النزعة الشعبوية...العنصر المهدد لمستقبل أوروبا

انخفاض قوة الأوروبيين الشرائية ليس العامل الوحيد الذي أجج النزعة الشعبوية الأوروبية. فقد استغلت الشعبوية اليمينية اللجوء والهجرة والهوية والجوانب الأمنية لإثارة الإسلاموفوبيا والعنصرية وكسب دعم الأوساط الشعبية. زكي العايدي يسلط الضوء في تحليله على عوامل تأجيج الموجة الثانية من الشعبوية اليمينية الأوروبية.

الكاتبة ، الكاتب: Zaki Laidi

أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في خطابه السنوي "حالة الاتحاد الأوروبي" في أيلول / سبتمبر 2017 أن الاتحاد الأوروبي بدأ ينتعش من جديد، وقال إن "الرياح تعود إلى أشرعة أوروبا". ولكن هل ستتمكن أشرعتها من دفع أوروبا إلى الأمام؟

من المؤكد أن اقتصاد أوروبا استعاد أخيرا النمو بعد عشر سنوات من الأزمة الاقتصادية العالمية - ونتيجة لذلك، أعاد بناء الثقة. ومن المرجح أن يعكس تفاؤل يونكر أيضا فوز إيمانويل ماكرون المؤيد لأوروبا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في العام الماضي 2017، حيث دافع السيد ماكرون عن الإصلاحات العميقة - بما في ذلك الاتحاد المصرفي، والاتحاد المالي، والميزانية الاتحادية - لتعزيز التكامل.

أوروبيون مقتنعون بأن نخب الاتحاد الأوروبي تفرض إرادتها عليهم

ومع ذلك، فإن الانتخابات الأخيرة في النمسا وألمانيا والجمهورية التشيكية تعكس مواقف مختلفة تماما: العنصر الذي يهدد مستقبل أوروبا، الشعبوية اليمينية، لا يزال قائما. وعلى الرغم من انتهاء الأزمة الاقتصادية، فإن جراحها لا تزال مستجدة. وأضحت الأسر من الطبقة المتوسطة والعاملة تتعافى من انخفاض قوتها الشرائية، وتذكر بوضوح كيف قامت البنوك - المدعومة من قبل الدولة - بخفض عرضها الائتماني. بالنسبة للكثيرين، يبدو الدرس واضحا: في أوروبا اليوم، يتم خصخصة المكاسب، ومشاركة الخسائر مع باقي المجتمع.

Matteo Salvini of the right-wing populist League during a campaign rally in Turin (photo: AP/picture-alliance)
A populist tsunami: following this week′s elections in Italy, Matteo Salvini′s right-wing League and the anti-European Five Star Movement are jostling for power. Leader of the Social Democrats Matteo Renzi announced he was stepping down following his party′s historic defeat at the polls. The election result was welcomed by populists across Europe. Nevertheless, who will ultimately end up governing Italy, with its wealth of economic problems, remains unclear

ويقنع هذا التقييم الناس أن النخب الاقتصادية والسياسية – مدعومة من الاتحاد الأوروبي - ستعمل دائما على دعم موقفها وفرض إرادتها على عامة الناس. وبدلا من دفع السياسات المعاكسة للتقلبات الدورية لاحتواء التباطؤ الاقتصادي في البلدان التي تعاني من المشاكل، يبدو أن الأخذ بتدابير التقشف يدعم هذا الانطباع.

ولتغيير هذا الانطباع، يحتاج قادة الاتحاد الأوروبي إلى تحديد الأسباب الأساسية للأزمة ووضع استراتيجية لمنع حدوث أزمة أخرى. وحتى الآن، لم يقوموا باتخاذ أي إجراءات تذكر، حيث اعتمدت مجموعتان رئيسيتان من البلدان تفسيرات متناقضة.

أوروبيون يشتكون من "عدم تضامن" الاتحاد الأوروبي

تضم المجموعة الأولى اليونان وإيطاليا وإلى حد ما فرنسا، التي تتهم الاتحاد الأوروبي بعدم التضامن. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن إيطاليا قبلت سياسة التقشف، لكنها لم تستفد من الانتعاش الاقتصادي القوي. وعلاوة على ذلك، تخشى البلاد قيام الاتحاد المصرفي بتخفيض مجاله للمناورة من أجل إصلاح نظامها المصرفي المنهار. ونظرا لأن فرنسا وألمانيا هما في صميم الاتحاد الأوروبي، فإن سمعة إيطاليا حتى داخل الاتحاد الأوروبي ليست جيدة.

كل هذا يولد الاستياء، وخاصة بين أولئك الذين يشعرون بالإهمال أو الخيانة من قبل أوروبا. والنتيجة هي أن إيطاليا، التي كانت دعامة رئيسية للاندماج الأوروبي، أصبحت الآن البلد الأكثر اشتباها في مزيد من الاندماج.

أوروبيون يرون أنهم "ضحايا التضامن في الاتحاد الأوروبي"

أما المجموعة الثانية - والتي تشمل بلدان مثل النمسا وهولندا - فتشكو من أمور مختلفة تماما. ويعتقد كثيرون في هذه البلدان أنهم ضحايا "التضامن الأوروبي"، على الرغم من أنهم عملوا بجد لتحقيق الرخاء المحلي. ونظرا إلى ذلك، فهم يميلون إلى الاعتقاد بأن أوروبا يجب أن تركز على تعميق السوق الواحدة، بدلا من تعميق التحالفات المالية والسياسية. وفي هذا الصدد، فإن مقاومة مزيد من التكامل تعزز القوة الداعمة للأحزاب الشعبوية.

عوامل تأجيج النزعة الشعبوية

لكن الاقتصاد ليس العامل الوحيد الذي يؤجج النزعة الشعبوية. هناك ثلاثة عوامل أخرى تساهم في ذلك، وأهمها بلا شك الهجرة. منذ عام 2015، وبسبب العدد الهائل من المهاجرين الوافدين إلى أوروبا، استفادت القوات الشعبوية اليمينية استفادة كاملة من انعدام الأمن العام المنسوب للمهاجرين وهويتهم، وحرضت الإسلاموفوبيا والعنصرية على كسب الدعم.

تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية. (photo: Getty Images/L. Neal)
Theresa May set out five tests for the future deal between the UK and the EU. She believes a broad and deep free trade agreement will be achievable and the EU referendum was a vote to "take control of our borders, laws and money" ... "not a vote for a distant relationship with our neighbours"

وعلى الرغم من أن التقسيم الاقتصادي في أوروبا يقوم على الحدود بين الشمال والجنوب، فإن الانقسام في قضايا الهجرة يشمل الشرق والغرب. وقد أدى تاريخ التغيرات الحدودية في أوروبا الوسطى والشرقية وإساءة استخدام القوى الكبرى إلى رصد الحدود الثقافية في صميم هويتها السياسية. غير أنهم يرفضون اليوم المهاجرين، كما يرفضون الوفاء بالتزاماتهم كدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي ويمتنعون عن قبول حصص المفوضية الأوروبية للاجئين.

الدخول القسري للاجئين يجعل عضوية الاتحاد الأوروبي غير جذابة

وبالنسبة للبلدان التي تهيمن عليها المجموعة العرقية نفسها بأغلبية ساحقة، فإن الدخول القسري للمهاجرين، على الرغم من أن عضوية الاتحاد الأوروبي تعني فوائد اقتصادية كبيرة، تكفي لجعل عضوية الاتحاد الأوروبي غير جذابة.

وثمة مصدر آخر للضغط على الاتحاد الأوروبي - هو بمثابة تأجيج محتمل للشعبوية - وهو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي حين أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي سيفرض تكاليف هائلة على المملكة المتحدة، فإن أعضاء الاتحاد الأوروبي المحبطين قد يعتبرون الآن وقع الخروج أكثر خطورة، وبالتالي أداة فعالة محتملة لمقاطعة السيادة الوطنية باسم عملية الاندماج.

لماذا الاتحاد الأوروبي يدين بولندا ويغض الطرف عن هنغاريا؟

وعلى الرغم من أن القوى الشعبوية قد تكون من أشد المدافعين عن هذه المقاومة، فإنها تتلقى دعما من المحافظين الأوروبيين. أدان الاتحاد الأوروبي الحكومة البولندية لنهجها سياسة القمع، لكنه يغض الطرف عن هنغاريا لأن الديمقراطيين الشبان التابعين لرئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان ينتمون إلى حزب الشعب الأوروبي، ولذلك فإنهم يستفيدون من حماية الديمقراطيين المسيحيين الألمان.

حمائية ترامب من عوامل تعزيز الشعبوية ولكن أيضا التضامن بأوروبا

والعامل الأخير الذي يعزز على الشعبوية الأوروبية هو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، الذي نادرا ما يخفي موقفه العدائي تجاه الاتحاد الأوروبي. وبطبيعة الحال، فإن النفور العام لترامب يمكن أن يصبح نوعا من التضامن داخل الاتحاد الأوروبي، وإذا كان لحمائية ترامب أو غيرها من السياسات تأثير مباشر على عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن دول الاتحاد الأوروبي لن تتردد في اتخاذ تدابير مضادة.

Symbol of the imminent trade war between the United States of America and the European Union through the imposition of punitive tariffs on steel and aluminum imports (source: Imago/Ralph Peters)
ترامب من عوامل تعزيز الشعبوية: يرى زكي العايدي أن العامل الأخير الذي يعزز على الشعبوية الأوروبية هو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، الذي نادرا ما يخفي موقفه العدائي تجاه الاتحاد الأوروبي. وبطبيعة الحال، فإن النفور العام لترامب يمكن أن يصبح نوعا من التضامن داخل الاتحاد الأوروبي، وإذا كان لحمائية ترامب أو غيرها من السياسات تأثير مباشر على عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن دول الاتحاد الأوروبي لن تتردد في اتخاذ تدابير مضادة.

وفي الوقت الراهن، يبدو أن الدول في أوروبا حريصة على التعامل بشكل فردي مع ترامب. والجدير بالذكر، أن ماكرون يريد اٍقامة اتصال مباشر مع ترامب لتعزيز مكانة فرنسا داخل أوروبا، أو على الساحة العالمية (ويُنتظر إعادة توزيع الأوراق لاستيعاب تأثير المملكة المتحدة السابق). وترى دول أخرى أن ترامب مصدر محتمل للحماية. كما يعتبره بعض زعماء أوروبا الوسطى والشرقية مصدرا للشرعية لبلوغ أهدافهم الشعبوية.

توسع الأحزاب الشعبوية والمنطقة الرمادية في الأحزاب الرئيسية

ونتيجة لذلك، فإن موجة الشعبوية في أوروبا لم تنته بعد. ومع ذلك، فمن غير الواضح مدى احتمال اجتياحها للاتحاد الأوروبي - موجة الشعبوية الأوروبية لن تختفي مع استمرار المنطقة الرمادية بين الأحزاب الرئيسية والأحزاب الشعبوية في التوسع.

 

 

 

زكي العايدي

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2018

 

 

ar.Qantara.de

زكي العايدي أستاذ في معهد باريس للدراسات السياسية ومستشار سياسي سابق لرئاسة الوزراء الفرنسية.