عيسى في الأدب العربي... رمز عربي وليس رمزاً دينياً أو طائفياً

في الشعر العربي وفي الرواية أيضاً إشارات إلى يسوع الناصري، عيسى ابن مريم، تستحق أن تُقرأ وتُدرس. فالناصري الحاضر في أدبنا، صار رمزاً متعدد الوجوه، لكن أهم ما فيه هو أنه رمز عربي عام، كأنه في يوم ميلاده، يتحدى الانحطاط، وينبثق في وعينا كلقاء بين الأضحية والضحية.

الكاتبة ، الكاتب: الياس خوري

نستطيع أن نبدأ من التأويل الجبراني ليسوع ابن الانسان ونمضي في منعرجات الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، لنكتشف أننا أمام شخصية تراجيدية ترث الحكايات الكنعانية عن الموت والانبعاث، التي احتلت حيزاً كبيراً في نتاج من أطلق عليهم اسعد رزوق اسم الشعراء التموزيين، لكنها تفترق عنها في أنها لا تحتفي بالانبعاث، على طريقة استحضار الاله الكنعاني تموز أو أدونيس، بل تحوّل الموت اطاراً لتمجيد الضحية، أو شكلاً لرسم ملامح الانسان العربي، على صليب ارتفع فوق تلال الروح.

ثلاثة مقتربات أساسية لحضور عيسى في الشعر العربي المعاصر، بدأت مع العراقي بدر شاكر السيّاب في رائعته «المسيح بعد الصلب»، وانعطفت مع اللبناني خليل حاوي في التماهي بين المسيح ولعازار في قصيدته « لعازار عام 1962»، ووصلت إلى ذروتها مع انتشار المسيح في العديد من قصائد الفلسطيني محمود درويش وخصوصاً في «الجدارية»، حين يقيم الشاعر حواراً تراجيدياً مع السيد المصلوب.

المسيح ليس حاضراً في الشعر فقط، بل ان حضوره في الرواية يكاد أن يكون موازياً لحضوره الشعري، وخصوصاً في أعمال الروائي الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا.

التأويل الجبراني للمسيح الذي ينحو منحى نيتشوياً ممزوجاً بالصوفية، له فضل كبير في تحرير هذه الشخصية من بعدها الديني ووضعها في سياق دنيوي، وفتح الباب أمام صيرورة المسيح من رمز مرتبط بشعائر الدين المسيحي، إلى رمز عربي مصنوع من تجربة الألم والاحتضار والولادة.

بدر شاكر السيّاب دخل إلى هذا العالم الرمزي من بوابة جيكور قريته العراقية التي صار الشاعر مسيحها وابنها وضحيتها ومطرها. فجاء المصلوب ليجسد بعدين متداخلين: الشاعر النبي الذي يبحث عن نبوة لا يجدها، والعراق المصلوب على خشبة الاستبداد.

«بعدما أنزلوني سمعت الرياحْ/ في نواح طويل تسفّ النخيلْ/ والخطى وهي تنأى إذا فالجراحْ/ والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيلْ/ لم تمتني، وأنصتّ كان العويلْ/ يعبر السهل بيني وبين المدينةْ/ مثل حبل يشدّ السفينة/ وهي تهوي إلى القاع كان النواح/ مثل خيط من النور بين الصباح/ والدجى في سماء الشتاء الحزينة».

هذا التوحّد بالألم الذي يشكل احدى خصائص القصيدة السيّابية، يصل إلى ذروته عندما يرى الشاعر صلباناً تمتد إلى ما لا نهاية:

«كل شيء مدى ما ترى العين/ كالغابة المزهرةْ/ في كل مرمى صليب وأم حزينةْ/ قدس الرب/ هذا مخاض المدينة».

يعود السياب في رحلته مع الصليب إلى ترسيمة الانبعاث التي شكلت محوراً أساسياً في شعره، بينما ينفض خليل حاوي عن شعره تفاؤلية الانبعاث التي صاغتها مجموعته الشعرية الأولى «نهر الرماد»، ويغرق في عتمة القبر الذي بدأت ملامحه في الظهور مع فشل تجربة الوحدة السورية- المصرية، ليمهّد للهول الذي جاءت به الهزيمة الحزيرانية المروعة.

لعازر طريح القبر ويرفض أن يستمع لنداء المسيح القيامي، ويعلن تمرد الحقيقة على الرمز:

«عمّق الحفرة يا حفارُ/ عمقها لقاع لا قرارْ».

هكذا يستقبل لعازر موته، لكن حضور السيد ونواح مريم قائلة «لو كنت هنا لما مات أخي»، كما ورد في الأناجيل تدفع المسيح إلى اجتراح معجزة القيامة التي يشكك لعازر بها قبل أن يرفضها:

«صلوات الحب والفصح المغني في دموع الناصري/ أترى تبعث ميتا حجّرته شهوة الموت ترى هل تستطيع/ … صلوات الحب يتلوها صديقي الناصري/ كيف يحييني ليجلو عتمة غصت بها أختي الحزينة/ دون أن يمسح عن جفنيّ حمّى الرعب والرؤيا اللعينة».

وعندما يعود لعازر حيا كطيف ترفضه الحياة، يصرخ بصوت الشاعر:

«الجماهير التي يعلكها دولاب نارْ/ من أنا حتى أردّ النار عنها والدوارْ/ عمّق الحفرة يا حفّارُ/ عمّقها لقاع لا قرارْ».

رحلة الانبعاث بتلاوين الموت السيّابية تنتهي في قصيدة خليل حاوي يأساً. فالانبعاث الذي بشرنا به الشعر في حداثته القومية تلاشى في عتمات مقبرة الهزيمة. وكان على شخصية يسوع الناصري أن تنتظر شاعرها الفلسطيني كي تتحرر من ثنائية الموت والانبعاث، وتصير رمزاً شاملاً للضحية.

عيسى ابن مريم في شعر محمود درويش

في شعر محمود درويش لا يعود المسيح صورة يستوحي الشعر معانيها ويقوم بتأويلها، بل يصير المسيح هو الفلسطيني، ليس كرمز بل كحقيقة ملموسة، وينتشر في الشعر الدرويشي كتجربة شخصية يعيشها الشاعر. فالمسيح يقف على أطلال البروة التي طرد منها لاجئا، يُصلب في السجون، وحين يعود يجد نفسه لاجئا في وطنه.

في «الجدارية» يعيد الشاعر تأويل المسيح، يلتحم به وينفصل عنه في آن معاً، يمشي معه على ماء بحيرة طبريا أو بحر الجليل، يصعد معه إلى خشبة الصليب، لكنه يقرر أن لا يتابع الرحلة إلى الموت:

«ومثلما سارَ المسيحُ على البحيرةِ/ سرتُ في رؤيايَ/ لكنّي نزلتُ عن الصليبِ/ لأنني أخشى العلوَّ/ ولا أبشّر بالقيامة».

الشاعر الذي كتب قصيدته بعد خروجه من حافة الموت، يرسم المسيح أفقاً مختلفاً، يدعوه إلى مائدته الفلسطينية بدل أن يذهب كما فعل أسلافه إلى مائدة الناصريّ الرمزية. يحرره من الأسطوري ويدخله في العادي، فالمسيح ليس ضيفاً على المائدة الفلسطينية، انه المائدة التي صنعها ألم الضحية.

حكاية يسوع الناصري التي تجذرت في أدبنا العربي المعاصر لا علاقة لها بالدين وجدله الإيماني، وهذا ما فات استاذنا الكبير إحسان عباس في تحليله النقدي القاسي لقصيدة السيّاب. انها حكاية تتألف من فصلين:

فصلها الأول يتجسّد في كسر الهويات المقفلة، عبر تملّك ثقافي عميق لشخصية يسوع الناصري، وادراجها في متن ثقافة عربية تسعى إلى الانعتاق بحثاً عن جذورها الثقافية المتنوعة. وفي هذا تذكير لأسياد مرحلة السقوط والاستبداد والعتمة التي تفرض ظل الموت على حياتنا العربية، بأن هذا السقوط طارئ انحطاطي لا يستطيع أن يستمر.

وفصلها الثاني اسمه الحب، فالناصري يولد من جديد في أدبنا مجبولاً بإيقاعات الحب التي تخمّر أروحنا. فنفاجأ به مثلما يفاجئنا الحب، ويمضي بنا إلى حيث يشاء.

 

الياس خوري

حقوق النشر: الياس خوري 2017