مصر وأوكرانيا: "مع روسيا لكن ضد الحرب"

القاهرة تراهن على كسب ودّ المعسكر الغربي والمعسكر الروسي معا، لكن هذه السياسة يمكن أن تؤدي إلى خسارتهما عندما ينفض العالم الغبار الذي تراكم بسبب أزمة أوكرانيا. تحليل تقادم الخطيب لموقع قنطرة

الكاتب، الكاتبة : تقادم الخطيب

"مع روسيا لكن ضد الحرب علي أوكرانيا"، تعبر هذه الجملة عن موقف النظام المصري من الأزمة الأوكرانية الروسية، حيث إن موقف القاهرة كان ضعيفا في إدانة الغزو الروسي، بل إنه لم يكن واضحا وحاول إمساك العصا من المنتصف.

ولعل هذا ما حدا بالسفارة الأمريكية في القاهرة إلى نشر بيان علي موقعها في الأول من مارس، وهو بيان صادر عن سفراء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى بالقاهرة؛ بخصوص العدوان الروسي علي أوكرانيا بعنوان "سفراء مجموعة الدول السبع الصناعية: يتعين علينا أن نقف بجوار أوكرانيا"، يطالب القاهرة بالانحياز إلي الشرعية الدولية؛ القائمة علي مبادئ الأمم المتحدة، وتقديم إدانة [واضحة] للعدوان الروسي علي أوكرانيا. وذكًر البيان القاهرة، بأنها ليست بعيدة عن الضرر الناجم عن ذلك الاعتداء الروسي علي أوكرانيا، لأن آثار ذلك العدوان ستتخطى أوروبا وستصل إلي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وقد فهمت مصر تلك الرسالة وصوتت في اليوم التالي علي قرار الأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها قبل التصويت وحتي لا تغضب الجانب الروسي شرحت له دوافع وأسباب تصويتها الناتج عن الضغوط التي موست عليها.

وواقعيا الموقف المصري من الحرب الروسية له دوافعه، فهناك علاقات متشابكة علي مستويات متعددة تربط مصر مع روسيا. فروسيا بالنسبة لمصر هي حليف استراتيجي يظهر خلال الأزمات مع الولايات المتحدة، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن الولايات المتحدة هي الحليف الرئيسي لمصر، وقد تبلور ذلك بعد أن تحولت مصر من المعسكر الشرقي إلي المعسكر الغربي بعد انتهاء حرب أكتوبر. وقد عبر الرئيس السادات آنذاك أن 99 بالمائة من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا هو السبب الرئيس لتحوله إلي المعسكر الغربي.

لكن رغم ذلك فقد ظلت العلاقات  بين مصر وروسيا وطيدة وقوية، وقد لعبت روسيا دور الظهير لمصر إذا ما برزت أزمات مع الولايات المتحدة، خاصة في الفترة الأخيرة فيما يتعلق بملفات حقوق الإنسان. 

منذ قدومه للسلطة عبر انقلاب عسكري عام 2013 يستخدم نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أساليب وأدوات الحرب الباردة التي كانت تتبعها مصر في تلك الفترة، من أجل محاولة الحفاظ علي مسافة واحدة من الجميع، لكن وضع مصر الاقليمي الحالي وكذلك تطورات الأحداث علي الساحتين الاقليمية والدولية يجعل من تنفيذ هذه السياسية أمرًا محفوفا بالمخاطر، فقد يغضب الأطراف المختلفة من القاهرة وقد يعطل العديد من الصفقات خاصة صفقات الأسلحة، وهو ما يمثل ضغطا كبيرا علي القاهرة. 

القاهرة بين التسليحيين الأمريكي والروسي 

صفقات السلاح ومجموعات الفاغنر والقواعد العسكرية في شرق وجنوب المتوسط، التي تقيمها روسيا مع عدد من دول المنطقة أو جماعات النفوذ المحلية، لم تكن وحدها كأدوات نفوذ تستخدمها موسكو بل لعبت بموازاتها على وتر حسّاس لعدد من الحكام العرب، وفي مقدمتها شخصية الرئيس بوتين وخلفيته كرجل مخابرات.
الأسلحة الروسية لمصر وللدول الأفريقية.

كما هو معروف فإن تسليح الجيش المصري هو تسليح أمريكي، وهذا الأمر مرتبط بالمعونة الأمريكية التي تبلغ قيمتها 1.3 مليار يورو والتي تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بدفعها لمصر بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979 وهي عبارة عن جزء مادي وآخر متعلق بالتسليح.

لكن حقيقة أن سلاح الجيش المصري كله سلاح أمريكي لا يعني موافقة الولايات المتحدة الأمريكية علي إعطاء جميع الأسلحة للقاهرة، فهناك عدد من الأسلحة وعلي رأسها طائرات F15 رفضت الولايات المتحدة الموافقة علي إعطائها لمصر، هذا الأمر جعل القاهرة تفكر جليا في تنويع مصادر السلاح، وهو النهج الذي انتهجه نظام السيسي بعقد صفقات مختلفة مع روسيا.

كان الهدف من عملية شراء أسلحة من روسيا هو رغبة مصرية في إعادة بناء الثقة على مختلف الأصعدة ، وليس فقط في المجالات التي تظهر العلاقات معها تطورا واستقرارا في المستقبل ، كملف مشروع الضبعة النووية وعودة السياحة والطيران الروسي، خاصة في ظل التهديدات الأميركية لمصر وتحذيراتها بعدم التوسع في شراء الأسلحة الروسية، وهو الملف الذي يثير قلق وغضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا سيما مع توسع مصر في شراء النظائر الأوروبية.

وقد استطاعت القاهرة الاتفاق مع الجانب الروسي علي عقد صفقة المقاتلات الروسية "سوخوي 35"، والتي كانت قد عُقدت مبدئياً عام 2018، ووصلت منها فقط خمس طائرات إلى مصر، وتم تدريب أقل من عشرة طيارين مصريين عليها في العامين الماضيين. وتضمن الاتفاق الإسراع بوصول 12 طائرة خلال العام 2022، ثم بحث وصول 12 أخرى خلال 2023، ليكون الإجمالي 24 طائرة، بالإضافة إلى الخمس المسلمة قبل ذلك، وهو ما يعتبر رقماً كبيراً بالنسبة لمبيعات المقاتلة الروسية التي تواجه تضييقاً شديداً من الولايات المتحدة منذ بضعة أعوام، وتجد صعوبة في الوصول للأسواق العالمية بسبب تهديدات واشنطن. في ذات الوقت فإن مصر منذ عامين طلبت من روسيا إمدادها بالمزيد من الصواريخ الجوية قصيرة ومتوسطة المدى التي تستخدم في المعارك قريبة المدى. وهذان النوعان لا تشتريهما مصر من الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، وسبق أن تلقت بالفعل نحو 600 منها خلال العام الماضي. 

هذه التوازنات العسكرية هي أحد الجوانب الحاكمة لطبيعة العلاقة بين مصر وروسيا، وبالتالي فخسارتها يعني خسارة شريك استراتيجي مثل ولازال يمثل للقاهرة ملاذا وظهيرا عند تأزم العلاقات مع واشنطن. لكن في خطوة جديدة من قبل واشنطن وفي إطار الإجراءات الأمريكية لمحاصرة موسكو قامت واشنطن بتغيير موقفها الرافض لتسليم مصر طائرات F15، وهذا الموقف له دوافعه من حيث محاولات الولايات المتحدة إبعاد مصر عن روسيا، وأيضا وضع مصر الجديد في إطار التحالفات الجديدة التي يتم صياغتها في المنطقة، والتي تشمل مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات وإسرائيل في مواجهة إيران، وفي هذه النقطة بالتحديد قد يكون التقارب المصري الإسرائيلي لعب دورا في تغيير موقف واشنطن بخصوص هذه الطائرات. لكن هذا لا يعني أن مصر قد تتخذ موقفا يكون ضد روسيا أو يتقاطع ضد مصالحها الاستراتيجية معها.

دعم الانقلاب العسكري في مصر 

حينما قام الرئيس المصري الحالي بانقلابه العسكري للإطاحة بالرئيس محمد مرسي واجه ذلك العديد من المواقف الدولية الرافضة له، لكن الرئيس الروسي بوتين كان أحد الداعمين لهذا الانقلاب وتم ترجمت ذلك في الزيارة التي قام بها السيسي لموسكو حينما كان وزيرا للدفاع واستقبله بوتين بنفسه. هذه الزيارة كانت إعلانا رسميا عن دعم الرئيس بوتين وبصورة شخصية للسيسي، ولعل التشابه بين الخلفيات المخابراتية للرجلين كانت واضحة في استعادة قراءة تاريخ كل منهما، مع الفارق الكبير بين بوتين والسيسي. لكن هذا الدعم السياسي الذي قدمه بوتين لم يكن بدون مقابل، فقد حقق من خلاله مكاسب سياسية واقتصادية، منها تعاقد مصر على قرض روسي لإنشاء محطة الضبعة النووية، تبلغ قيمته 25 مليار دولار، في مدة لا تزيد عن 15 سنة، إضافة إلى منح الشركات الروسية حق الاستثمار في منطقة قناة السويس اللوجستية.

في المقابل فإن السيسي حاول مرارا وتكرارا أن يقوم بابتزاز الغرب من خلال علاقته بموسكو، وأنه قد يتحول في أي لحظة للمعسكر الشرقي الذي تمثله روسيا والصين، وإن كان هذا الأمر صعب التحقق لكن السيسي كان يرسل إشارات مختلفة بذلك. 

الأزمة الاقتصادية وأزمة سد النهضة

يعتبر السياح الروس والأوكرانيين من أكثر السياح الذين يقومون بزيارة مصر، حيث يمثلان ثلث إجمالي الزوار السنويين لمصر، وهذا يمثل دعما كبيرا لقطاع السياحة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وكما هو معروف فأن قطاعي السياحة وقناة السويس من أهم القطاعات التي تساهم في الدخل القومي المصري، وبالتالي خسارة السائح الروسي معناه خسارة أحد الروافد المهمة للعملة الأجنبية ولقطاع حيوي مثل قطاع السياحة.

في المقابل فإن مصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، تحديداً من روسيا وأوكرانيا، لذلك، تقوم الدولة بإدارة قضية القمح بحساسية مفرطة لما له من تأثير مباشر على استقرار النظام. فمن إجمالي 13 مليون طن من القمح استوردتها مصر خلال عام السوق 2020-2021، كانت روسيا أكبر مورد للبلاد حيث وردت 7.56 مليون طن، تليها أوكرانيا بـ 1.9 مليون طن، في حين كانت واردات القمح من الاتحاد الأوروبي أقل من 400000 طن. ومن هنا يفهم موقف النظام المصري من الأزمة الأوكرانية.

في المقابل فإن أزمة سد النهضة التي لازالت تشغل الرأي العام المصري تمثل أحد الملفات التي تسعي القاهرة لكسب الدعم الروسي فيها، فبالرغم من إعلان أديس أبابا مؤخرا تشغيل السد جزئيا فإن القاهرة لا تزال بحاجة إلى دعم غربي في دعم المفاوضات أو إعادة طرح الملف مجددا على المنظمات الدولية بعد أن بدت موسكو أقل تحمسا لمصر في هذا الشأن. ففي صيف العام الماضي عرقلت روسيا جهود مصر والسودان في جلسة لمجلس الأمن الدولي بشأن السد، ولاحقا أبرمت اتفاقا عسكريا مع إثيوبيا، وقد أثار هذا الموقف تساؤلات حينها حول مدى قدرة مصر على الاعتماد على مواقف روسيا في دعم قضاياها المصيرية. لقد أصبحت مصر بلا أوراق في أفريقيا، كما أن الدول الكبرى قد أدارت ظهرها بالفعل في قضية سد النهضة ودعمت أثيوبيا، وهذا الأمر مرتبط بتراجع دور مصر الإقليمي، وعدم قدرتها علي لعب دور محوري يجعلها صاحبة نفوذ كما كانت من قبل.

الأزمة الليبية والموقف من النظام السوري

كان من الممكن لمصر أن تلعب دورا مهما في الأزمة الليبية، وهو دور الحياد، لكنها فضلت الانخراط كطرف في الصراع، من خلال دعم أحد الأطراف علي طرف آخر، تابعة في ذلك للموقف الإماراتي والإسرائيلي اللذان يدعمان اللواء خليفة حفتر. في ذات الوقت فإن الطرف الروسي المتواجد في ليبيا من خلال  مرتزقة فاغنر الروس يقدم دعمه للجنرال خليفة حفتر. من هنا تقاطعت المصالح المصرية الروسية في الملف الليبي من خلال الاتفاق علي دعم نفس الطرف وهو اللواء حفتر.

لكن يمكن للحرب الأوكرانية أن تغير عددا من الحسابات علي أراض الواقع، حيث يمكنها إجبار موسكو على سحب مرتزقة فاغنر من ليبيا ، الأمر الذي يمثل فرصة لتمهيد الطريق نحو خروج المرتزقة، وبالتالي إعطاء مساحة للقاهرة لشغل الفراغ الذي سينتج عن سحب هؤلاء المرتزقة، لكن هذا الأمر سيتوقف علي امتلاك القاهرة لأوراق داخل الساحة الليبية، وقدرتها علي المناورة لتحقيق ذلك.

يبقي الموقف من النظام السوري أحد نقاط التوافق التي تجمع النظامين المصري والروسي، فالدعم الروسي المقدم لبشار الأسد منذ اللحظة الأولي معروف، والذي بدونه ما كان للأسد أن يبقي في السلطة حتي اليوم. كما أن كلا من القاهرة و أبوظبي تدعمان عودة النظام السوري إلي جامعة الدول العربية، وهو ما يفسر سبب قيام بشار الأسد منذ فترة زيارة أبوظبي في أول زيارة خارجية له منذ اندلاع الأزمة السورية.

وفي تطور مواز تلقي التحالفات الجديدة في المنطقة بين مصر وأبوظبي وإسرائيل بظلالها علي الأزمة السورية، فإسرائيل أيضا تتقاطع مصالحها مع روسيا داخل سوريا. فإسرائيل تقوم بالتنسيق مع روسيا قبل شن أي هجمات في العمق السوري أو تنفيذ أي عمل عسكري علي الأراضي السورية، وبالتالي هناك نوع من التفاهمات والتوافقات بين روسيا وإسرائيل في هذا الملف بالتحديد.

بنظرة شاملة فإن هذه الأسباب تشكل الدوافع التي تحكم موقف القاهرة من الحرب الروسية علي أوكرانيا، فالقاهرة تراهن على كسب ودّ المعسكر الغربي والمعسكر الروسي معا، لكن هذه السياسة يمكن أن تؤدي إلى خسارتهما عندما ينفض العالم الغبار الذي تراكم بسبب أزمة أوكرانيا وتحين لحظات الثواب والعقاب.

 

تقادم الخطيب

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022