لقد "استدركنا تأخرنا" عن فكر الجهاديين وشبكاتهم

حول منابع الإرهاب الإسلاموي في فرنسا وحديثه مع 80 جهاديا في السجون الفرنسية يتحدث الباحث هوغو ميشيرون، وأيضا حول محاكمة بدأت بعد 5.5 أعوام ضد متهمين بالضلوع في هجمات عام 2015 على صحيفة "شارلي إبدو" الساخرة ومتجر يهودي في باريس، مشيرا إلى صحوة فرنسية ولو متأخرة. حاورته ناديا بانتِل.

الكاتبة ، الكاتب: Nadia Pantel

في السابع من كانون الثاني/يناير 2015 اقتحم الإرهابيان الأخوان سعيد وشريف كواشي مكتب تحرير الصحيفة الأسبوعية الساخرة شارلي إيبدو في باريس وقتلا اثني عشر شخصًا.

وبعد يوم واحد، انطلق أميدي كوليبالي، وهو صديق الأخوين كواشي، للقيام بعمليته: ففي الثامن من كانون الثاني/يناير 2015 قتل شرطية رميًا بالرصاص في ضاحية مونروج بباريس، وفي التاسع من كانون الثاني/يناير اقتحم متجرًا لبيع المأكولات اليهودية (كوشر) يذهب إليه اليهود بشكل خاص. ثم قام بعملية احتجاز رهائن داخل المتجر، قتل فيها أربعة أشخاص.

بدأت في باريس -بعد خمسة أعوام ونصف على جرائم القتل هذه- محاكمةُ أربعة عشر شخصًا متَّهمين بالضلوع في الهجمات، أمَّا المهاجمون أنفسهم فقد قُتلوا أثناء عمليات للشرطة. يشارك في حضور المحاكمة الباحث السياسي هوغو ميشيرون، من أجل بحثه حول تطوُّر الشبكات الإرهابية في فرنسا.

صدر له في شهر كانون الثاني/يناير (2020) كتابه "الجهاد الفرنسي: الضواحي، سوريا، السجون" ("Le Jihadisme français. Quartiers, Syrie, Prisons"). نتج هذا الكتاب عن أطروحته للدكتوراه، التي أجرى خلالها حوارات في السجون الفرنسية مع ثمانين شخصًا أقرُّوا بأنَّهم جهاديون.

ما الذي تأمل في الحصول عليه بصفتك باحثًا سياسيًا من محاكمة شارلي إبدو؟ وماذا تعني أيَّام المحاكمة الخمسون القادمة بالنسبة للمجتمع الفرنسي؟

هوغو ميشيرون: بالإمكان رؤية مدى أهمية هذه المحاكمة أيضًا من خلال حقيقة أنَّه يتم تصويرها بالكامل وتتم أرشفتها، وهذا يحدث فقط لأنَّ المحاكمة باتت تُعتبر الآن تاريخية. أنا شخصيًا مهتم بفهم كيف تُرسِّخ الهياكل الجهادية نفسها محليًا. وكيف أصبح من الممكن اعتبار مثل هذا الفكر المتطرِّف طبيعيًا في بعض البيئات.

 

الباحث السياسي الفرنسي هوغو ميشيرون. (screenshot: YouTube)
مراقبة محاكمة المتَّهمين بالضلوع في الاعتداء على صحيفة شارلي إبدو عام 2015: صدر في شهر كانون الثاني/يناير 2020 كتاب الباحث السياسي هوغو ميشيرون الذي أجرى من أجله مقابلات مع ثمانين جهاديًا في داخل السجون الفرنسية.

 

هذه المحاكمة مهمة للشعب الفرنسي لأنَّها تبيِّن أنَّ الدولة هي سيدة الموقف من جديد. قبل خمسة أعوام كان الوضع وكأنَّ فرنسا قد أُصيبت في قلبها. فقد ظلّ الأخوان كواشي هاربين لثمان وأربعين ساعة بعد تنفيذهما الهجوم، وكانت الدولة تبدو عاجزة. ما من شكّ في أنَّ أحد أهداف الإرهابيين هو بالذات نشر الشعور بالارتباك والشلل.

تؤكِّد في كتابك على أنَّ الجهادية يجب عدم تفسيرها كظاهرة في الضواحي، أي أنَّها ليست نتيجة للفقر وانعدام الآفاق…

هوغو ميشيرون: بالتأكيد، فهذه النظرية القائلة بأنَّ الجهادية هي نتيجة عدم المساواة الاجتماعية هي نظرية خاطئة. ولكن هذه الفكرة يتم الدفاع عنها من قِبَل معسكرين في فرنسا: من قِبَل اليساريين الذين يريدون التقليل من حجم المشكلة، ومن قِبَل اليمينيين الذين ينشرون الهستيريا ويساوون الهجرة بالجريمة والمسلمين بالإسلاموية.

يرى معسكر المُنْكِرين أنَّ سبب سفر خمسة آلاف شخص من أوروبا إلى سوريا من أجل الالتحاق بتنظيم داعش يعود إلى معاناة المسلمين من التمييز والحرمان. وبالتالي يتم تفسير الاعتداءات على أنَّها انتقام من المجتمع الغربي. وفي المقابل، يعلن معسكر الهستيريين أنَّ كلَّ ضاحية فقيرة تعتبر معقلًا للسلفيين.

ولكن إذا أمعنّا النظر أكثر إلى الأماكن التي سافر منها الأشخاص الذين أرادوا القتال من أجل "الخلافة" في سوريا، فستظهر لنا جغرافيا خاصة تمامًا. توجد في الواقع عشرة أماكن فقط تم منها تجنيد القسم الأكبر من المُعتدين والجهاديين. تشمل هذه الأماكن الضواحي الباريسية وكذلك مدينة لونيل الصغيرة في جنوب فرنسا.

وفي الوقت نفسه لا توجد أية حالة سفر إلى سوريا انطلاقًا من ضواحي مرسيليا، التي تجمع من الناحية النظرية جميع عوامل التطرُّف المفترضة، أي: وجود أغلبية مسلمة وارتفاع معدَّلات البطالة. أنا لا أقول إنَّ التمييز الاجتماعي غير موجود. ولكن أقول إنَّه مجرَّد عامل واحد فقط من بين عوامل مختلفة.

ما هي العوامل الأخرى؟

هوغو ميشيرون: التلقين والدعاية. السلفية والجهادية لم تسقطا من السماء فجأةً إلى فرنسا، بل يتم نشرهما بنشاط. لقد تحدَّثت طويلًا -على سبيل المثال- مع أفراد من عائلة كلان في تولوز، وهم كاثوليك اعتنقوا الإسلام وأنشأوا عن عمد هيكلًا سلفيًا. يقول أفراد هذه الأسرة عن أنفسهم إنَّهم يجاهدون كلَّ يوم من أجل كسب مؤيِّدين جدد. وقد تم من أجل ذلك تأسيس نوادٍ وجمعيَّات رياضية وإقامة اتِّصالات مع دعاة متطرِّفين.

 

 

غالبًا ما يتم تصوير الإرهابيين الإسلامويين كمجانين، كأشخاص لا يعرفون بتاتًا في الحقيقة ماذا يفعلونه. حتى أفراد عائلة كلان تعرَّضوا في البداية للسخرية ضمن محيطهم. لكنهم أقنعوا أشخاصًا بأيديولوجيتهم. وعندما ذهب فابيان كلان إلى سوريا، تم قبوله على الفور داخل التسلسل الهرمي في تنظيم داعش فقد كان من الواضح أنَّ له نفوذًا في فرنسا.

أنت تصف كيف ظهرت هذه الشبكات في فرنسا من دون أن تتم ملاحظتها من قبل الناس. فكيف كان ذلك ممكنًا؟

هوغو ميشيرون: كان الهجوم على شارلي إبدو في عام 2015 مثل صحوة متأخرة. فجأةً اتَّضحت للعيان الهياكل الإسلاموية التي تطوَّرت خلال خمسة عشر عامًا. الجهاديون الأوائل، الذين بدأوا في نشر أفكارهم في فرنسا، كانوا مقاتلين قادمين من الحرب الأهلية الجزائرية ومن أفغانستان. كانت هذه مجموعات صغيرة جدًا تتكوَّن من ثلاثة أو أربعة أشخاص. ثم أصبحت محاولاتهم تجنيد جهاديين أسهل بعد الهجوم على مركز التجارة العالمي، لقد كان عام 2001 نقطة تحوُّل.

وفي فرنسا عمل هجوم محمد مراح على التسريع في إشعال النيران الأيديولوجية. قتل محمد مراح في عام 2012 بمدرسة يهودية في تولوز أربعة أشخاص كان من بينهم ثلاثة أطفال، وقتل قبل ذلك ثلاثة جنود. في تلك الفترة، تم اعتبار هذا الهجوم حادثًا منفردًا، ولكن في عام 2015 تم إدراك أنَّ سلسلة من الهجمات الإسلاموية قد بدأت.

ما هو دور السجون في ظهور الهياكل الإرهابية؟

هوغو ميشيرون: ينظر مجتمعنا إلى المكوث في السجن على أنَّه أكبر عقوبة ممكنة. ولكن الأمر ليس كذلك في المنطق الجهادي. حيث يتم تفسير عقوبة السجن على أنَّها اختبار من الله وفرصة لتثقيف النفس لأنَّ المسجون لديه الوقت من أجل القراءة.

الجهاديون الذين حاورتهم ينظرون إلى قضاء الوقت في السجن فرصةً للارتقاء فكريًا ضمن تسلسلهم الهرمي أيضًا. معظم الجهاديين المسجونين -الذين تحدَّثت إليهم- سيتم إطلاق سراحهم خلال العامين المقبلين. يقبع في السجون (الفرنسية) مئات من الأشخاص الذين يُعتبرون إسلامويين متطرِّفين.

كيف تتعامل السجونُ مع ذلك؟

هوغو ميشيرون: سجون فرنسا مكتظة بشكل كبير، ويوجد في بعض المؤسَّسات نحو ضعف عدد الأشخاص المحدَّد. وقد تم من عام 2014 إلى عام 2019 جمع العائدين من سوريا في السجون المكتظة للغاية في منطقة باريس الكبرى. وكان لذلك عواقب جسيمة. فقد تزعزع استقرار سجن فلوري-ميروجيز لدرجة أنَّ إدارة السجن كانت خائفة عدة أيَّام من فقدانها السيطرة على السجناء.

 

صورة رمزية لضاحية باريسية محرومة - فرنسا. (photo: picture-alliance/dpa)
أين تنمو بذور التطرُّف؟: "توجد في الواقع عشرة أماكن فقط تم منها تجنيد القسم الأكبر من المعتدين والجهاديين. تشمل هذه الأماكن مدن الضواحي الباريسية وكذلك مدينة لونيل الصغيرة في جنوب فرنسا. وفي الوقت نفسه لا توجد أية حالة سفر إلى سوريا انطلاقًا من ضواحي مرسيليا، التي تجمع من الناحية النظرية جميع عوامل التطرُّف المفترضة، أي: وجود أغلبية مسلمة وارتفاع معدَّلات البطالة"، مثلما يرى هوغو ميشيرون.

 

أنت تصف -فيما يتعلق بإجراءات الوقاية والحد من التطرُّف- من بين أمور أخرى كيف يجب على الإرهابيين المحكومين أن يداعبوا حيوان النمس من أجل إدراكهم لقيمة الحياة الفردية…

هوغو ميشيرون: لم أكتب هذا الكتاب بنية السخرية من تنفيذ العقوبات أو من الجهاديين. فهذا الموضوع أكثير جِديةً بكثير من ذلك. لكنني أردت أن أبيِّن من خلال مثال حيوان النمس هذا أنَّ هذه الوقاية والحدّ من التطرُّف غالبًا ما تجري بشكل خاطئ.

وذلك يعود لأسباب من بينها أنَّ نظام العقوبات يعتبر الأشخاص الأكثر خطورة هم من يقومون بتفجير قنبلة من دون ملاحظة أنَّ هناك سجناء غير ملفتين للنظر هدفهم تجنيد زملائهم في السجون. لقد تم تلقين كلّ من الأخوين كواشي وأميدي كوليبالي في السجن.

هل حدث بعض التحسُّن منذ ذلك الحين؟

هوغو ميشيرون: لم يعد يتم في هذه الأثناء حبس السجناء ذوي القناعات الإسلاموية معًا في أقسام مخصصة لهم؛ بل بات يتم توزيعهم الآن على أكثر من سبعين سجنًا. وأدَّى ذلك إلى تصحيح الوضع.

كشفت اعتداءات كانون الثاني/يناير 2015 عن شيء لم يتوقَّف بعد. فعدد الإرهابيين اليوم أكثر بكثير مما كان عليه في عام 2015. ولكن بالمقارنة مع ذلك الوقت فقد أصبحنا نمتاز الآن بكوننا نعلم كيف تعمل شبكاتهم وعلى ماذا تقوم أيديولوجيتهم. لقد استدركنا تأخُّرنا الفكري.

 

 

حاورته: ناديا بانتل

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ / موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

 

.........................................

طالع أيضا

‏ألمانيا تحاكم أنصار داعش وفق معايير القانون الدولي

دراسة: نصف جهاديي أوروبا الغربية الدواعش لهم ماضٍ جنائي

هكذا تلاحق أوروبا مجرمي الحرب السورية وتصطاد ضباط المخابرات السورية المتنكرين كلاجئين

هكذا يلاحق محققون ألمان مجرمي "داعش"

.........................................