نافذة موسيقية عربية بين بيروت وريو دي جانيرو

شوية صور لم يكن بالنسبة للمغنية اللبنانية تانيا صالح مجرد ألبوم غنائي، بل أكثر من ذلك فهو بمثابة تحدي أخذ منها كثيراً من الجهد لجعله يرى النور أخيراً، وكانت قد أطلقت قبل أشهر حملة عبر الانترنت لدعم وتمويل هذا الألبوم من قبل جمهورها ومتابعيها، الأمر الذي ترك الكثير من الفضول لدى الجميع لترقبّه ومعرفة فيما إذا كانت ستنجح في إطلاقه أم لا ؟
شوية صور لم يكن بالنسبة للمغنية اللبنانية تانيا صالح مجرد ألبوم غنائي، بل أكثر من ذلك فهو بمثابة تحدي أخذ منها كثيراً من الجهد لجعله يرى النور أخيراً، وكانت قد أطلقت قبل أشهر حملة عبر الانترنت لدعم وتمويل هذا الألبوم من قبل جمهورها ومتابعيها، الأمر الذي ترك الكثير من الفضول لدى الجميع لترقبّه ومعرفة فيما إذا كانت ستنجح في إطلاقه أم لا ؟

لم تمارس اللبنانية تانيا صالح ابنة الخمسة وأربعين عاما الغناء غير السائد ولم تتسم مسيرتها الموسيقية أيضا باتجاه غناء البوب المريح والمباشر الشائع في العالم العربي، بل إنها صقلت مواهبها -منذ فترة مراهقتها في بيروت- ضمن مشهد موسيقى الروك، مازجةً بين الغناء باللغة العربية ونغمات موسيقى الـ"بوسا نوفا" اللاتينية. شتيفان فرانتسن يسلط الضوء لموقع قنطرة على إحدى فنانات الغناء العربي البديل، اللبنانية تانيا صالح.

الكاتبة ، الكاتب: Stefan Franzen

مشاهد في غاية البساطة ليقظة الصباح في المدينة: صياد يرمي الشباك، وفتاة تعدِّل حجابها، وزوجان مسنان يتناولان فطورهما في المطبخ، وشابة موشومة تمارس رياضة الهرولة وتنظر بلهفة إلى طائرة في السماء.

"شبابيك بيروت" هو اسم الأغنية المصوَّرة في فيديو كليب من ألبوم تانيا صالح الجديد "شوية صور"، والذي تظهر فيه تلك المشاهد. في هذا الفيديو كليب الذي لا تتجاوز مدته أربع دقائق ونصف الدقيقة يعرف المرء حول هذه المدينة أكثر مما يمكن أن يقدِّمه أي دليل سفر في المدة نفسها. الكلمات المدمجة في أغنية عاطفية تتكلم في صور شعرية قوية حول العاصمة اللبنانية بيروت: 

"بتُوقَف عَوِشْ الضَوْ وبتكحِّل عينيها، 

إلاَّ ما حدا يْطُل ويْسلِّم عليها، 

والبحر رايح جاي لا بْيِتَعب ولا بِيْكِنْ، 

ومهما صارت عتيقة وَحْدُه عليها بِيْحِنْ".

لا يمكن للمرء - نظرًا إلى هذا الفنِّ الصوتي المُوزَّع توزيعًا دقيقًا - أن يفهم تمامًا لماذا تم في كلّ من العالم العربي وكذلك الغربي تصنيف موسيقى تانيا صالح على أنَّها من "الموسيقى غير الشائعة". وحول ذلك قالت في مقابلة معها: "هذا هو الخلط القديم بين الموسيقى غير السائدة والموسيقى المستقلة. أنا أفضل تصنيف موسيقاي على أنَّها ’موسيقى إندي عربية بديلة‘ - فأنا مستقلة وأعمل بعيدًا عن التيَّار السائد وأغنِّي باللغة العربية".

الهروب من ويلات الحرب الأهلية

"الموسيقى العربية التقليدية مع نماذجها المتشابهة دائمًا والعزف المصاحب لها على العود والقانون والرق والكمان - هذا النوع من الموسيقى الذي يتم عزفه في حفلات الزفاف لم يكن يشغل اهتمامي في تلك الأيَّام. لقد كنت متحمسة لأصوات مثل صوت فليتوود ماك وستيفي نيكس وغريس سليك، وللموسيقية جوني ميتشل وقد بدأت أيضًا الاستماع إلى موسيقى الجاز"، مثلما تقول تانيا صالح. 

وتضيف: "كانت الموسيقى وسيلة للهروب من ويلات الحرب الأهلية اليومية، ففي الموسيقى كانت توجد الكثير من اللحظات السعيدة. عندما كنا نعبُر مع الفرق الموسيقية حدود المدينة المُقسَّمة، كنا نلاحظ أنَّ وسائل الإعلام تملأ رؤوسنا بالهراء فقط: فهذا الشخص على الجانب الآخر - الذي كان من المفترض أن يكون عدوي، كان شخصًا لطيفًا وجديرًا بالمحبة تمامًا مثل جيراني القريبين".

قامت تانيا صالح بتوسيع خبراتها وسنوات تعليمها من خلال إقامتها طيلة عام في عوَّامة على نهر السين في باريس. وبما أنَّها تأثرت قبل ذلك بالمجتمع اللبناني الفرنكوفوني فلم تشعر هناك بأنَّها غريبة على الإطلاق، حيث شكِّل لها تجوُّلها في شوارع باريس مصدر إلهام وتابعت هنا دراسة الفنون التي بدأتها قبل ذلك في بيروت.

وبعد عودتها إلى الوطن بدأت العمل في صناعة الإعلانات. وحول ذلك تقول: "كنت دائمًا مهتمة كثيرًا في ربط الموسيقى مع الفنون البصرية. ومن خلال عملي في هذا المجال تعلمت كيف يبتكر المرء تصميمًا لكلِّ أغنية، وكيف يروي بالألوان قصة تثير شيئًا ما لدى أقصى عدد من الناس". وفي الوقت نفسه بدأت العمل مع المؤلف المسرحي والفنَّان اللبناني زياد الرحباني، وفي عام 1996 قامت بتسجيل أوَّل ألبوم منفرد لها.

"ليست ديمقراطية حقيقية"

ومنذ ذلك الحين لا تزال الفنَّانة تانيا صالح مخلصة لكلا العالمين - عالم الأذن وعالم العين. وهذا التوازن أفضى إلى إبداعات رائعة، مثل "مرايتي يا مرايتي" أغنية فيلم "سكر بنات" لنادين لبكي، أو الفيديو الخاص بأغنية "يا ولاد" الذي قامت فيه بقصّ صور لوجوه سياسيين لبنانيين معروفين وتركيبها - في إشارة إلى إمكانية استبدالهم. وفي هذا الصدد تقول تانيا صالح إنَّ "لبنان محكوم من قبل حفنة فاسدة من أطفال يتعاركون، ويحرِّضون على الكراهية بين الطوائف الدينية المختلفة ويتمسَّكون بالسلطة. لا يمكنك هنا أن تثق بأي شخص منهم - بصرف النظر تمامًا عن الحزب المنتمي إليه، وهذه أيضًا ليست ديمقراطية حقيقية".

على الرغم من أنَّ تانيا صالح تقول عن نفسها إنَّها غير ذكية بما فيه الكفاية من أجل السياسة، فهي مع ذلك لا تتورَّع عن الحديث بكلِّ صراحة عندما يتعلق الأمر بالأخطاء في المجتمع اللبناني. وهكذا هي الحال أيضًا في ألبومها الجديد "شوية صور". معبأة بإيقاعات عبثية راقصة في أغنيتها "رضا" تنحاز تانيا صالح إلى امرأة تتعرَّض لمضايقات من قبل زوجها - الذي يتعامل معها مثل الباشا ولا يرضى أبدًا. وهذه من دون ريب صورة واقعية للمجتمع الشوفيني الذي تعيش فيه.

"لا تزال هناك طريق طويلة حتى تحقيق المساواة، حتى وإن كنا نعيش في دولة من أكثر الدول العربية تقدمًا ويُسمح لنا على سبيل المثال بارتداء ملابس السباحة إلى الشاطئ. فعندما يتعلق الأمر بالزواج والإرث، يتم تفسير القانون دائمًا لصالح الرجل. والمرأة التي تتعرَّض للضرب لا تجد سلطة تشتكي إليها".

وفي أغنيتها "رضا" تشكو امرأة لإمِّها قائلة: "رضا مش راضي يا ماما مش راضي… وأنا قلبي صار بِدُو بُوْيَة وحْدَادِة" (أي أنَّه تلف وصار بحاجة إلى إصلاح)، وكذلك رُسمت على غلاف السي دي الداخلي صورةٌ لقلب ميكانيكي كبير مزوَّد بأداة لضبطه.

أنوثة واثقة بنفسها

وتانيا صالح تبدِّد المنظور الذكوري إلى الحب الذي هيمن تقليديًا على الثقافة العربية. وهي تقابل بالأنوثة الواثقة بنفسها أغاني الحب الحلوة المفعمة بالعاطفة واللهفة. وحتى أنَّها تمنح في "هي لا تحبك أنت" مؤلفَ هذه القصيدة الشاعر محمود درويش فرصة التسلل إلى جلد امرأة وكسر المحرَّمات. إذ إنَّ المرأة هي التي تحدِّد في هذه الأغنية إن كانت الآن تحب الرجل أم لا، أو ربما تحب فيه جانبًا واحدًا فقط.

يحصل ألبوم تانيا صالح الجديد على لونه المميَّز للغاية من خلال بعض نغمات موسيقى "بوسا نوفا" التي تتخلل العديد من أغاني هذا الألبوم. وحتى الآن لم نسمع مثل هذا المزيج الموسيقي الأنيق إلاَّ في حالات نادرة، حتى وإنَّ كانت تانيا صالح لا تعتبر في هذا الصدد أوَّل من استخدم نغمات أمريكية لاتينية: فقد جرَّب من قبلها في العقود السابقة الأخوان رحباني اللذان كانا يعملان مع فيروز وكذلك الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب دمج الألوان اللاتينية في الموسيقى العربية.

"لا يوجد أي بلد آخر في العالم يعيش فيه لبنانيون أكثر من البرازيل - التي يزيد عددهم فيها عن ثلاثة أضعاف عددهم في لبنان نفسه"، مثلما تقول تانيا صالح التي تحب موسيقى "البوسا نوفا" بسبب تجانسها المصقول. وضمن هذا السياق تقول تانيا صالح: "أنا أريد بهذا الألبوم اختبار السوق البرازيلية، لأنَّني أتصوَّر أنَّ اللبنانيين هناك سيتذكَّرون وطنهم بحنين عندما يتمكنون من غناء أغنياتي باللغة العربية مع أنغام البوسا نوفا!"

 

 

شتيفان فرانتسن

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de