مجتمع "اللون الواحد" في ألمانيا صار من الماضي

"ألمانيا بلد هجرة" - هذه العبارة كانت ذات يوم ثورية لكنها أصبحت اليوم جزءا من الحياة اليومية، كما يرى في مقاله التالي الباحث الألماني ديتر أوبرندورفر، وهو أحد أوائل المختصين بمجال الهجرة في ألمانيا.

الكاتبة ، الكاتب: Dieter Oberndörfer

تُقال أشياءُ في ألمانيا، لم يكن من الممكن التفكير فيها قبل عشرة أعوام. الأشخاص الذين لا تبدو أشكالهم ألمانية عادية، يتم اعتبارهم من قِبَل السياسيين كمجرمين محتملين؛ ويتم التشكيك مرة أخرى في حقيقة أنَّ ألمانيا بلد هجرة.

لقد أظهر الجدل حول لاعب المنتخب الوطني الألماني السابق مسعود أوزيل مدى صعوبة قبولنا من دون شرط أو قيد الأشخاص المختلفين كألمان، حتى وإن كانوا قد نشؤوا وترعرعوا في ألمانيا. وبحسب تعبير وزير الداخلية الاتِّحادي، هورست زيهوفر، فإنَّ الهجرة هي "أمُّ جميع المشاكل السياسية". وهو يعكس بذلك المزاج السائد لدى الكثير من المواطنين الألمان.

ومرة أخرى بات يتم طرح فكرة "قومية" الأمة الألمانية كمجتمع ينحدر من أصل الأجداد. لم ينجح السياسيون تمامًا في التخلي عن هذا المفهوم: إذ إنَّ أي شخص له أصول ألمانية وُلِد في كازاخستان أو في أي مكان آخر في الكتلة الشرقية الشيوعية السابقة، بوسعه أن يعود إلى ألمانيا كألماني، حتى لو كان أجداده قد هاجروا من ألمانيا قبل مئات السنين. يمثِّل تعريف المهاجرين والمُهَجَّرين كـ"ألمان عرقيين" تطبيقًا قليل الحياء لنموذج الأمة القومية. من الجيِّد أنَّ هؤلاء الأشخاص يحصلون على المساعدة ليبدؤوا حياتهم، وكذلك يتم قبولهم بشكل ودِّي على الصعيد الرسمي. ولكن من المؤسف أنَّ هذا لم يحصل مع المهاجرين الآخرين.

لقد أصبح المجتمع الألماني مجتمع هجرة. ولم يعد بالإمكان إعادة هذا التطوُّر إلى الوراء - لن يتمكَّن أي سياسي يميني متطرِّف في ألمانيا أو أوروبا أو في الولايات المتَّحدة الأمريكية من منع التغيُّرات الديموغرافية التي تحدث لدى شعوبهم. قد يخلق اليمينيون نزاعات وانقسامات، بيد أنَّهم لا يستطيعون خلق شعب نقي عرقيًا.

مصافحة بين يدين - الاندماج والتنوع في ألمانيا - صورة رمزية. Foto: imago/imagebroker
Die deutsche Gesellschaft ist eine Einwanderungsgesellschaft geworden. Diese Entwicklung lässt sich nicht mehr zurückschrauben - kein noch so rechtsradikaler Politiker in Deutschland, Europa oder den USA wird die demografisch vorgegebenen Veränderungen ihrer Bevölkerungen verhindern können. Streit und Spaltung können die Rechten schaffen, einen ethnisch reinen Volkskörper nicht.

من أجل مجتمع تعدُّدي - فردي ومتنوُّع

ولذلك فإنَّ الإصلاحات المدخلة على قانون الجنسية منذ عام 1992 تعتبر إلزامية. كون المرء ألمانيًا لم يعد يتم تفسيره اليوم مثلما كانت عليه الحال في السابق بالانحدار من أصول ألمانية. لقد أدرك السياسيون الأذكياء أنَّهم يحتاجون وبشكل متزايد أصوات المهاجرين وأبنائهم من أجل النجاح في الانتخابات. وحتى حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي يعرف ذلك، ويجري بنشاط حملات دعائية بين البولنديين والمهاجرين الناطقين بالروسية وغيرهم من أجل كسب الأصوات.

قال الكاتب الصحفي البريطاني تيموثي جارتون آش في حوار أجرته معه مؤخرًا مجلة شبيغل الألمانية إنَّ مثقَّفي أوروبا لم يولوا اهتمامًا كافيًا للحاجة إلى الوطن والهوية. وأضاف أنَّ هذه المفاهيم يجب ألَّا يتم تركها لليمينيين. في الوقت الراهن هذه أطروحة شعبية. ولكنها مع ذلك إشكالية. فالوطن في المجتمعات الحديثة والتعدُّدية يعتبر فرديًا ومتنوِّعًا؛ ويستند إلى تجارب حياة وقيم مختلفة للغاية. لا يمكن تعريف الوطن على نحو جماعي وملزم إلَّا بثمن باهظ - ليتم فرضه على مصائر مختلفة وتحديد من ينتمي إليه ومن لا ينتمي إليه.

حتى السؤال عما إذا كان المهاجرون ينتمون إلى "وطننا" يعمل على التهميش بشكل مخادع. غالبًا ما يُساء استخدام الدعوات الموجَّهة إلى "الوطن" والــ "نحن" بهدف صرف الانتباه عن الاحتياجات الحقيقية: تأمين الدخل والعمل والسكن بثمن معقول والرعاية الصحية.

طبق كوسكوس من المغرب. Foto: picture-alliance/dpa
Orientalische Kochkunst als kulturelle Bereicherung: "Das Leben in Deutschland hat sich in allen Facetten verändert, am banalsten wie anschaulichsten zeigt sich das beim Thema Essen: Wer wollte kulinarisch in die 50er Jahre zurück?", fragt Dieter Oberndörfer.

لقد بيَّنت الأحداث الأخيرة في مدينة كيمنتس كيف يمكن للديماغوجيين أن يحرِّضوا بأفكار وهمية سخيفة الكثير من الناس ضدَّ كلِّ الواقع. في عام 1879 كتب هاينريش فون ترايتشكه: "اليهود هم بلاؤنا" - وأخذ النازيون ذلك بامتنان. أمَّا اليوم فيقال إنَّ الأجانب هم بلاؤنا، خاصة في شرق ألمانيا، حيث يكاد لا يوجد مهاجرون ويعتبر الناس هناك أفضل حالًا من جيرانهم في أوروبا الشرقية.

مجتمع هجرة لا رجعة فيه

تعتبر الرزانة والموضوعية فضائل مهمة للخطاب حول الهجرة. لقد أسَّستُ قبل عشرين عامًا مع المؤرِّخ كلاوس يوت باده وآخرين "مجلس الهجرة". وفي ذلك الوقت أردنا أن نوضِّح أنَّ ألمانيا هي بلد هجرة. اليوم يبدو هذا بديهيًا، بينما كان يعتبر في ذلك الوقت أطروحة ثورية.

بعد عقدين من الزمن يجب علينا أن نخطو خطوة أبعد من ذلك: لقد أصبح المجتمع الألماني مجتمع هجرة لا رجعة فيه. لم يعد يوجد مجتمع مُضيف أحادي الثقافة يواجه اللاجئين الذين يجب عليهم التكيُّف معه.

لقد شهدت ألمانيا تغيُّرات جذرية من خلال الهجرة وسوف تستمر في فعل ذلك. هذا ليس جيدًا بشكل تلقائي، ويقلق بعض الأشخاص. ولكن هذه حقيقة يجب الاعتراف بها. وبعد ذلك يمكن الانتقال إلى الخطوة التالية: يجب إدارة الهجرة بذكاء. إذ إنَّ التركيز المستمر على المشكلات لا يساعدنا. نعم، هناك أمور فوضوية - لكن التعايش يسير كله بشكل جيِّد، أفضل بكثير مما يريد إقناعنا به النقاش الراهن.

لقد تغيَّرت الحياة في ألمانيا من جميع الجوانب، ويظهر ذلك بشكل أكثر وضوحًا وبساطة في موضوع الطعام: مَنْ ذا الذي يريد العودة عندما يتعلق الأمر بالطعام إلى فترة الخمسينيات؟ لكن ألمانيا حقَّقت مكاسب بفضل مهاجريها في العديد من المجالات الأخرى المهمة أيضًا. وأصبحت عالمية. قد تكون مكتبات أجدادنا الأوائل مثيرة للإعجاب - ولكنها تفتقر إلى الكثير مما يعتبر بطبيعة الحال جزء من ثقافتنا اليوم.

وداعًا للأمة العرقية

تشكيل الهجرة يعني تشكيل المجتمع. يجب علينا أن نقول وداعًا للأمة العرقية وأن نمنح شكلًا للأمة الدستورية الجمهورية. يمكن من حيث المبدأ لجميع الناس أن يصبحوا من مواطني الجمهورية إذا التزموا بالدستور الجمهوري وبقيمه. ومن الناحية النظرية القانونية هذه بالفعل هي الحال.

ولكن النقاشات تظهر أنَّ هذا لم يصل بعد إلى أذهان الكثير من الناس. يجب علينا العمل على ذلك. بطبيعة الحال فإنَّ الأمة الجمهورية التعدُّدية تعتبر أيضًا غير مُحصَّنة ضدَّ الديماغوجيين والغباء والكوارث. ولكنها مع ذلك تمثِّل البديل الأفضل للتعصُّب القومي وعنجهية الأصل، التي تتحول إلى عنف إجرامي.

إنَّ ما يتطلبه تشكيل بلد الهجرة، كان واضحًا في الأصل قبل عشرين عامًا: فهو يحتاج إلى تعزير القدرات اللغوية والوصول إلى سوق العمل والمشاركة السياسية وفرص اللقاءات في الحياة اليومية وكذلك في الرياضة والعمل التطوُّعي؛ ويحتاج كذلك إلى سياسة محلية تكاملية ومنح الجميع حقّ المشاركة في الانتخابات وإجراء إصلاحات شاملة في قطاع التعليم. وهذا أمر ممكن. فقد تم بالفعل تحقق الكثير، ويجب ببساطة الاستمرار في العديد من الأمور.

الجمهورية الاتِّحادية قوية، بالرغم من كلِّ شيء. يجب على مواطنيها الآن أن يكافحوا من أجل منع بلدهم من العودة إلى البربرية. في عام 2015، احتلت حياة اللاجئين مكان الصدارة. يجب مساعدة الناس الهاربين من وابل القنابل والهجمات بأسلحة الغاز وغيرها من المخاطر التي تهدِّد الحياة. هكذا يجب أن تكون الحال. وكلُّ شيء آخر يعتبر غير إنساني.

 

 

ديتر أوبرندورفر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ /  موقع قنطرة 2018

ar.Qantara.de

ديتر أوبَرْنْدورفر باحث سياسي من مدينة فرايبورغ، عمره ثمانية وثمانين عامًا، وهو واحدٌ من أوائل الباحثين في مجال الهجرة في ألمانيا.