الهاتف المحمول حكواتي العصر: اختفاء سوق الحكايات الباكستاني العريق بظهور الراديو والتلفزيون والإنترنت

يوماً بعد يوماً، يغرق الحكواتيون في باكستان في غياهب النسيان، إذ سَرَقت شبكات التواصل الاجتماعي المتحلقين حول رواة القصص هؤلاء، حتى باتت مهنتهم مجرّد قصة من نوع "كان يا ما كان في قديم الزمان".

يروي محمد نسيم بحماسة أسطورة ملك يدعى سيف الملوك، ويخبر عن مغامراته المشوّقة، فتارة تساعده قبعته السحرية ليصبح غير مرئي، وتارة أخرى يتخفى في جسم خروف، فيما يتيح له الكهف الغامض الهروب من شيطان غضب عليه لأنه فقأ له عينه فجعله أعور.

ويبتسم الرجال المتحلقون حول الراوي عندما يأتي على ذكر والدة البطل التي "كانت تتمتع بقوة خمسة وعشرين مصارعاً"، أو عندما يتناول عروس الملك التي "جعلت الرجال المختبئين للتلصص عليها يفقدون وعيهم لشدّة ما كان جمالها أخّاذاً". ولا يلبث جميع المستمعين أن يتفرقوا بانتهاء الرواية، وقد بدت علامات الرضى على وجوههم.

لكنّ الحكواتي الباكستاني ذا اللحية البيضاء كان مندهشاً من الاهتمام الذي أبداه الجمهور بقصصه يومها، وهو في رأيه عائد إلى المقابلة التي كانت تجريها وكالة فرانس برس معه. ويقول "عادة يقول لي الناس إنني مجنون عندما أروي هذه القصص".

وفي قريته شوغران التي يكسوها الثلج نظراً إلى وقوعها في منطقة جبلية مرتفعة في شمال باكستان، يؤكد نسيم (65 عاماً) أنه يعرف "خمسين أسطورة" تعلمها من والده ويمكن أن تستغرق روايتها "أياماً". وهو يصف هذه القصص بأنها "حقيقية"، مشدداً على أنها تشكّل "تاريخ باكستان وثقافتها".

لكن نسيم لم يعلّم أولاده الستة هذه الأساطير، ونادراً ما يرويها لأصدقائه الذين لم تعد تهمهم هذه القصص كثيراً في عصر "فيسبوك" و"إنستغرام". ويعلّق قائلاً "عندما أموت، ستموت هذه القصص معي"، واصفاً نفسه بأنه "آخر رواة القصص" في المنطقة.

على بعد ساعتين بالسيارة من شوغران، تقع بلدة ناران في جبال الهيمالايا بالقرب من بحيرة سيف الملوك. ويتقن المرشدون السياحيون المتدربون قصة الأمير والجنية، ويروونها للسياح العابرين مقابل مبلغ مالي زهيد.

لكن ناران وسيف الملوك هما الاستثناء. فرواة القصص الذين كانوا قبل نحو نصف قرن يتمتعون بشعبية كبيرة في باكستان، ينتقلون تدريجياً إلى عالم الصمت منذ ذلك الحين.

 

 

بيشاور، عاصمة ولاية خيبر بختونخوا في شمال باكستان، حيث تقع ناران وشوغران، هي المعقل التقليدي للحكواتيين. فمنذ القرن السادس عشر، قامت في المدينة "سوق الحكايات" أو باللغة المحلية "قصة خواني بازار"، على ما يفيد محمد علي الذي ساهم في وضع كتاب عن هذا الموضوع.

ويشير نعيم صافي، مستشار معهد التراث الشعبي الباكستاني "لوك فيرسا" في إسلام أباد، إلى أن هذه السوق التي تزيّنها أضواء النيون والمزدحمة بعربات الـ"توك توك"، كانت بالنسبة إلى المنطقة بمنزلة "تايم سكوير" في نيويورك، على ما يشرح صافي.

كانت بيشاور آنذاك محوراً للحركة التجارية في وسط آسيا وجنوبها. وكانت القوافل تتوقف بانتظام في المدينة التي تغلق بواباتها كل مساء. وكان التجار الذين يبيتون فيها يسعون إلى شيء من الترفيه، فيوفره لهم رواة القصص.

ويوضح صافي أن "الكتابة لم تكن شائعة جداً، وكانت المعرفة تُنقَل شفهياً. كان سرد القصص أمراً مهماً، فالناس كانوا يعتبرون أنفسهم متعلمين إذا سمعوا ما يكفي منها".

كان الرواة بمثابة "أدوات التواصل في ذلك الوقت. كانوا الرسل"، بحسب الباحث في التاريخ والأدب في جامعة بيشاور علي عويس القرني. بعضهم كان يروي أخطار الطرق وأخبار الحروب.

ويتابع القرني "عندما كانوا يروون أخباراً حقيقية، كانوا يضيفون إليها دائماً القليل من الشعر واللون". ويضيف أن "جمهورهم كان يستمع إليهم لساعات. وفي بعض الأحيان كانت الحكاية تستمر القصة لمدة أسبوع أو شهر".

ويتذكر خواجة صافر علي (75 عاما) شبابه في بيشاور والإثارة عندما كانت القوافل تصل. ويقول "كنا نركض (نهاراً) بين قوائم الجمال (...) وكنا نجلس جميعاً معاً (في المساء) ونستمع إلى الحكواتيين".

ويتابع "كانوا يخبروننا عن كابول والاتحاد السوفييتي وأوزبكستان. علمنا عن هذه البلدان من خلالهم".

لكنّ وسائل النقل الحديثة أحالت القوافل على التقاعد، فانقطعت عن بيشاور في أوائل ستينيات القرن العشرين. واستمر رواة القصص في حلقات أصغر، إذ استعيض عنهم شيئاً فشيئاً بأجهزة الراديو ثم بأجهزة التلفزيون.

ويلاحظ خواجة صافر علي أن "الحكواتيين انقرضوا، إذ لم يعد لدى الناس الوقت للاستماع إليهم، فضلاً عن أن لديهم اليوم هواتف محمولة وشبكات تواصل اجتماعي". ويضيف مشيراً إلى هاتفه المحمول "هذا هو الحكواتي في أيامنا".

ويقول "لقد باتت الطريقة الوحيدة لرؤية الحكواتيين هي ربما الذهاب إلى المقبرة". أ ف ب

 

[embed:render:embedded:node:42512]