ابتعاد الجزائريين عن لغة المستعمرين الفرنسيين

تزايد عدد الوزارات الجزائرية التي تعلن عن تخليها مستقبلا عن استخدام اللغة الفرنسية متفاعلةً بذلك مع مزاج شعبي جزائري سائد. فهل من أسباب أخرى؟ تحليل دنيا رمضان.

الكاتبة ، الكاتب: Dunja Ramadan

تظهر وزيرة الثقافة والفنون الجزائرية وفاء شعلال على شاشة التلفزيون وهي تكافح من أجل الكلمات. يدور الحديث باللغة العربية - وليس سرًا أنَّ الجزائريين يتحوَّلون في العادة إلى الفرنسية أو أنَّهم على الأقل يدمجون في حديثهم الكثير جدًا من الكلمات الفرنسية بحيث أنَّها تطغى بسرعة على العربية. وتتحدَّث المذيعة المصرية إلى الوزيرة الجزائرية حول تأثير الفرنسية القوي في وطنها. وتقول وهي تواصل ابتسامتها الودودة: إنَّها تعرف الكثير من الجزائريين، الذين يتحدَّثون الفرنسية أكثر من العربية.

وبدورها تبرِّر الوزيرة ذلك بالتأثير الفرنسي القوي في مجال التعليم. ثم تقول: "نحن نُفكِّر بالفرنسية ونتحدَّث العربية. ولهذا السبب فإنَّ بعض الكلمات العربية لا تخطر ببالنا بمثل هذه السرعة". لكن المذيعة لا تفهم تمامًا وتحاول تصحيحها: "أنتِ تفكِّرين بالعربية وتتحدَّثين الفرنسية". لا، بل بالعكس، مثلما تقول وزيرة الثقافة. ولكن المذيعة لا تريد تصديقها حقًا. ولذلك تضطر إلى إلغاء سؤالها التالي عن مدى اختلاف التفكير بالفرنسية عن التفكير بالعربية. موضوع حساس جدًا بالنسبة للوزيرة.

لقد أثار هذا اللقاء موجةً من التعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي. وكان مضمون تعليقات كثير من الجزائريين يفيد بأنَّ الوزيرة وفاء شعلال تتحدَّث فقط باسم النخبة الفرنكوفونية، التي تتقاسم المناصب الحكومية بين بعضها - وليس باسم الشعب الجزائري، الذي يتحدَّث العربية. وجاء في أحد التعليقات: "عندما يريدون قتل هوية شعب ما، فإنَّهم يقتلون أوَّلًا لغته"؛ وفي تعليق آخر: "كلامها صحيح فجميع المسؤولين الحكوميين مُفَرْنَسون، ولكننا لا نقبل بهذه الحقيقة. نحن نعيش مثل نعامة تدفن رأسها في الرمال".

 

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. Frankreichs Präsident Emmanuel Macron bei seiner Rede zum 60. Jahrestag des Waffenstillstands im Algerienkrieg. (Foto: Gonzalo Fuentes/AP Photo/picture alliance)
أزمة دبلوماسية بين فرنسا والجزائر: أثارت في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2021 تصريحات نسبتها صحيفة "لوموند" اليومية إلى رئيس قصر الإليزيه غضبَ المُستعمَرة الفرنسية السابقة الجزائر. وكان الرئيس إيمانويل ماكرون قد تحدَّث عن تأريخ "رسمي" جديد وُضِعَ بعد استقلال الجزائر ولا يستند إلى الحقيقة بل يتميَّز بـ"خطاب كراهية" فرنسا. ونتيجة لذلك استدعت الحكومة الجزائرية سفيرها في باريس محمد عنتر داود من أجل "التشاور". وبرَّرت ذلك بمنعها "أيّ تدخُّل" في شؤونها الداخلية، مشيرةً إلى أنَّ تصريحات إيمانويل ماكرون "التي لم ينفِها" هي "تصريحات غير مسؤولة".

 

يتزايد الاعتراف بهذا المزاج العام السائد لدى الشعب من قِبَل السياسيين: ففي الأشهر الماضية، منعت عدة وزارات استخدام لغة المستعمرين الفرنسيين في المراسلات الرسمية. وبدلًا من اللغة الفرنسية فقد قرَّرت في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2021 وزارة الشباب والرياضة ووزارة التربية الوطنية ووزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي جعل العربية لغةً إلزامية. وتبعتها في بداية شهر نيسان/أبريل 2021 وزارة الثقافة، التي باتت ترأسها الآن السيِّدة صورية مولوجي. وعلى الأرجح أنَّ الوزراء اتَّخذوا هذه الخطوة ردًا على التوتُّرات بين الجزائر وباريس في الخريف الماضي أيضًا. على الأقل بشكل رسمي.

إيمانويل ماكرون يتساءل: هل كانت توجد أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟

أثارت في ذلك الوقت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صحيفة لوموند الفرنسية أزمة دبلوماسية بين البلدين. فقد اتَّهم إيمانويل ماكرون "النظام السياسي العسكري" الجزائري بأنَّه ما يزال يستخدم الاستعمار كذريعة لتبرير إخفاقاته. وقد نقلت الصحيفة الفرنسية عن ماكرون قوله إنَّ النظام الجزائري "يرسِّخ فكرة في ذاكرة الأمة بأنَّ فرنسا هي سبب كلِّ مشاكل الجزائر منذ عام 1962". وبالإضافة إلى ذلك فقد تساءل إن كانت توجد أمة جزائرية قبل الاستعمار - مما أثار احتجاجًا شديدًا في الجزائر.

لقد احتلت القوَّات الفرنسية الجزائر في عام 1830 وأعلنت هذا البلد الشمال إفريقي منطقة فرنسية. وأدَّت المذبحة، التي ارتكبتها القوَّات الاستعمارية الفرنسية في أيَّار/مايو 1945 بحقّ عشرات الآلاف من الجزائريين في سطيف، إلى زيادة قوة حركة الاستقلال الجزائرية. وفي عام 1954، بدأت بقيادة جبهة التحرير الوطني حرب التحرير الجزائرية المعروفة باسم حرب الجزائر ضدَّ القوة الاستعمارية الفرنسية، وأدَّت إلى حصول الجزائر على استقلالها في عام 1962. لقد قمعت القوَّات الفرنسية حرب التحرير بوحشية وقتلت مئات الآلاف من الجزائريين.

ونتيجة لتصريحات ماكرون فقد استدعت الحكومة الجزائرية سفيرها في باريس الخريف الماضي ومنعت الطائرات العسكرية الفرنسية من التحليق فوق أراضيها. وأعلن ماكرون بعد ذلك بوقت قصير من خلال أحد مستشاريه عن أنَّه يأسف لـ"الجدال" و"سوء الفهم". وسافر في بداية شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2021 وزيرُ الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى الجزائر. وبعد ثلاثة أشهر انتهت هذه الأزمة الدبلوماسية. ولكن لم يشارك أيُّ ممثل رسمي عن الحكومة الجزائرية في الذكرى الستين لوقف إطلاق النار في الحرب الجزائرية، والتي تم إحياؤها في نهاية شهر آذار/مارس 2022. وقد دعا ماكرون إلى مزيد من المصالحة بين فرنسا وهذه المستعمرة الفرنسية السابقة.

 

الوفد الجزائري في 18 مارس 1962 م في إيفيان حيث تم التوقيع على اتفاقية الهدنة مع فرنسا. Die algerische Delegation am 18. März 1962 in Évian, wo das Waffenstillstandsabkommen unterzeichnet wurde. (Foto: London Express/dpa/picture-alliance)
ضرورة معالجة الماضي المؤلم: دعا إيمانويل ماكرون في الذكرى الستين لوقف إطلاق النار في الحرب الجزائرية إلى المزيد من المصالحة بين فرنسا والجزائر. وقال إنَّه يجب الاعتراف بالظلم، الذي حدث في الماضي. وقد حضر مراسم إحياء هذه الذكرى 200 شخصية من بينهم أيضًا مقاتلون سابقون من الطرفين المتحاربين. وشدَّد ماكرون على أنَّه يريد عرض مختلف وجهات النظر إلى الحرب ليتيح المجال بالتالي للتقدُّم في طريق معالجة الماضي. "سيقول لي كثيرون إنَّك تفعل كلَّ هذا لكنك لست جديًا لأنَّ الجزائر لا تتحرَّك. في كلِّ مرة واجهَ كلُّ من سبقوني الأمر نفسه ولكنني أعتقد أنَّه سيأتي اليوم الذي تسلك فيه الجزائر هذا الطريق". ولم يحضر في نهاية آذار/مارس 2022 أيُّ ممثل رسمي عن الحكومة الجزائرية مراسم إحياء الذكرى الستين لإنهاء الحرب الجزائرية.

 

ولكن تصريحات ماكرون المثيرة للجدل لم تُنسَ في الجزائر، بحسب قول خبير شؤون السياسية الجزائري زين العابدين غبولي لصحيفة زود دويتشه تسايتونغ، والذي يبلغ عمره ستة وعشرين عامًا ويبحث في العلاقات الأورومتوسطية في جامعة غلاسكو: "لقد أشعلت تصريحات ماكرون تنافسًا لغويًا واجتماعيًا ثقافيًا قديمًا وأدَّت إلى زيادة الشكوك في فترة ما بعد الاستعمار"، مثلما يقول. ولكنه يصف خطوة وزيرة الثقافة الجزائرية الجديدة بأنَّها "معركة تقليدية يخوضها معسكرها المحافظ ضدَّ النخبة الثقافية الفرنكوفونية" وكذلك بأنَّها "استراتيجية علاقات عامة هدفها الاستفادة من تصريحات ماكرون من أجل اكتساب الشعبية". وهو يعتقد أنَّ الجزائر تشهد الآن تغييرًا اجتماعيًا عميقًا لن يتمتَّع بعده الفرنسيون بالامتيازات نفسها وبالمكانة النخبوية نفسها.

الشباب بشكل خاص يبتعدون عن اللغة الفرنسية

وهذا المزاج العام المناهض للفرنسية في الجزائر ازداد خلال الثلاثة أعوام الماضية، مثلما يقول زين العابدين غبولي. ويضيف أنَّه يرتبط أيضًا بحركة الحراك الاحتجاجية، التي تطالب بإعادة تنظيم شاملة للنظام السياسي القائم منذ استقلال الجزائر. لقد تمكَّن الحراك الجزائري خلال الثلاثة أعوام الماضية من حشد مئات الآلاف من المتظاهرين - للإطاحة أوَّلًا بالرئيس الدائم عبد العزيز بوتفليقة ومن ثم لمحاربة الشبكة السياسية الحاكمة حتى اليوم والمكوَّنة من العسكريين ورجال المخابرات وأباطرة الصناعة.

أمَّا الرئيس عبد المجيد تبون المنتخب في نهاية عام 2019 فيعتبر بالنسبة للكثير من الجزائريين من أتباع النظام القديم. كثيرًا ما كانت تُسمع وتُشاهد في مظاهرات الحراك الجزائري شعارات ولافتات معادية للفرنسيين - جاء في بعضها ما معناه: "أينما حلَّت فرنسا حلَّ الدمار" أو "ماكرون ارحل فأنت غير مرحَّب بك في بلد الشهداء".

وقد ركَّز المتظاهرون خلال هذه الاحتجاجات مرارًا وتكرارًا على أوجه التشابه بين مطالبهم والكفاح ضدَّ الاستعمار، مثلما ذكر لصحيفة زود دويتشه تسايتونغ أندرو فاراند، مؤلف كتاب "الحلم الجزائري - الشباب والبحث عن الكرامة" الصادر في عام 2021. وبحسب أندرو لفاراند فإنَّ جيل الشباب خاصةً يبتعد بشكل متزايد عن اللغة الفرنسية.

من المعروف أنَّ ثلثي سكَّان الجزائر تقريبًا تقل أعمارُهم عن خمسة وثلاثين عامًا. لقد عاش أندرو فاراند في الجزائر من عام 2013 حتى عام 2020 ليرى كيف يفكِّر "الجيل القادم في داخل عملاق شمال إفريقيا النائم"، مثلما كتب في كتابه. الجزائر هي أكبر دولة من حيث المساحة في إفريقيا. وعلى الرغم من وجود اختلافات كبيرة بحسب المناطق والطبقات، إلَّا أنَّ العديد من الشباب الجزائريين يشعرون اليوم بقدر أقل من الثقة في استخدامهم اللغة الفرنسية بالمقارنة مع جيل آبائهم وأجدادهم، مثلما يقول أندرو فاراند.

 

احتجاجات مناهضة للحكومة في الجزائر العاصمة في 21 فبراير 2020. Proteste gegen die Regierung in Algier am 21.02.2020. (Foto: Reuters)
الابتعاد عن لغة المستعمرين الفرنسيين: يبتعد بشكل خاص جيل الشباب وعلى نحو متزايد عن اللغة الفرنسية. من المعروف أنَّ ثلثي سكَّان الجزائر تقريبًا تقل أعمارُهم عن خمسة وثلاثين عامًا. وعلى الرغم من وجود اختلافات كبيرة بحسب المناطق والطبقات، ولكن العديد من الشباب الجزائريين يشعرون اليوم بقدر أقل من الثقة في استخدام اللغة الفرنسية بالمقارنة مع جيل آبائهم وأجدادهم. وهذا الابتعاد عن الفرنسية يرتبط أيضًا بحركة الحراك الاحتجاجية، التي تطالب بإعادة تنظيم شاملة للنظام السياسي القائم منذ استقلال الجزائر. وفي مظاهرات الحراك، كثيرًا ما كانت تُسمع وتُشاهد شعارات ولافتات معادية للفرنسيين.

 

ويخبرنا أندرو فاراند أنَّ رجال الأعمال الجزائريين كثيرًا ما يشتكون من عدم عثورهم على عمَّال شباب يستطيعون الكتابة والتحدَّث بالفرنسية بشكل صحيح. زد على ذلك أنَّ: "الشباب ينشؤون ويكبرون في عالم الإنترنت، حيث اكتسبت اللغة الإنكليزية أهمية جديدة وباتت لأوَّل مرة تنافس اللغة الفرنسية منافسة حقيقية". وهذا الاتجاه يظهر أيضًا في مجالات أخرى. فعندما تم مؤخرًا إغلاق صحيفة ليبرتي الرائدة الناطقة بالفرنسية بعد ثلاثين عامًا من عملها في الجزائر، لم تحزن عليها سوى قلة فرنكوفونية قليلة من الجزائريين.

ويمكن أن يُستثنى من هذا التطوُّر فقط الشباب الجزائريون، الذين يغازلون فكرة الهجرة إلى فرنسا، مع أنَّ عددًا متزايدًا منهم يعرفون أنَّ الحياة في فرنسا قد تكون صعبة بالنسبة للمهاجرين الجزائريين. وخاصة مع صعود اليمين المتطرِّف وفي حالة فوز المرشَّحة اليمينية مارين لوبان في رئاسة فرنسا. وضمن هذا السياق يعتقد زين العابدين غبولي أنَّ من شأن "فوز مارين لوبان أن يكون كارثيًا بالنسبة للتأثير الفرنسي في الجزائر ومن شأنه أن يزيد من سرعة عملية الابتعاد الجارية عن اللغة الفرنسية".

 

 

 

دنيا رمضان

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ / موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de