المغرب وفرنسا: هل تفقد باريس "حديقتها الخلفية" في شمال افريقيا؟

ما وراء الجفاء الدبلوماسي: تنظر فرنسا باستياء إلى تزايد الحضور الصيني والإسباني في الاقتصاد المغربي، خاصة أن باريس على وشك فقدان "حديقتها الخلفية" في شمال افريقيا، بعد تراجع نفوذها في تونس والجزائر بشكل ملحوظ. تحليل الباحث والمحلل السياسي محمد طيفوري لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Mohamed Taifouri

تشهد العلاقات بين الرباط وباريس، منذ عدة أشهر، معركة تكسير للعظام بين الطرفين، تحولت في الأسابيع الأخيرة إلى حرب باردة مفتوحة، تدور رحاها على مختلف الجبهات؛ في السياسة والدبلوماسية والاقتصاد وحتى في الإعلام. مؤخرا، طفت إلى الواجهة جملة أحداث ووقائع من كلا الجانبين، يمكن اعتبارها مؤشرات تعكس عمق الأزمة القائمة بين البلدين.

استشعرت فرنسا أنها على وشك فقدان حديقة خلفية أخرى في شمال افريقيا، بعد خسارتها لتونس، عقب انتخاب قيس سعيد رئيسا للجمهورية. وبعد خروج الجزائر عن سيطرتها، بسبب الحراك الثوري، وما خلفه من اضطراب للأوضاع في البلد. هذه التطورات ولدت رغبة قوية؛ لدى صناع القرار  في باريس، في الإبقاء على المغرب محمية؛ تضمن لباريس مراقبة نفوذها الاستعماري، في حوض الأبيض المتوسط، وأعماق إفريقيا جنوب الصحراء.

استخدم الفرنسيون كل أوراق الضغط التي بين يديهم، لإجبار الرباط على الاحتفاظ لهم بالامتيازات الاقتصادية التفضيلية في المملكة، خاصة، بعدما تبيّن لهم في الواقع، وبلغة الأرقام في التقارير أن النفود الفرنسي في المغرب، يُسجل تراجعاً واضحاً لصالح قوى إقليمية مثل إسبانيا أو دولية مثل الصين.

دواعي الأزمة الصامتة بين فرنسا والمغرب 

يربط الكثير من المراقبين التشنج والجفاء الدبلوماسي بين البلدين بانزعاج فرنسا من توارد أخبار تفيد رجحان كفة الصين، في نيل صفقة مشروع القطار السريع المرتقب بين مدينتي مراكش وأكادير، بعدما قدمت بكين عرضا منخفض التكلفة؛ بحوالي 50 في المائة، عن عرض باريس، علاوة على القلق من الاهتمام المتزايد للصين بصفقة الشطر الثاني لتمديد القطار الفائق السرعة (TGV)، بين مدينتي الدار البيضاء ومراكش.

يمثل هذا تهديداً مباشرا لكعكة سوق السكك الحديدية، الذي ظل تاريخيا من نصيب فرنسا. وتعزز هذا الاحتكار سنة 2007، بعد اسناد مهام تنفيذ الشطر الأول من المشروع (طنجة – الدار البيضاء)، لشركة "ألستوم" الفرنسية، بتكلفة باهظة بلغت 4 ملايير دولار؛ تعويضا لباريس على تراجع المملكة عن صفقة طائرات حربية فرنسية، لفائدة طائرات أمريكية بديلة.

 

دشن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والعاهل المغربي محمد السادس في مدينة طنجة القطار فائق السرعة بين طنجة والدار البيضاء في شهر نوفمبر 2018.
دشن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والعاهل المغربي محمد السادس في مدينة طنجة القطار فائق السرعة بين طنجة والدار البيضاء في شهر نوفمبر 2018. لكن هذا الحدث لم يمنع الحكومة الفرنسية من استخدام كل أوراق الضغط التي بين يديهم، لإجبار الرباط على الاحتفاظ لهم بالامتيازات الاقتصادية التفضيلية في المملكة، خاصة، بعدما تبيّن لهم أن النفود الفرنسي في المغرب، يُسجل تراجعاً واضحاً لصالح قوى إقليمية مثل إسبانيا أو دولية مثل الصين.

 

تدريجيا، بدأ التنين الصيني يلتهم ما اعتقده الديك الفرنسي ملكية خالصة له، فقد حان دور المنافسة في قطاع السكك الحديدية، بعدما حظي الصينيون، في مارس (آذار) 2017، بمشروع بناء مدينة صناعة باسم "طنجة تيك"؛ على مساحة ألف هكتار في شمال المغرب، يرتقب أن تكون مركزا تجاريا، يحتضن المئات من الشركات الصينية، وقاعدة انطلاق الصين لغزو أسواق افريقيا وأوروبا.

في الجانب الآخر، تنظر فرنسا باستياء وخنق شديدين إلى تزايد الحضور الإسباني في المغرب، الذي كلفها أسواقا مهمة في العديد من المجالات. فالشركات الإسبانية آخذة في التغلغل داخل المملكة، فالنقل الحضري مثلا، أضحى من نصيب شركة "ألزا" الإسبانية بمدن مراكش وطنجة وأكادير وخريبكة. وتمددت الشركة العام الماضي، لتغطي مدنا مغربية جديدة، في مقدمتها العاصمة الرباط وسلا والدار البيضاء الكبرى. بهذا استطاعت مدريد الاحتفاظ، منذ سنوات، بمركز الصدارة كأول شريك تجاري للمغرب.

قامت فرنسا بدور كبير، في استعادة المغرب لموقعه داخل القارة الافريقية، غير أنها تشعر بالغبن نتيجة تخليه التدريجي عنها في افريقيا، بعدما فرضت المملكة نفسها؛ كأول مستثمر في غرب افريقيا، والثاني على صعيد القارة. ما جعلها بوابة دخول لا بد منها، لكل راغب في اختراق أسواق القارة السمراء. 

خلْف ما سبق لدى إدارة الرئيس ماكرون الذي تدنت شعبيته لمستويات قياسية، رغبة شديدة في الحفاظ على ما توفر هذه المحمية من امتيازات، لتنطلق حينها معركة، أدت إلى أزمة صامتة، استخدمت فيها كل الوسائل لابتزاز المغرب، قصد مراجعة مواقفه.

 

 

المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة 

الاتحاد الأوروبي والمغرب وأسطورة الاستقرار

دعابات وضجيج ومشاكسات...الشعبوية تزحف على المشهد السياسي المغربي

الزفزافي: رمز حراك الريف المغربي و"وريث" عبد الكريم الخطابي

القصر الملكي...ضابط الإيقاع الحكومي المغربي

 

مؤشرات الحرب الباردة

كثفت باريس ضغوطها على المغرب، لدرجة تحولت معها الأزمة الصامتة إلى عرض فرجوي، متعدد الفصول والأجزاء. فالإعلام الفرنسي الرسمي وغير الرسمي؛ بما فيه ذاك المهادن للرباط، يقود حملة ضد المغرب، بتسليط الأضواء على كافة القضايا والملفات التي تشهدها الساحة المغربية (حراك الريف، حرية الصحافة، الاحتقان الاجتماعي، حقوق الإنسان...). وكان آخرها فصولها، قيام وكالة الأنباء الفرنسية (AFP) بإجراء حوار مع أميناتو حيدر، مطلقة عليها لقب "غاندي الصحراء الغربية". 

 

قوات المينورسو المكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار في الصحراء الغربية
إقليم الصحراء الغربية مستعمرة إسبانيّة سابقة تمتدّ على مساحة 266 ألف كيلومتر مربّع، وشهدت نزاعًا مسلّحًا حتّى وقف اطلاق النّار عام 1991 بين المغرب الذي ضمّها في 1975 والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليساريو) التي تطالب باستقلالها مدعومة من الجزائر. ويسيطر المغرب على 80% من الصحراء الغربية، مقترحا منحها حكما ذاتيا موسعا تحت سيادته، في حين تطالب جبهة بوليساريو باستقلالها. وترعى الأمم المتحدة منذ عقود جهودا لإيجاد حل سياسي متوافق عليه ينهي هذا النزاع.

 

ارتباطا بقضية الصحراء، غاب اللقاء المعتاد بين وزير خارجية البلدين؛ لأول مرة في التاريخ، على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتبدد الحماس الفرنسي في الترافع إلى جانب المغرب عن ملف الصحراء.

ولم تنخرط فرنسا في البحث عن بديل لهورست كولر، المبعوث الأممي الخاص إلى الصحراء، الذي استقال من منصبه قبل أشهر. مقابل ذلك، وقف رئيس الحكومة الإسباني؛ في سابقة تاريخية، أمام الجمعية العامة مدافعا عن الحل السياسي في قضية الصحراء، ليكون بذلك أول رئيس حكومة إسباني يسقط من قاموسه عبارتي "الاستفتاء" و"تقرير المصير".

بلغ هجوم الفرنسيين على المغرب حد إقحام الاقتصاد في المعركة، حيث طالب وزير الاقتصاد الفرنسي بإعادة توطين الاستثمارات الفرنسية، فصناعات السيارات الفرنسية في المغرب يشكل؛ بحسب المسؤول الفرنسي، نموذجا "استثماريا فاشلا" ينبغي مراجعته. فلا يعقل الإبقاء على نموذج تصنع فيه السيارات الأكثر مبيعا في فرنسا خارجها، داعيا المجموعتان الفرنسيتان إلى القطع مع هذه الاستراتيجية التي تدمر الاقتصاد الفرنسي.

وظّفت باريس ورقة اللجوء السياسي، للضغط على الرباط لمراجعة موافقها، حيث قبِلت بشكل سريع؛ فاجئ سلطات المغرب، ملفات اللجوء السياسي للعديد من الصحفيين والنشطاء والأصوات المعارضة للنظام السياسي بالمغرب. بعدما كان تنهج إلى جانب اسبانيا سياسة التشدد ضد المغاربة الطالبين للجوء، ما يعني انتقاد ضمنيا لسياسات البلد في مجال حريات التعبير وحقوق الإنسان.

يدرك صناع القرار في المغرب اليوم حجم الخطيئة المرتكبة، بعد اتخاذهم قرار فرنسة التعليم، فمهما حدث، على ما يبدو، لن تغير باريس من نظرتها الاستعمارية تجاه المغرب.

وتبقى بوصلة المصالح هي المعيار الوحيد لضبط إيقاع العلاقات بين البلدين، دون اعتبار لأية إيديولوجية يمينية كانت أو يسارية. وخير دليل على هذا احتفاظ فرنسا بمسافة أمان في العلاقات مع الجزائر والمغرب على حد سواء، ما يضمن لها لعبة الرقص على الحبال، وابتزاز الطرفين في موضوع الصحراء.

تبقى اللحظة مناسبة للمغرب، أكثر من أي وقت مضى للخروج من تحت عباءة فرنسا، التي تهتز داخليا بعد تراجع نفوذها في الخارجي.

لكن هذا الانعتاق بحاجة إلى رص للصفوف وتوحيد للجبهة الداخلية؛ بتوسيع هامش الحريات السياسية وتكريس الديمقراطية ومحاربة الفساد المستشري وإقرار العدالة الاجتماعية. لكن هذا الشرط الجوهري لإنجاح عملية التحرر مفتقد في مغرب اليوم.

 

محمد طيفوري

حقوق النشر: قنطرة 2020

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.