربط المباشر بين العلمانية والطائفية، واعتبار الأولى حلاً مباشراً للثانية، لا يكتفي وحسب بخلط مسائل متباينة بعضها ببعض، بل قد يخدم كعباءة أيديولوجية في تزييف وتغذية النزاع الطائفي والمقوِّض للجماعة الوطنية ذاتها.

حل المسألة الطائفية يقوم على تكريس الجماعة الوطنية والحفاظ عليها وإعادة الاعتبار للديموقراطية الحقيقية والمواطنة التي تقوم على تحقيق المساواة بين المواطنين أنفسهم.

 

موريس عايق

حقوق النشر: قنطرة 2018